بقلم فرحات عثمان
تواجد جهلة “يتعولمون” ونزهاء “يتعلمون ” من أبرز ملامح مشاكلنا التي تتطلب عيادة سياسية اليوم…
إذا أردنا خلاصة لمشاكلنا السياسية حاليا، يمكننا القول أننا حيال إشكالين أساسيين : التواجد على الساحة العمومية لجهلة يتعولمون بمعنى اصطناع العلم، وذلك سواء في أمور الدنيا والدين، فينافقون فيهما، ونزهاء يتعلمون ونجهّلهم بجهالة المتعولمة سواء في أمور الدنيا والدين، جاهلين أن العالم الحقيقي هو الجاهل الذي لا يفتأ يتعلم، إذ أن العلم الصحيح، بما فيه علوم القرآن والحديث، هو الاجتهاد، بما في ذلك الخاطيء؛ لأن الأجر مضمون في الإسلام للمجتهد ما دامت النية حسنة غير فاسدة.
جهلة متعولمة تابعة
مثل هذا الاجتهاد بأجره أو أجريه الإثنين ليس لهؤلاء لأن نيتهم سيئة بما أنهم يوظفون الدين والسياسة لمصالحهم الدينياوية، فيتاجرون بقيم الإسلام ومباديء السياسة الفهيمة للمصالح الدنياوية وللأغراض السياسوية لهذا، ولأمور ذاك الخاصة، إذ لا يخدم إلا نفسه وخاصته، منافقا سواء بالدين أو بمصالح الشعب بينما لا سياسة حكيمة – أو فهيمة كما أسميها – إلا في تعادل المصالح.
فتعادل المصالح، أيا كانت القوى، هو أساس العدل، بما أن كل الأطراف السياسية في حاجة للآخر، هذا الغير المتمم للأنا، بما فيها القوى العظمى؛ بل وخاصة هذه القوى التي من واجبها إعطاء المثل لقدرتها المادية والمعنوية على ذلك.
دلك لأن قوّة هذه البلاد العظمى لم تكن وليست هي متواصلة إلا باستغلالها للبلاد الضعيفة، سواء في ثرواتها الطبيعية أو في هيمنتها على ذهن شعبها وعقلية نخبها بتنمية العقيدة في ضرورة تبعيتها للنموذج المفروض عليها والقبول به على أنه الأفضل رغم ثبوت خوره اليوم.
شبيبة مغرر بها :
أما من ننحو عليهم باللائمة على أنهم جهلة بينما هم نزهاء ولهم القدرة على التعلم، لو وجدوا القدوة الحسنة لقابليتهم إلى ذلك، فشبيبة مغرر بها؛ فصغر سنها وحداثة فكرها تجعلها لقمة سائغة لقراصنة السياسة وتجار الدين.
ذلك حال غالبية من االشباب الذين لهم حماسة سنهم والحق المشروع في التطلع للأفضل حتى يعيشوا حياتهم كما يجب؛ إلا أن جن السياسة و أبالسة الدين يستغلّون سذاجتهم فيغسلون دماغهم جاعلين منهم أدوات التصريف لمصالحهم وخدمتها أي خدمة، فإذا هم حطب نيران أباطيل العالم وغرور الدين وزهو الأخلاق وعُجب البلادة.
هذه هي الشبيبة التي تنزلق عامة إلى مسالك الإرهاب باسم مباديء ترفض في أساسها أي عنف أو إرهاب، إنما يقلب الأمور في عقلها مردة السياسة والدين، وهم الإرهابيون الحقيقيون، يتعاطون إرهابا ذهنيا.
من هذا الإرهاب المسكوت عنه ذلك الذي يجعل من الجهاد الأصغر أفضل التقوى بينما نحن نعلم أن زمن الجهاد المسلح انتهى مع قيام الدولة الإسلامية، تماما كما انتهت الهجرة. فلا يوجد اليوم فقهيا – إذا أردنا تثوير ديننا على قاعدة، أخذا بمقاصده – إلا الجهاد الأكبر، أي مجاهدة النفس لأعطاء المثل الأسنى؛ أفليس الرسول الأكرم بُعث لإتمام مكارم الأخلاق. فكيف يكون ذلك بدون إعطاء المثل والكف عن التظاهر والمراءاة والخيلاء والتفاهة والابتذال؟
تهافت مقولة تأخر الدول النامية :
هذا ملخص لمشاكلنا في مادتين لو حرصنا على التمعن فيهما، وخاصة في تداعياتهما على المتخيل الشعبي واللاوعي الجماعي، لتوصلنا دون أدنى شكل للخطو نحو تجاوز العديد من العقبات التي تجعلنا نشك في قدراتنا، رغم أنها جمة، على الخروج من أزمة مفتعلة هي أولا وقبل كل شيء كامنة في أدمغتنا، يحرص من يستغلنا على أن تبقى على حالها أبد الآبدين لضمان مصالحه واستغلاله لنا.
