بقلم فرحات عثمان
طالعتا الأنباء بنقض تونس خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب بالقاهرة لما أبرمته بتونس عند انعقاد اجتماع الوزراء العرب للشؤون الداخلية حول تصنيف الإرهاب .
فلئن كان موقفها نوعا ما حياديا ببلادنا، فقد انتفت منه تلك الحيادية بمصر؛ وهذا مما يؤسف عليه لأنه يخالف مباديء الديبلوماسية التونسية الحريصة دوما على التعلق بالسلام والشرعية الدولية والعمل على تقوية أسباب التفاهم والتسامح والتضامن بين الدول والشعوب.
فأين هم تونس المعتاد لإضفاء المزيد من العدل والديمقراطية والتوازن في العلاقات الدولية في انحيازها المكشوف هذا لموقف دون غيره في بلاد النيل، ألا وهو موقف العربية السعودية المناهض لحزب الله ومن يعاضده، وعلى رأسهم إيران والإسلام الشيعي ؟
الإرهاب يصنع الإرهاب :
إن تصنيف الإرهاب لهو الأمر الذي لا يسهل اليوم بتاتا مع هذه اللخبطة القيمية التي تمكنت من العقول فجعلت منه أولا وقبل كل شيء إرهابا ذهنيا يغذي الإرهاب المادي.
وقد لاحظنا صعوبة تعريف الإرهاب عند مناقشة قانون مقاومته في مجلس نواب الشعب، إذ صعب على المشرع تعريفه، فاكتفى بتعداد الحالات المتنوعة دون المخاطرة بتعريف دقيق علمي يكون نزيها. فكيف نسعى اليوم إلى ذلك، بقصره على منظمة وإن أجرمت؟ فنحن بهذا نخاطر بما يميّز سياستنا الخارجية من طرافة ونبوغ في حرصها المستدام على تطوير العلاقات الدولية في كنف الاحترام المتبادل والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى مع نصرة ثابتة القضايا العادلة. وذلك يقتضي النأي ببلدنا عن كل ما يمنعها من المساهمة بكل نزاهة في أي جهد صادق وعمل جدي، دون حسابات مسبقة، لخدمة السلم والأمن والاستقرار، مع الأخذ زوما بحقوق الإنسان وضرورة النهوض بها.
ثم إن الإرهاب لا يقتصر على المنظمات، بل يتجاوزها إلى الدول؛ وهو لا يتمثل فقط في الإفساد في الأرض بل نراه غالبا في هذا الفساد الذي يأتي به إفساد أكبر، إذ أن اللجوء للإرهاب من شأنه أن يكون من طرف من يدّعي بل ويعتقد حقيقة أحقية الدفاع عن حق مغتصب؛ فذلك عنده من باب ما قاله شاعرنا الخالد الشابي :
لا عدل إلا إذا تعادلت القوى | وتصادم الإرهاب بالإرهاب.
لذلك، أعتقد أن ثوابت الديبلوماسية التونسية غابت في قضية تصنيف حزب الله كمنطمة إرهابية. إن تونس بعدم التحرز في ذلك انحازت إلى موقف العربية السعودية في حربها مع إيران؛ فإذا هي تكفر بالإطار العام الذي تتحرك من خلاله ديبلوماسيته، أي أنها تخرج منه بالمعنى اللغوي للكفر؛ وهذا الإطار هو عملها المتواصل لخدمة مصالح تونسنا العليا بتعزيز علاقاتها مع كل الدول الشقيقة والصديقة بدون استثناء، مما يدعم حضورها ومصداقيتها على الساحتين الإقليمية والدولية.
لقد غابت المقاربة الشاملة والمتكاملة للعلاقات الدولية في القاهرة رغم أنها كانت حاضرة بتونس، إذ نسي ممثلنا بالجامعة العربية أو تناسي أن سياستنا الخارجية تقوم على الارتباط الوثيق بين السلم والأمن والاستقرار والتنمية والديمقراطية، مع الاستقلال التام في المساعي وتجلياتها.
إن تصنيف حزب الله كمنطمة إرهابية لا يخدم بتاتا السلم بقدر ما يخدم مصالح فئة من الدول ليست تسعى ضرورة له؛ لذا كان من الأفضل لتونس ألا تنحاز لمصالح البعض، لما فيها من مضرة لمصالح البعض الآخر، خدمة لحياد بلدنا ودون المس بمبادئها. ذلك لأنها كانت ولا زالت في تنمية العلاقات وتنويعها وتعزيز التعاون في مختلف المجالات مع فضاءات الانتماء على قاعدة تشابك هذه المصالح وحتمية الشراكة المتضامنة للحد بأقصى الجهد النزيه من عوامل التوتر والأزمات في العلاقات الدولية، ما من شأنه توفير المناخ الملائم المتحتّم لاستتباب السلم والأمن والاستقرار في العالم.
فعالمناا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة ماسة، خاصة في ربوعنا العربية الإسلامية، إلى تصحيح جذري للتوازنات؛ ولا يكون ذلك إلا بالعمل على العدل في هذه التوازنات المختلة على مستوى العلاقات الاقتصادية الدولية عامة، والعربية الإسلامية خاصة، بتعزيز الشراكة المتكاملة والمتضامنة بين الدول أيا كانت نزاعاتها السياسية وأضغانها الأيديلوجية.
