بقلم أحمد بن مصطفى
تسارعت وتيرة المبادرات التشريعية الحكوميّة المندرجة في إطار ما يسمّى بالإصلاحات «الهيكليّة» المفروضة على تونس من المؤسسات المالية الدولية وآخرها القانون الأساسي الجديد المتعلق باستقلالية البنك المركزي .
وقد تمت المصادقة عليه بصعوبة في وقت قياسي من قبل مجلس نواب الشعب تحت ضغط السلطة التنفيذية باعتباره من الشروط الملحة المطلوبة لمنح تونس برنامج التمويلات الجديد من صندوق النقد الدولي البالغ 2,8مليار دولار.
والجدير بالذكر أن هذا القانون يحل محل قانون 1958 المحدث للبنك المركزي التونسي والذي شكّل، إلى جانب إحداث العملة الوطنية التونسية، من أبرز الخطوات التي اتخذتها تونس غداة الاستقلال لافتكاك سيادتها النقدية والمالية إزاء فرنسا التي كانت تسعى جاهدة لإبقاء تونس في منطقة الفرنك الفرنسي وذلك تكريسا لمفهوم «التكافل» أي التبعيّة الطوعيّة المتبادلة الوارد ذكره ببروتوكول الاستقلال الموقع في 20 مارس 1956.
و للتذكير لم تكن هذا البروتوكول إلا مجرد اعلان مبادئ باعتبار أن فرنسا لم تكن مستعدّة في الواقع للتفريط في مكانتها السياسية ولاقتصادية المهيمنة على كامل مفاصل الاقتصاد التونسي وبالتالي كان على دولة الاستقلال أن تعطي الأولوية المطلقة لتحقيق مقومات الاستقلال الحقيقي و منها السيادة الاقتصادية الوطنية إلى جانب تحرير الأرض وتحقيق الجلاء العسكري والزراعي. و من ابرز الخطوات الأخرى المسجلة في هذا المجال تأميم الأراضي الفلاحية وخدمات الكهرباء و الماء و النقل و التجارة و البنوك و غيرها من القطاعات الحيوية.
كما استعادت تونس قرارها السيادي في تحديد خياراتها و سياساتها الاقتصادية و ذلك باقرار التخطيط الاستراتيجي و المخططات التنموية الحكومية كمنوال للتنمية و تجسد ذلك في الافاق العشرية للتنمية لمرحلة الستينات التي بنيت على اساسها مرتكزات الدولة التونسية الحديثة. و من اهم المبادئ التي قامت عليها هذه الإستراتيجية التمويل الذاتي للمجهود التنموي والحفاظ على التوازنات المالية الكبرى وعدم اللجوء للاستثمارات و التداين الخارجي إلا في حدود القدرة علي التسديد و عدم الوقوع في التبعية المالية المضرة باستقلالية القرار الوطني.
أسباب عودة الهيمنة الاقتصادية الغربية على تونس
غير أن هذه المكاسب ظلت هشّة وقابلة للاختراق بسبب التراجع المبكر عن اولوية بناء اقتصاد وطني إنتاجي قائم على التصنيع وتحديث الفلاحة والحفاظ على التوازنات المالية الكبرى للدولة، وكان ذلك بالانخراط مطلع السبعينات في سياسة الانفتاح على الاستثمارات الخارجية وتحرير الاقتصاد كمحرك اساسي للتنمية. و قد تعزز هدا التوجه منذ ثلاثة عقود تحت تأثير ازمة الأزمة الاقتصادية و أزمة المديونية لمطلع الثمانينات.
كما أن اتفاقيات التبادل الحر غير المتكافئة المبرمة مع أوروبا منذ 1969، و منها خاصة اتفاقية 1995 للتبادل الحر للسلع الصناعية، وخضوع تونس للبرامج الإصلاحية لصندوق النقد الدولي منذ 1986، وانخراطها في العولمة الاقتصادية ساهم في إضعاف استقلاليتها الاقتصادية و ضاعف من تبعيتها للمديونية الخارجية مما ساعد فرنسا والاتحاد الأوروبي والكتلة الغربية عموما على تعزيز موقعها كشريك تجاري و مالي مهيمن على الاقتصاد و الاسواق التونسية وهو ما الحق الضرر البالغ بالنسيج الإنتاجي و الصناعي التونسي الذي كاد يندثر .
