بقلم فرحات عثمان
نحن على مشارف شهر رمضان المعظم، إذ لا يفصلنا عنه إلا الشهر أو أقل من شهر. وقد خصّصت الحكومة بعد مجلسا وزاريا للإستعداد له وذلك بالسهر على تزويد السوق بما يحتاجه.
فهل هذا هو الذي يجب من استعداد لأقدس شهر في ديننا ؟ وهل نقدّسه بالتشجيع على الاستهلاك فنجعله شهر التخمة لا العبادة الحقة ؟
في أن الإسلام حرّيات :
لا أحد من أهل الإسلام الصحيح يشكك في أنه لئن تميّز ديننا الحنيف بشيء يخصه ويّعلي من شأنه، وقد تهاوى اليوم قدره عند المسلمين فتهافت وتدعدش، فذلك بتقديس الإسلام لحرية العبد كاملة لا منقوصة.
إن العبد المؤمن الذي تحمّل أمانة اتقاء الله في الأرض لهو العبد الحر، التام الحرية، إذ لا واسطة بينه وبين الله ولا تسليم منه لغير الله في حياته؛ فهذه الحرية هي التي تدعّم عبوديته لله وحده لا لعباده، أيا كان شأنهم، إذ لا أصنام – ولو معنوية – في الدين القيّم.
وهذه الحرية المقدسة في الإسلام الصحيح هي في احترام تصرف العبد بكل حرية في كل ما يخصه بالحياة الدنيا؛ فلا عبودية منه لأحد غير الله، وهو العادل الذي لا يظلم أحدا من مخلوقاته، جعلها حرة حتى في الخطأ، إذ بذلك تزكّي حياتها، لأن بالغلط يأتي الإصلاح، وقد خُلق ابن آدم على عجل.
لا مرية أن اتقاء الله الصحيح هو في الإنابة بكل حرية وعن اقتناع صحيح – لعله يأتي بعد وقت وعلى مهل – من الخطأ إلى سواء السبيل. فليس هذا إلا في النية السليمة؛ ولا نية صادقة في الخوف والرهبة، إذ ذلك يشجّع على التزام التصرّف الشكلي المحض، وهو دون ريب من المداهنة والنفاق.
إن النية الصادقة لا تمنع البتة الغلط في حق الدين والناس، بل تستوجب، من ناحية المخطيء، المجاهدة الدائمة للنفس؛ ويكون ذلك بالعمل والخطأ معا، بما أن أفضل الانتصارات وأبهر النجاحات تأتي بعد أشنع الهزائم، لأنها الدرس الأفضل لتزكية النفس.
وهذا يأتي أيضا، من ناحية أخرى، بما تستوجبه النية الصادقة من المؤمن الصدوق، أي إعطاء المثل الأسنى في تقمّص مكارم الأخلاق. فلا رهبوت ولا جبروت في الأخذ بدين القيمة، بل بالاهتداء بالمثل الطيب حتى يتعلم العبد تزكية نفسه الأمارة بالسوء. ذلك أنه لا مناص من أن يغلط العبد، وقد علمنا أن الرسول نفسه لم يكن معصوما من الخطأ فعبس وتولى، مثلا، أن جاءه الأعمى !
لذا، فنحن بتونس، إذ نمنع من لا يبتغي الصوم في رمضان أو من يريد شرب الخمرة إن أراد ذلك لسنا نعمل بتاتا بالإسلام، لا بنصه الذي حث على الاجتهاد ومجاهدة النفس وأجاز من يغلط ونيته حسنة فأثابه مرة؛ وهذا لا يُستهان به من الله العادل.
