بقلم فرحات عثمان
تعقيبا على مقال الأخ الزميل سي أحمد بن مصطفى بخصوص اتفاقية التبادل الحر الكامل والمعمق «ألكا»،* أقول أن تحليله صائب لا محالة في التشخيص الموضوعي للوضع الحالي في علاقات تونس بالاتحاد الأوربي.
إلا أنه لا يأخذ بعين الاعتبار خاصية استراتيجية هامة من هذه العلاقة تجعل من عقد الاتفاقية المنتقدة، رغم نواقصها ومخاطرها، الشيء الذي لا محيد عنه لبلادنا، شاءت أو أبت.
فالاتحاد الأوربي اليوم، لعدة أسباب، لهو مثال الخليفة الفاطمي الذي قال فيه شاعرنا ابن هانى المنعوت بمتنبّي المغرب لبلاغة شعره وحكمة رأيه :
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار | فاحكم فأنت الواحد القهار
لذا، ومع تضامني الكامل مع ما يقوله الأخ الديبلوماسي المحنك، أبيّن في ما يلي، وباسمي الشخصي، ما يمكن أن يكون كأفضل حل للديبلوماسية التونسية اليوم للخروج ببلدنا من مأزق «ألكا» الحالي.
حرية تنقل البشر مع حرية تبادل البضاعات:
إن المهم اليوم ليس في التأسف على هذا الوضع أو التنديد به، إذ لا ينفع العقار في ما أفسده الدهر، إلا بعد حين في أحسن الظروف؛ ولات وقت تردد في محاولة تلافي الأمر بما يعين على هذا الإصلاح الذي يأتي بلا محالة في حينه لأن تونس لا تُعدم من الخبرات البررة في أبنائها.
كيف يمكن إذن لبلدنا أن يجعل من اتفاقية فيها كل الشر اتفاقية فيها بعض الخير مع أمل التوصّل إلى فرض هذا الحل الذي يناسب مصالح تونس دون الإضرار بمصالح الاتحاد الأوربي، بل أخذا بها وخدمة لها في الآني وعلى المدى الطويل؟
نحن نعلم أن السياسة الفهيمة والديبلوماسية الصائبة هي في مقاومة الخصم بسلاحه وحمله على ضرورة الاعتراف بما يفرضه منطقه. فما هو منطق أوربا في قضية الحال ؟
إن غاية الاتحاد الأوروبي، والغرب عامة، في ضرورة فتح البلاد التونسية على المنظومة الأوروبية ودمجها داخل الرأسمال العالمي في نطاق انتقالها الديمقراطي الذي لا يراه الغرب إلا من منظور النجاح في الانخراط في النظام الاقتصادي العالمي الحالي.
هل، واقعيا، من محيص عن ذلك لبلدنا؟ وهل يمكن لأوروبا نفي هذه الحقيقة؟ لذا، هذا ما يجب على الديبلومياسة التونسية الاعتماد عليه للمطالبة بفتح الاتفاقية المزمع عقدها أمام حرية تنقل البشر كما هي مفتوحة وستفتح أكثر أمام تبادل البضاعات.
فعلاوة على أننا بذلك نسعى حقا للتبادل الحر الكامل والمعمق، لا يمكن بداهة تجاهل أن الكمال والحرية من شأنهما عدم الاقتصار على الأبخس، أي البضاعة وما تنتجه من خيرات، فلا يهمان الأثمن، أي خالق هذه الخيرات، وهو الإنسان الذي يبقى أهم من البضاعة مهما على قدرها !
هذا إذن سلاح أخلاقي لا يمكن للاتحاد الأوربي رفض الأخذ به، خاصة وأنه يتدعّم بأدلة قانونية لا مجال لتجاهلها كما نبيّنه لاحقا. لذلك، فالرأي الحصيف هو أن تربط تونس عقد الاتفاقية الحالية بحرية تنقل البشر فتدعو إلى تغيير عنوانها ومضمونها لتصبح الاتفاقية لحرية التبادل والتنقل الكاملة والمعمقة أي «ألككا» بتكرار الكاف Alecca.