و لهذه الأسباب يخشى أن يؤدي اقرار اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق الجاري التفاوض حوله مع الاتحاد الاوروبي اضافة الى اللجوء مجددا منذ 2013 للقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي، الى إعادة بسط الوصاية الاقتصادية الغربية المطلقة على تونس من خلال السيطرة الاوروبية على بقية الانشطة الحساسة المستهدفة بالتحرير و منها خاصة الزراعة و الاراضي الفلاحية و الخدمات السابق ذكرها و التي تم استرجاعها بصعوبة مطلع الاستقلال.
وهذا ما يفسّر الضجة المحيطة بالقانون المتعلق باستقلالية البنك المركزي خاصة وانه تقلص من سلطة الدولة على هذا الجهاز الهام ويفتح المجال لتكريس التبعية المالية لتونس إزاء الخارج. و الملاحظ أن السنوات الخمس الأخيرة الموالية للثورة شهدت انحرافا واضحا عن المهام الأصلية الموكولة للبنك المركزي التونسي الذي أخفق خاصة في إعادة إحياء الحركية الاقتصادية وحسن إدارة المنظومة البنكية والمالية بما يحافظ على استقرار العملة الوطنية و التوازنات المالية الكبرى مما أدّى إلي ارتفاع مشط للأسعار وتدهور مستمر لنسبة النمو فضلا عن تضخم غير مسبوق للمديونية الخارجية.
وهكذا تضخّم الدور الموكول للبنك المركزي بعد الثورة وتحوّل واقعيا إلى المهندس الحقيقي للسياسة الاقتصادية والمالية وسياسة التداين المفرط المضر باستقلالية القرار الوطني بحكم ارتباطها بالقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي. كما تعددت مظاهر خضوع البنك المركزي للتأثيرات الخارجية ومن ذلك اشرافه سنة 2014 على اعداد “استراتيجية اعادة بناء تونس” بمشاركة سفير فرنسا و الاتحاد الاوروبي.
تكريس تبعيّة تونس للمديونية الخارجية واقتصاد السوق والتبادل الحر مع الغرب
في ظل هذه الأجواء كان من الطبيعي أن يثير القانون الجديد للبنك المركزي جدلا واسعا سيما وأنه يفرض “استقلالية” تامة للبنك المركزي عن مؤسسات الدولة بما فيها مجلس نواب الشعب والحكومة وذلك بحجة تحييده عن التاثيرات السياسية والحزبية. لكن الهدف الحقيقي لهذه الاستقلالية «المزيفة» هي ضرب إحدى ركائز السيادة الوطنية والعمل الديمقراطي وهي خضوع كافة مؤسسات الدولة دون استثناء إلى السلطة الرقابة والمحاسبية للهيئات المنتخبة لضمان انسجامها مع السياسات العامة للدولة.
كما سيقلّص هذا القانون من هامش الاقتراض المتاح للدولة من السوق الداخلية لكونه يمنع البنك المركزي من إقراض الدولة التونسية، كما كان ذلك متاحا في السابق بينما يجيز له إقراض البنوك الخاصة. وبالتالي ستصبح الدولة مضطرة للاستمرار في سياسة التداين المفرط من الخارج مما سيكرّس تبعيتها للمقرضين والمستثمرين الأجانب ومؤسسات النقد الدولي.ويتكامل هذا القانون في ذلك مع قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص ومشروع مجلة الاستثمارات الجديدة وغيرها من التدابير المتوقع فرضها على تونس مقابل برنامج القروض المشروطة الجديد المزمع إبرامه مع صندوق النقد الدولي وكذلك الشأن مع البنك الدولي.