فلم يعد اليوم مجالا، لا من العلم ولا من الحكمة ولا من الأخلاق، لمواصلة الكلام عن تأخر الدول النامية، إذ هي فقط غير معروفة المعالم، مجهولة القدرة على الإبداع والاتيان بالجديد لما يُفرض على ساستها من ضرورة التبعية القصوى لمنظومة عالمية، سياسية واقتصادية ومالية ثبت إفلاسها بما لا يترك أي شك في حتمية انقراضها إذا لم يقع رفع ما فيها من حيف لشعوب البلاد التي ندّعيها متخلفة رغم أنها كانت متحضرة في زمن ما؛ بل وحتى حداثية قبل الأوان، كما كان الحال للحضارة العربية الإسلامية.
لا مجال اليوم إلا الحرص على التفكير في نظام عالمي جديد أو متجدد لتعويض النظام الحالي المتهافت؛ ولن يأتي هذا من عند بلاد الشمال الذي انتفع أي نفع بالنظام القديم. فليس للغرب ولا رغبة في تغيير الأمور لأجل نظام آخر من الأكيد أنه لن ينفع مصالحه بصفة تمامية كما هو الحال اليوم، ولو كان ذلك على حساب غالبية البشرية؛ بل حتى وإن كان في ذلك هلاكها. فنحن نعلم مدى عدم الاكتراث بلاد الشمال عموما بهذه الجوانب للمادية المهيمنة عليها، خاصة عندما تكون رأسمالية متوحشة كما هي الحال في الليبيرالية الجديدة حسب تجلياتها بالعالم الثالث اليوم.
المطالبة بنظام عالمي جديد :
لذا، من المتحتم علينا، خاصة منا أهل الفكر والسياسة، والدين بالأخص لما له من وقع في المجتمع، الجرأة على اقتراح ما من شأنه إخراج العالم من أزمته المفتعلة والتي فيها الضرر الكبّار لنا شعوب العالم الثالث، إذ الصغير هو دوما الذي يقاسي أولا من خور الكبير؛ فما يكون حاله عندما يكون بهذا الكبير بلاهة أو خرف ولا يدري بذلك؟
علينا إذن في تونس، انطلاقا من مخزوننا الحضاري وقيمنا الأخلاقية الفذة وتقاليدينا إذ عرفنا أن نتجذر فيها بحيوية وعضوية ذكية، المطالبة بكل جرأة، وعن أحقية، بإبطال ديون البلاد حتى نضمن لها فرصة النجاح في انتقالها السياسي بإعادة بناء اقتصادها، إذ لا حل غير ذلك إذا أردنا النزاهة وتركنا المداهنة والكذب والضحك على الأذقان.
علينا أن نعتقد ونبين للغرب أن هذا في صالحه قبل أن يكون في صالح بلادنا، إذ سلامة تونس لهي الضمان الأوكد لسلامة الغرب؛ وتونس في خطر داهم لإهدار ما أتى به انقلابها الشعبي من مكاسب.
وفي نفس هذا النطاق، علينا أيضا المطالبة سريعا بإقرار حرية التنقل للتونسيين، خاصة وأن الآلية لذلك متوفرة، ألا وهي تطوير نظام التأشيرة الحالي إلى تأشيرة مرور يتم تسليمها مجانا لمدة سنة قابلة للتجديد لكل من يطلبها من مواطنينا.
فبذلك، وبذلك فقط، نخلق صمام أمان يحفظ شبابنا، الذي برهن على نضجه، من الانزلاق للمهاوي والسفر لبؤر الفساد، إذ ما يحملهم على السقوط في فخ الإرهاب هو انعدام الأمل في مستقبلهم وفي حقهم في عيش أفضل؛ وذلك بلا شك من بين شروطه حرية التنقل في العالم.
دعم التأسيس لدولة القانون :
لنخلق إذن مساحة ديمقراطية متوسطية تساعد على فتح الحدود أما شباب بلد يسعى لإقامة دولة القانون. فهذا، ولا شك، يساعد على مداومة تأهيل قوانيننا الداخلية برفع كل ما فيها مخالف لحقوق الإنسان والإناسة. ذلك لأنه من البديهي الإسراع بإبطال كل القوانين الجزرية المجحفة في حق العباد، والشباب أول ضحاياها، مما بقي إلى اليوم من منظومة العهد البائد، بله الاحتلال الفرنسي، مما يخالف الدستور وتعاليم الإسلام الصحيحة، خاصة في حرية الحياة الخصوصية.
من ذلك، مثلا، إقرار المساواة في الميراث بين الجنسين، وإبطال تجريم المثلية، وإقرار حرية العلاقات الجنسية بين الراشدين خارج الزواج، وإبطال كل النصوص المجرّمة لاستهلاك وبيع الخمرة أو تجريم استهلاك القنب الهندي الذي ثبت أن ليس لهو مضرة المخدرات، إذ ضرر القنب الهندي حقا أقل بكثير من مضرة التبغ؛ وهذا مما صح علميا وعالميا.
بذلك نضمن نجاح النقلة النوعية التي نريدها لبلدنا ودوام سيرها الحثيث نحو الأفضل لأن شعبها الواعي لهو به أهل، فلا شك اليوم أن تونس لهي نموذج واستثناء في العالم، لا العربي فقط، بل والغربي أيضا، إذا تركت الشك والتشكك في نبوغ شعبها وتأصل الحضارة فيها منذ القدم. فهل هذا عصيّ على ساسة البلاد؟
شارك رأيك