في الإرهاب الخفي :
نحن ولا شك، في قضية منظمة حزب الله، أمام مجابهة للإرهاب بالإرهاب باسم التصدي للظلم والتسلط والتزمت من طرف من يرفض حق شعب بأكمله في الحياة حسب القانون الدولي. فالاكتفاء بتصنيف حزب الله إرهابيا يجعلنا نتهاون بذلك الحق، ساجنين أنفسنا في خانة المتسبب في هذه الإرهاب ومن لف لفه، بينما جرمهم أعظم، إذ هو أصل الداء ولا ذريعة له للجوء للإرهاب. فهل نغض النظر عن الفاعل الأصلي ونكتفي بالتنديد بمن خلقته سياسة اغتصاب وقهر وعدوان؟ عندها، نغض النظر ولا شك عن إرهاب خفي أعتى وأفسد من الأول!
ولا أعتقد أن هذا مما يتناغم مع روح السياسة الخارجية التونسية، بل ومع الروح التونسية الصرفة وخاصيات الذهنية، التي أساسها هذا الفكر التنويري الثوري في همه الجدي على الجرأة في إيجاد ما ينقص عالم اليوم من عدل ونصرة لكلمة العقل والسواء وقد تاجر بهما، كما أهدر الأخلاق، من همه مصالحه ولا شيء آخر.
إن تصنيف حزب الله كمنطمة إرهابية يقتضي تصنيف كل من يلجأ أيضا للإرهاب، بدءا بالدول؛ فهي لا تعدو أن تكون هذه المنظمات الرسمية التي واجبها إحقاق السلام وليس قلب حق استعمال العنف الشرعي إلى إرهاب؛ وإلا فلا شيء عندها بفصل بينها وبين تنظيمات الإجرام والإرهاب في العالم؛ ألم نعتد من الظلمة، ممن كان الحكم بأيديهم، تصنيف كل من قاوم لأجل حقه إرهابيا لا لشيء إلا لأنه رفض الحكم القائم لما فيه من ظلم؟ فهل نصنف المقاومة الفلسطيتنية أيضا إرهابا دون سحب التصنيف نفسه على المتسبب في هذه الإرهاب، أي زولة إسرائيل الرافضة للعودة إلى الشرعية الدولية القاضية بإحلال السلام بتقسيم الأمم المتحدة؟
إن تصنيف الإرهاب يقتضي أيضا، في ديننا وأخلاقنا، تجفيف منابعه، ألا وهي هذه الخدعة التي تجعل من جهاد أصيغر انتهى مع قيام الدولة الإسلامية جهادا مستداما، بينما لا جهاد اليوم في الإسلام إلا الجهاد الأكبر، وهو إعطاء المثل الأسنى؛ ولا شك أن هذا المثل يبدأ بكف اليد واللسان عن الغير كأفضل الأخذ بمكارم الأخلاق التي جاء الرسول لإتمامها.
هذا ما كان من واجب ديبلوماسيتنا قوله وفعله في قضية الحال حتى تبقى وفية لما يميّزها من الحرص على ضمان أبعاد سياستها الخارجية القائمة على الوفاء الكامل لمقومات هويتها العربية الإسلامية، إضافة للأمازيغية، ومقتضيات انتماءاتها المغاربية والعربية والإفريقية والمتوسطية، لما في تاريخية حضارتها من انفتاح على كل البلاد في العالم، خاصة جارتها القارة الأوروبية.
فبذلك يكون الدور النشيط لتونس التي لطالما تميزت به رغم صغر حجمها الجغرافي والديمغرافي ومحدودية ثرواتها الطبيعية، مما جعل منها، منذ بداية التاريخ في محيطها الجغراسياسي والجيوستراتيجي، هذا القطب المبدع المشع والأنموذج الفريد في تعايش الثقافات والحضارات، تعايشا حيا لما فيه من التجذر الحيوي.
من الضروري اليوم إذن أن تسعى تونس جادة في محو ما شاب من تذبذب سياستها الخارجببة منذ الثوة ولا تزال تداعيته تسيء إليها، حتى تعزز مكانتها ومصداقيتها على الساحتين الإقليمية والدولية كمثال للدولة المحبة للسلام، المتعلقة بالشرعية الدولية والدائبة على العمل على تنمية علاقاتها الخارجية. إذ لا يكون ذلك إلا في كنف الاحترام المتبادل والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ونصرة القضايا العادلة والمساهمة الدائمة في كل جهد وعمل جماعي لخدمة الأمن والاستقرار وتحقيق الرخاء والتقدم لفائدة الإنسانية طرا، لما في السلم والأمن والاستقرار والتنمية والديمقراطية من ترابط وثيق.
ولا غرو أن وجود ديبلوماسي محنك على رأس الوزارة، بعد تعدد التسميات على رأس وزارة السيادة هذه، من شأنه الخروج بسلام وبكل وقاو وهيبة من الأزمة الحالية للديبلوماسية فلا تفقد مصداقيتها معلية من جديد راية تونس، هذا الاستثناء العربي، بل والعالمي، في فترة أصبح ساسته يمشون على رؤوسهم فأصبحت فيه كلمة الحق باطلا.
شارك رأيك