بقلم فرحات عثمان
هذه خواطر عن المنصف المرزوقي لم أكن أسوقها لولا تماديه في النفاق السياسي، ولولا معرفتي الجيدة بحزبه القديم، حزب المؤتمر، الذي انضممت إليه بباريس لمدة وجيزة ما تجاوزت الأشهر الستة عندما كان المنصف المرزوفي يغالط الشعب، فيخدعه كما خدعني، ببلاغة كلام ما كان فيه حقيقية إلا التلبيس والتبليس، كما تبيّنت ذلك عن كثب.
لقد كان بارعا في المخادعة، مستعملا الذكاء الذي وهبه الله له في ما لا خير فيه، فنجح لفترة زالت أخيرا وانتهت بعد تمكين هذا السياسي المخادع الذي هو على هيأة القط المنتفخ غرورا من محاكاة الأسد في صولته. وطبعا، ما كان ذلك ليدوم، إذ يعلو الحق ولا يُعلى عليه؛ فعاد الهر إلى هيأته الأصلية حين أتت قسورة السياسة الحقة مبعثرة حساباته كما تبعثر الريح أوراق الخريف.
قيمة الأمثال الشعبية :
أسوق هذه الخواطر انطلاقا من مثل شعبي معروف. فللأمثال الشعبية الأهمية الكبرى في قوة التعبير عن المخيال الشعبي واللاوعي الجماعي لمن يريد النفاذ إلى هذا الكمون في ذات الكيان الاجتماعي والكلام عنه بكل موضوعية؛ فهو الذي يؤسس للتصرفات الفردية والتجليات العامة للشخصية.
ولنا في أمثالنا الشعبية ما يعرّي شخصيتنا من القناع الذي تفرض قوانين المجتمع المختلفة التسربل به، إذ هي المنفذ الأفضل للولوج إليها في خلوة حالتها الطبيعية، نراها على حقيقتها من خلال لاوعيها بواسطة الأمثلة المختزلة لحكمة شعبية عريقة.
ومن تلك الأمثلة هذا السائر البليغ الناصح لكل غرّير مغتر بنفسه انتظار موت كبار الحومة للتدجيل بدون رقيب. ولا شك أن مجال تطبيق هذا المثل اليوم لهو أكثر حدة من أي وقت مضى لكثرة الخداع والزيف في زمن أصبحت فيه كلمة الحق نشازا، بل فاحشة، حيال الباطل لشدة هيمنته على شاكلة الحقيقة بينما ليست هي إلا من خزعبلات الشياطين، سواء كان من جنة الدين أو السياسة.
لعبة المنصف المرزوقي السياسية :
لا شك أن الرئيس السابق للبلاد ممن مرد على هذا النفاق السياسي، إذ تقمّص دور الحقوقي المنافح عن الإناسة وعن حقوق الإنسان خير تقمص للوصول لأغراضه الشخصية. نعم، لقد أحسن إتقان هذا الدور الكذوب الشيء الذى مكّنه من بلوغ أعلى قمة الحكم في تونس محققا حلمه في حكمها.
لم يكن له غير هذا الحلم؛ إلا أنه أكثر من حلم، إذ هو من تلك العقد الذي تستحوذ على الشخص فستتعبده، مؤدية به إلى التسليم في كل شيء لأجلها، كالمدمن على بلية لا خلاص له منها.
فرغم بلوغه الحكم وحصوله على مبتغاه، الشيء الذي ما كان يحلم يوما، وعوض الاكتفاء به وبما وفّر له من سمعة خارج تونس، هوذا يواصل العمل على استعادة حكم خسره عن جدارة، محاولا استعمال نفس اللعبة السابقة؛ إلا أنه ما كل مرة تسلم الجرة.
لقد حصل المنصف المرزوقي على مبتغاه بأن عرف كيف يوظف للباطل كلمة الحق، وهي الدين وضرورة التمسك بعروته الوثقى تمسكا نزيها يعمل على التآلف المتحتم مع مقتضيات الزمن. كان هذا الباطل منه متمثلا في ألعوبة قراءة متزمتة للدين حولته من روحانيات سمحة متسامحة إلى ظلاميات ودعدشة.
