بقلم فرحات عثمان
لا أحد يشك في تعدد ظاهرة الإجرام الأخلاقي بتونس. إلا أنه لا يجب، كما يفعل البعض من المتهورين الطفيليين على الإعلام، التنديد بأسباب واهية، كما كان من أحدهم على قناة من واجب السلط أن تذكّرها بواجباتها الإعلامية والأخلاقية والقانونية.*
وما يقوله هؤلاء لهو من باب إذكاء النار بالمغالطة الفاحشة، إذ هم يجعلون من النتائج أسبابا فاعلة، وليست هي كذلك إلا في العقلية المدججة مركبات وعقد كعقليتهم.
الأسباب القانونية لانحطاط أخلاقنا :
إن الأسباب الحقيقية لما نعيشه اليوم ببلدنا لهي أبعد غورا مما تعتقده أحلام العصافير هذه وما يريد الاهتمام به من يتاجر بالإعلام جاعلا فيه من الحق باطلا.
إنها، أساسا، في هذا النشاز الذي نراه بين قوانيننا وواقعنا. ذلك لأننا لا زلنا تعيش تحت ظل قوانين عهد ظالم للناس في زمن أصبح فيه أي مواطن تونسي أقل خوفا من هذه القوانين وأكثر جرأة في البوح برفضه لها وأشد تحديا لها.
وبما أن هذا يتنزل في خانة الممنوع، نظرا لدوام القوانين المجحفة وتفشي العقلية التي أنتجتها في عقول البعض ممن أصبح لهم المجال الإعلامي فسيحا للكلام والاعتداد بقول الزور، فقد أصبحت الانتهاكات والجرائم الأخلاقية في نفس المستوى من الانحطاط.
هكذا إذن صرنا نرى ما لا تقبله أخلاقنا وقيمنا. فالسبب الأصلي في انحطاط الأخلاق بمجتمعنا لهو انحطاط القوانين الساهرة على الأخلاق؛ فنحن في وضعية المثل الشعي القائل إن حاميها حراميها!
انفصام شخصية التونسي :
إلا أنه لا يجب الغلط بتاتا والاعتقاد أن هذا جديد علينا. فتماما مثل الإرهاب المادي، ليس هو بالحديث المستحدث، إذ كان متواجدا في المجتمع في العهود السابقة، إلا أنه كان محدودا ومن المسكوت عليه نظرا لمقاومته الشرسة من طرف السلط تدعيما لنفوذها ولانعدام حرية الكلام والتصرف لدى عموم الشعب.
أما وقد تزعزعت قدرة السلطة على فرض هيبتها وقوانينها الظالمة في حق الناس، مع بقاء هذه القوانين ودوام الرغبة عند السلط الجديدة للانتفاع منها في قمع الجماهير، فقد أصبحنا نرى هذه الأخيرة تفتك حقوقها بالقوة مع الإجحاف والغلو، إذ هذا حال كل اغتصاب، حتى لحق مشروع.
وما دام المجتمع يعاني الكثير من مظاهر الانفصام في الشخصية من جراء ما كان يعيشة من قمع واستبداد، وخاصة لعدم قدرته على العيش الحر في أبسط مظاهر شخصيته، أي الغريزة الجنسية، فذلك أدى ويؤدّي إلى تفشي الجرائم المنكرة، كهذه الأخيرة التي أودت بروح طفل بريء.
لذا، للحد من هذه الجرائم الأخلاقية الفظيعة، لا بد بدءا من اعتبار أن ما فيها من منكر سببه غير المعترف به ما هو أنكر في القوانين المخزية التي تأصر حياة المجتمع. فعلينا إذن رفعها في أقرب وقت لحذف السند المعنوي لها في الأذهان والتنقيص بذلك من حدة الإرهاب الفكري والذهني والانفصام في شخصية التونسي.
دور المتخيل الشعبي واللاوعي الجماعي :
إنه لم يعد يخفى على أي أحد اليوم قيمة الأسباب في تفشي مظاهر الانحلال الأخلاقي الذي نعيشه، تلك الأسباب الموجودة في المتخيل والمتمثلة في رواسب سلبية، من ناحية، وفي اللاعي الجماعي، من ناحية أخرى، وهي العراقيل للقبول بالآخر المختلف.
وهذا يفرض تزكية قوانينيا برفع كل ما فيها من مشين في حقوق حريات العباد الخاصة حتى نتوصل لاحقا من إعادة التوازن الذهني للمواطنين والحصول على تصرفات منهم تكون أخلاقية حقا.
بذلك فقط نخرج من الأزمة الحالية التي لا نفعل شيئا حقيقة للحد من تفشي مظاهرها، بل نحن نزيدها تأزما بامتناعنا عن النظر للأمور بموضوعية والجرأة على إبطال القوانين لتغيير العقليات والحصول على مجتمع متسامح يقبل بعضعه البعض أيا كانت مشارب الآخر واختلافه.
فليس هذا بالمنعدم في مجتمعنا؛ إلا أن التراكمات للقوانين الباطلة وإفرازاتها اللاأخلاقية المتسربلة برداء الدين جعلت كل ما في عاداتنا من احترام للآخر المختلف وتقديس لحريته واحترام للغيرية تنعدم ظاهريا.
على أن علم النفس والإجتماع يؤكدان أنه لا يختفي تماما أي شيء في العقل الجماعي مما يكون الثابت النفسي فيه؛ وهو، في ما يخص التونسي، هذا التعلق بالحرية الشخصية الذاتية مع وقوفها عند حرية الآخر رغم اختلافه، بل وبسببه. فذاك ما نراه في الإسلام الشعبي، أي الصوفي.
الثابت النفسي في الشخصية التونسية :
إن سماحة المجتمع التونسي وتفتحه لهما من الثابت الذي أصبح اليوم تحت رماد التزمت؛ لذلك يتحتم دون لأي ودون مزيد من التردد رفع كل ما تراكم عليه من فهم خاطيء للدين وللأخلاق.
بذلك نستعيد هذا الثابت فنرجع للمجتمع التونسي رونقه؛ فتعود بذلك تونس مؤنسة كما هي أصلا، فيها يحلو العيش، لأن التونسي يحترم الآخر كل أخر مختلف في ما يميّزه أساسا، أي حبه للحياة؛ فهذا معنى قولة إن التونسي عياش.
ذلك ما يجب القيام به دون إفراط في التردد والتأخير نظرا للحالة المزرية من التردي التي أصبحنا عليها. فهلا قامت الحكومة أو النواب، في انتظار إبطالها الفعلي، بعرض مشروع قانون يقضي بالتجميد الحالي لتطبيق كل ما في قوانيننا من إخلالات بالحقوق والحريات المكرسة بالدستور وخاصة في ميدان الحريات الخصوصية؟
بهذا نعطي حقا إشارة هامة يكون فيها كل الخير للتصدي للانحلال الأخلاقي الحالي؛ لأنه لا مجتمع بدون أخلاق ولا أخلاق بدون حقوق وحريات. فإذا كانت الأمم الأخلاق ما بقيت فعلا، فليست هي أخلاق التزمت ومظاهر الإرهاب الذهني، بل هي مكارم احترام الغيرية في كل شيء لأجل عيش مشترك لا تشوبه شائبة.
………………………………………………
* انظر بالفرنسية : عندنا يغتال مقداد الماجري ثانية الطفل ياسين
شارك رأيك