وهكذا فإن تونس بصدد فقدان عنصرين أساسيين من مقومات السيادة الوطنية وهما القدرة علي إدارة منظومتها التشريعية بما يخدم أهدافها التنموية وكذلك مراجعة علاقاتها الخارجية والاتفاقيات الدولية القائمة مع شركائها الرئيسيين وفقا لما تقتضيه المصالح العليا لتونس التي تستدعي تعديل اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وعدم التسرّع في توسيع التبادل الحر إلى كافة فروع الاقتصاد بحكم الحصيلة السلبية لمنطقة التبادل الحر للسلع الصناعية وخاصة تسببها في خسارة بـ25 مليار دينار من المواد الديوانية مع إلحاق الضرر البالغ بنسيجنا الصناعي الوطني الذي كاد يندثر أمام المنافسة الأوروبية غير المتكافئة وكذلك منظومة التهريب والاقتصاد الموازي.
هذا إلى جانب انهيار التوازنات المالية الكبرى للدولة وتبعيتها الخانقة للتمويلات الخارجية لتغطية مصاريف التسيير والاستهلاك مما يضعف موقفها التفاوضي ويجعلها عاجزة عن مواجهة الضغوط المزدوجة لصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي الذي فرض على الحكومة، في ظل هذه الظروف الهشة، فتح المفاوضات الرامية لاستكمال منطقة التجارة الحرة وإدماج الاقتصاد التونسي في الفضاء الأوروبي من خلال اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق.
لماذا ترفض تونس العروض الاستثمارية الصينيّة؟
لكن الاخطر ان تونس فقدت على ما يبدو القدرة على تنويع شراكاتها الخارجبة بسبب سعي الجانب الاوروبي لإحتكار اسواقها و ابقائها في دائرة النفوذ الحصري الغربي و الاوروبي، و قد يفسر ذلك عدم تجاوب الحكومة، لأسباب غامضة وغير معلنة، مع عروض استثمارية مغرية تقدمت بها الصين الشعبية لتمويل مشروع بناء ميناء النفيضة للمياه العميقة بقيمة استثمارية تناهز 3،6 مليار دينار وكذلك مشاريع استثمارية مجدية في البنى التحتيّة من بينها تحديدا الطرق السريعة الرابطة بين قفصة والقصرين وخطي تونس الشمالية وتونس الجنوبية وخطوط للسكك الحديدية بالشمال الغربي والوسط والجنوب الغربي. وقد أتيحت لي فرصة الاطلاع على مراسلات وجهت من الجانب الصيني إلى رئيس الحكومة ووزير التنمية والتعاون الدولي وإلى وزراء آخرين ولكنها ظلت على ما يبدو بدون إجابة رغم الحجم الاستثماري الهام لهذه العروض.
وفي نفس السياق، يجدر التذكير بأن تونس عجزت عن توسيع دائرة التعاون والاقتراض الخارجي لتشمل كتلة البلدان الصاعدة ومن ذلك فشل مشروع حصول تونس على قرض من روسيا بقيمة 500 مليون أورو مع الإشارة إلى أن هذا المشروع أعلن عنه أثناء زيادة أداها إلى موسكو وزير الخارجية السابق المنجي الحامدي. كما لم يعرف مآل برامج التعاون المعلن عنها أثناء زيارة وزير الخارجية الروسي إلى تونس خلال شهر مارس 2014.
وتطرح هذه المؤشرات عن إخفاق محاولات إحياء التعاون مع الصين الشعبية وروسيا استفهامات عديدة حول مدى قدرة تونس على الاحتفاظ باستقلالية قرارها الاقتصادي ومدى قدرتها أيضا علي الاستفادة من التوازنات الجديدة على الساحة الدولية بفعل بروز كتلة البلدان الصاعدة كبديل للهيمنة الاقتصادية الغربية على العالم وعلى تونس.
و خلاصة القول ان تونس مدعوة الى مراجعة جذرية لسياستها الخارجية و الاقتصادية باتجاه استعادة القدرة على ادخال التوازنات المطلوبة على علاقاتها الخارجية و توظيف التحولات الاستراتيجية الدولية لخدمة مصالحها و تنويع شراكاتها و الخروج من دائرة الاستقطاب و التبعية الحصرية للغرب و للاتحاد الاوروبي.
*دبلوماسي سابق
شارك رأيك