إلا أن براعته مكّنته من النجاح في مغاطلة الناس، وكنت منهم، وفي الحصول على الدعم اللازم من أحد كبار الحومة، أي راشد الغنوشي، الذي كان حزبه في أشد الحاجة إلي دعم من حزب المنصف المرزوقي المتقمص خداعا دور اللائكي، وما كان يوما كذلك.
انصراف كبير الحومة عن السياسي الصغير :
بتلك اللعبة دخل المنصف المرزوقي قصر قرطاج فظن لتوّه أن خداعه أعلاه من قدر السياسي الصغير وأنه سيبقيه في الرئاسة. كان اعتقاده الساذج أن كبير الحومة الذي عقد معه تحالفا إستراتيجيا، كما كان يقول، بحاجة ماسة له على الدوام.
عقيدة المرزوقي المغتر بنفسه في تلك الأيام هي أن علاقته بالغنوشي علاقة وطيدة مما لا انكسار له؛ بهذا نسي ما يقوله المثل الشعبي الآخر أن للزمن طولا، فلا يغرّن أحداثة الآنية إلا من لا يعتد بالمقادير وحدها، إذ هي التي تدير دفة الأمور للحسن أو للسيء حسب كسب البشر. وكان كسب المنصف المرزوقي التلاعب بالمباديء !
فلما دارت الأيام، كما كان ذلك متحتما وبان بالمكشوف تلاعب النهضة في صدق نيتها لخدمة هذه البلاد وضرورة تغيير تحالفاتها مع القوة الصاعدة وكبير الحومة المتبقي، ظهر بصفة أوضح أن حزب المرزوقي سراب خلب، فسقطت عندها ورقة التين عن عورته.
وبما أنه لم تعد له أية فائدة، رأينا كيف رمى به كبير الحومة عرض الحائط ليبدأ مناورة جديدة مع كبير حومة في حجمه ومستواه أو لعله أعلى، لم يعد بالإمكان تجاهله.
في النزاهة السياسية والقناعة الأخلاقية :
ها هو المنصف المرزوقي إذن يبكي كالطفل الذي نُزعت منه لعبته فوجد نفسه بدون أي مغزى لحياته، أي هذا الحكم الذي لا يمكن له العيش بدونه.
هلا عاد له وعيه واعتزل السياسة بما أنه حقق حلمه في دخول قرطاج، ويكف عن سب من كان ولي نعمته في ذلك؟ هلا حرص على تصريف ذكائه وبراعته لتصحيح نظرته لنفسه وللأمور السياسية، إذ لا سياسة اليوم إلا أخلاقية !
وهلا اكتفى الرئيس السابق بما تحصل عليه في غفوة من الزمن وما حصل له من نظرة مغلوطة لدى الأجانب عنه وعن رئاسته، فتمعّن في السياسة محاولا منه تزكية نفسه والتكفير عن أخطائه؟
لم السعي للعودة إلى ساحة السياسة ومواصلة المداهنة وقد انفرط عقده وانكشفت أوراقه وتأكد فساد لعبته؟ فهيهات أن يعيد التاريخ نفسه بالصفة ذاتها !
ذلك أن مقولة المنصف المرزوقي، لئن صحّت على مستوى التحليل، في ما أسمّيه التجذر الحيوي، أي الأخذ بالإسلام الثقافي لا الشعائري، فهي لا تصدق إلا إذا حسنت النية وعملنا على تجسيدها بنزاهة ولصالح الشعب، لا من أجل عطش للنفوذ وجوع لامتيازاته وخزعبلاته.
هذا ما لم يكن بإمكان صاحبنا توفيره وما لا يمكنه الإتيان به؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، هيهات ! ليكتف إذن بما حصل له من خير بمشيئة الله ورحمته؛ ليكن قنوعا وإلا فرّط لا محالة فيه بجشع سياسي لا طائل منه !
شارك رأيك