كما نحن لا نعمل بروح الإسلام ومقاصده التي تقتضي حسن النية وابتغاء الأسنى في كل شيء، إلى حد تفضيل الغلط مع حسن النية على الصحة وفسادها. وهل أفضع من فساد النية عند من يريد إجبار الناس على الالتزام بتعاليم الدين العادل وقد خلقهم الله أحرارا؟
هل هم من الإسلام هؤلاء الفقهاء الذين يحكمون في رقاب الناس لحملهم على الدخول قسرا إلى جحيم جنّهم؟ أليسوا في نهاية الأمر، يحاكون كهنة وأحبار يهود وقساوسة وباباوات النصاري؟ ما بقي عندهم إذن من الإسلام الذي جاء مصححا ما سبقه ومهيمنا عليه ؟
كيف نجعل من دين الحريات، دين الإسلام السمح، ملة المراءاة والتظاهر الخادع وقمع التصرف الحر لمن له فيه الحق كاملا في عدم الصيام علنا وقد تعددت به لذلك الترخيصات شرعا؟ مع العلم أننا رأينا من السلف من كان يفعل ذلك اعتدادا بما في الإسلام من كفارات؛ فمتى لا يجب الاقتداء بما صح من السلف الصالح؟
في أن الصيام هو الامتناع عن الإساءة للغير :
إن الصيام، ولا شك، من قواعد الإسلام؛ إلا أنه يأتي بعد الصلاة؛ فهل نُجبر الناس عليها كما نفعله مع الصيام اليوم؟ هل نفرض غلق الحوانيت ونفرض الكف عن العمل لأداء الصلاة كما يفعل البعض ممن جهل دينه؟ وهل نفعل ذلك أيضا مع قاعدة أخرى أعلى مرتبة من الصوم، ألا وهي الزكاة؟ هل نسهر على أدائها كما نحن فاعلون في شهر الصيام؟
إنه لمن الخور ومن الإساءة للإسلام الصحيح فرض غلق المقاهي والمطاعم في رمضان، بل ومنع تجارة الخمر لمن لا يبتغي الصوم ويريد شربها، وذلك من حقه الذي يضمنه له ديننا الحنيف في قراءة صحيحة متحررة من الإسرائيليات التي تغلغلت فيه !
إن مثل هذا المنع الجائر مما يحرّمه الفهم الصحيح للإسلام الذي، كما نعلم، ما حرّم يوما الخمرة ولا تجارتها وهو دين الحريات كلها، لأن التحريم الإسلامي الصحيح في الخمرة هو للسكر لا غير، أي لتجاوز الحد في شرب الخمر.
ذلك لأن الله يترك للعبد حرية تمالك نفسه في نطاق مجاهدته لها، فيتصرف معه كراشد له عقل يحكّمه في تصرفاته، لا كغر قاصر، كما يفعل الفقهاء اليوم ليتحكّموا في الناس ويستعبدوهم، كما فعل أحبار يهود، بما لم يأت به الله ولا شرّعه.
فقد بيّن الإسلام بصراحة أن الخمر فيها منافع للناس، ولا مضرة فيها ما دامت لا تخامر العقل؛ لهذا أوجدها في الجنة لمن يعرف كيف يشربها بحكمة إسلامية فيها هذا التحكّم في النفس ونزعاتها الذي يدعو الله إليه وتقمصه أهل التصوف خير تقمّص، فتغلّبوا على نزغات أنفسهم.
هلا عدنا إذن إلى ديننا الصحيح بدون تشويه في رمضان هذه السنة الذي يأتي عما قريب، فابتعدنا بأمان عن دعدشته التي هي بعد في بعض العقول تمهّد لإرهاب فكري متزمت لا بد من مجابهته !
إن كل تشجيع لمثل هذ الفهم المتزمت، الغريب عن ديننا، بالاستكانة له وعدم مقاومته بتعلة خرافة المجتمع المحافظ، ليضر حقيقة بديننا ولا ينفعه لأنه يساعد على جعله ظلاميا بعد أن كان تنويريا، الشيء الذي مكّنه من خلق حضارة عالية كانت حداثة قبل الحداثة الغربية مهّدت لها.