وطبعا، لن نتفاجىء إذا اعترض الاتحاد الأوربي مبدئيا على ذلك بدعوى أنه لا يمكنه رفع التأشيرة عن التونسيين لأنها من المقدسات الحالية في نظامه في التعامل مع الهجرة. إلا أن رده هذا لن يكون مقنعا، بما أنه قبل بعد برفع التأشيرة في علاقاته مع تركيا؛ فهل تركيا أقرب من تونس للإتحاد الأوربي ؟ وهل نكيل بمكيالين مع التبجح بخصوصية النموذج التونسي ودعم تنقله الديمقراطي الذي لا يطال كعبه المثال التركي مهما علا شأنه؟
من أجل تأشيرة مرور تسلّم مجانا للتونسيين:
نعم، سيقول الأوروبيون أن تركيا مرشّحة للدخول للاتحاد، إلا أن هذا لن يكون مقنعا بتاتا لأن الجغرافية اليوم لم تعد مرتهنة بالأرض، ولا مفهوم لها إلا من خلال اعتبارات أخرى جيوستراتيجية، ومنها التكامل التام بين المصالح وتشابكها؛ ولا شك أن هذا أقوى بين تونس وأوروبا مما نجد بين تركيا وأوروبا.
ثم تونس اليوم نجحت في قفزة هامة لأجل ترسيخ الديمقراطية لا بد أن تكتمل في نوعيتها، ولا يمكن ذلك إلا بتمام التناغم بين نظامها الاقتصادي والاجتماعي مع المنظومة الأوروبية، لأن جذور العوائق لنجاح هذا الانتقال لهي بالأساس خارجية ولأوروبا ومصالحها بتونس مسؤوليتها فيها بدون أدنى شك.
لهذا، إضافة لحرية التنقل للمواطنين التونسيين، تماما كما سيكون الحال قريبا بالنسبة للمواطنين الأتراك، لا بد من الاعلان عن التوجه الاستراتيجي نحو دخول تونس رسميا في الاتحاد الأوربي الذي تنتمي إليه بعد وذلك بصفة غير رسمية نظرا لما هناك من عضوية بين مصالح الطرفين.
مع العلم أن نظام حرية التنقل الذي يمكن لتونس بكل مشروعية المطالبة به لا يغيّر أي شيء بداية في النظام المعمول به اليوم، إذ هو لا يدعو بتاتا لإلغاء التأشيرة الحالية، بل يطالب فقط بتغيير طبيعتها من تأشيرة سياحية إلى تأشيرة مرور تُسلّم بصفة آلية لكل التونسيين مجّانا ولمدة سنة على الأقل قابلة للتجديد مع المحافظة على رفع البصمات.
ولا بد من الملاحظة هنا أن هذا النوع من التأشيرة معروف ومعمول به، إلا أن ذلك يتم بصفة محدودة، مما يخالف ضرورة التعويض اللازم لرفع البصمات الذي يُعتبر انتهاكا للسيادة التونسية وللقانون الدولي ويتطلب للمحافظة عليه ما يتناسب مع أهمية مثل هذا التنازل عن سيادته من جانب الطرف التونسي.
هذا، في رأيي الشخصي، ما باستطاعة الديبلوماسية التونسية المطالبة به والحصول عليه بدون شك إذا أرادت وسعت ألا تكون الاتفاقية الحالية مضرة كلها. فهل هناك الأمل في أن نرى السلط التونسية تربط ربطا عضويا لا تنازل عنه بين التبادل الحر والتنقل الحر؟
ذلك ما يفرضه العقل ويحتّمه المنطق، علاوة على مصالح لا تونس وحدها فحسب، بل أوروبا نفسها التي لا يمكن لها أن تواصل سياستها الحالية في التعامل مع موضوع الهجرة غير القانونية بصفة أثبتت خورها، بل أصبحت مطية للإجرام.
فالسياسة الأوروبية الحالية لا مصلحة فيها، إذ هي تشجّع الشباب الذي يُمنع من التنقل بحرية أو المقيم على أراضيها وله جنسيتها -انطلاقا من مبدأ التعاطف مع أبناء بجدته -، على العمل على مقاومة مثل هذا الازدرهاء لحقوق من حقوقه المشروعة، أي حرية التنقل. ولا شك أن الانتقال بالتأشيرة الحالية إلى تأشيرة المرور كما وصفناها ليس فيه أي مزيّة على البلاد التونسية وقد أثبت مواطنوها عن نضجهم، ولهم أن يستحقوا تثمين مثل هذا النضج.
ولنختم بالملاحظة أن كل الدراسات الجدية في ميدان التنقل البشري تجمع اليوم على أن غلق الحدود ونظام التأشيرة الحالي هما السبب الرئيس في الهجرة السرية وفي دعم الإرهاب.
فهلا تطالب تونس بصفة لا نقاش فيها بضرورة ربط التنقل الحر مع التباد الحر ؟ وليكن شعارها في نطاق المشاورات الحالية مع الاتحاد الأوروبي : لا تبادل حر بدون تنقل حر ! نعم لـــ«ألككا» Alecca.
…………….
* راجع : المخاطر المحدقة بالسيادة الاقتصادية التونسية
شارك رأيك