في الاستعداد التقي لرمضان :
لهذا، لا يكون الاستعداد الإسلامي الحقيقي، الصادق التقوى، لرمضان هذه السنة بما نحرص فحسب على فعله اليوم، أي بالسهر على مظاهر مادية خادعة تضر بلب لباب الدين القيّم.
فلا خير في الاكتفاء بالسهر على تزويد السوق دون الحرص على ضمان حرية التجارة وحرية التصرف للعبد، وذلك بالمحافظة على نصوص قانونية باطلة يجب إلطالها دون تلكأ.
فهذه النصوص تنقض الحقوق والحريات الدستورية وتضر بالتجارة وحريتها المضمونة في الإسلام، كما تسيء بحرية العبد في حياته الخصوصة، إذ له أن يحيا حياته طليقا، لا كسارق لا بد له أن يختفي، بل كمؤمن له الحق في المجاهرة بما يعتقد لأن الإسلام دين الحريات !
إن الاستعداد التقي لرمضان ليكون أولا بالحث على العبادة الصادقة الصدوق؛ وليست هي إلا في غض النظر عما يفعله الغير، وكف اليد واللسان عن الإساءة لمن يخالفنا الرأي، لأن ذلك حقه ولأن في تعلقنا بالعروة الإسلامية الحقة، أي إحياء الحريات، التقوىة كل التقوية للتقوى، التي أسها النية الصادقة في العبد خالصة لخالقه لا لعباده نفاقا منه؛ فما كان الدين الإسلامي يوما مظاهر ومخادعة كما أصبح اليوم.
والاستعداد التقي لرمضان هذه السنة وكل سنة هو في إبطال كل ما يشينه من موانع تعتدى على حريات الناس في الشهر المقدّس من نصوص غير مشروعة، أغلبها استعمارية، أي أصلها العادات اليهودية المسيحية، جاءت لجعل الإسلام هذا الدين الظلامي الذي يُروّج له أعداؤه المسلمون الضالون ويساعدهم في ذلك أعداؤه الظالمون في الغرب وقد استفاقت فيه مردته من اليهودية المسيحية.
إن الاستعداد لرمضام حقيقي الإسلام اليوم بتونس ليتثمل في أن تتجرأ الحكومة هذه السنة على احترام دين الحنيفية المسلمة الصحيح فتطبّق الدستور بحذافيره بإقرار حرية التجارة في شهر رمضان الكريم وحرية عدم الصوم فيه علنا لا خفية لمن أراد ذلك، لأن الإسلام دين الصدق لا الكذب والمخاتلة. بهذا نشجّع حقيقة على الأخلاق الإسلامية، فلا نفسدها بتصرفات هوجاء تدك صرح الإسلام دكا كما نرى ذلك في شرق غوى وكما يسعى له البعض ممن مردوا على الإساءة لدين القيمة.
وإننا لننتظر ممن يدّعي المنافحة في بلدنا الحبيب من أهل الإسلام السياسي الكلام في الغرض وقد ناشدناهم عديد المرات، بمناسبة رمضان السنوات الفارطة وفي مناسبات أخرى، قول كلمة السواء في دين الحق؛ لأن ذلك من واجبهم الديني. فأين الحق في مخاتلتهم اليومية لأغراضهم الدينياية؟ هل ينفعهم هذا في أخراهم؟
للأسف، كان ولا يزال كلامنا الموجه لرب ساسة الإسلام السياسي في النافخات زمرا؛ إلا أن أملى يبقى أن يفيق من غيبوبته فيعرد له وعيه مع رمضان هذه السنة ليكف عن الإساءة للحنيفية المسلمة. ألا هل من هبة للضمير وعودة للوعي عند الشيخ راشد الغنوشي المحترم؟
لقد السيل بلف الزبى ولا بد من الانتصار للإسلام الصحيح ووضع حد لدعدشته في ربوع تونسنا الحبيبة التي يسهر على سلامة دينها أولياء وأبداء هم الآن على أرضها. ألا هل بّلغت ؟ اللهم فاشهد..
شارك رأيك