يكتبها فرحات عثمان
يتزامن شهر الصوم هذه السنة مع امتحانات الباكالوريا وما يصاحبها من هوس حقيقي من جراء التعب والخوف وغير ذلك مما لا يجب العمل على الزيادة فيه بصوم لا يتوجب بتاتا على التلميذ في هذه الظروف.
لكن من الغريب والمؤسف حقا أن نسمع البعض من الفقهاء، ممن لم يتميّزوا ضرورة بالتزمت في أخذهم بالدين، يذهب إلى التأكيد على وجوب الصيام لتلاميذنا مما من شأنه الإضرار بهم والتنقيص من حظوظهم في النجاح في امتحاناتهم.
وبما أن لهؤلاء الفقهاء الصوت المسموع، فمن واجبهم حث تلاميذنا على التفرغ لامتحاناتهم وإفراغ كل قواهم إليها، مما يتطلب الإفطار، عوض تشجيعهم على إهدار طاقاتهم بتحتيم ضرورة الصوم عليهم. فهم بهذا يتنكرّون لسماحة الدين وما يتميّز به من تسهيل وتيسير وأخذ بكل عذر مقبول؛ فهل أقبل من عذر التلميذ الذي يُفرغ كل قواه للنجاح في الامتحان؟
لقد بيّنا في ما سبق أن الإسلام حريات، لذا نؤكد هنا أنه من حق التلميذ المنشغل بامتحاناته عدم الصوم؛ كما أنه من واجب الفقهاء التذكير بمثل هذه الحرية التي لاشيء يرفعها عن المؤمن المسلم. بذلك فقط لا ينقلب الفقيه مخادعا مغالطا الناس، فارضا رأيه، بينما العلم لله، إذ لا يأتي أهل الفقه إلا الاجتهاد في فهم الدين مع إمكانية الخطأ والإصابة. فهذا هو دين القيمة !
ليس على التلميذ الصوم بل ضمان النجاح في الامتحان
إن من يقول بضرورة الصوم للتلميذ ليظلم الناشئة والدين في نفس الوقت ! فعوض فهم الإسلام بعقل متفتح وتفهّم الوضعية النفسية والبدنية لفلذات أكبادنا، نراه في تأويله يناقض مقاصد الشريعة تمام المناقضة.
فالثابت في الإسلام سقوط الفريضة إذا حصل منها الضرر؛ وهو حاصل لا محالة للتلميذ الذي من واجبه أن يستعدّ تمام الاستعداد، ومن جميع النواحي، لامتحانه. ولا شك أن هذا يكون خاصة بتغذية بدنه بما يلزمه من أكل وشرب حتى يكون في أتم الجاهزية لاختباراته؛ إذ بدون ذلك يعرّض نفسه للتهلكة، لا المادية فقط، بل وأيضا المعنوية، أي الفشل في الامتحان.
هذا، وقد سجّلنا بعد في امتحانات الباكالوريا لهذه السنة بعض الحوادث المؤسفة من جراء الصيام؛ ولا شك أنها ما كانت تقع لو كان الفقهاء في مستوى مسؤليتهم.
لذا، لنبيّن مجدّدا أنه لا حرج على تلميذ الباكالوريا في الإفطار، لأنه كالمحارب، إذ ساحة الوغى هي الامتحان بالنسبة له. وبديهي أن فريضة الصوم لا تنسحب على المحارب. ثم على التلميذ أن يعرف حق المعرفة أن حقه في عدم الصوم للنجاح في امتحاناته هو أيضا مما يتوجبه له دينه؛ لأن الإسلام يسر لا عسر!
ليسعى إذن للنجاح بأفضل الوسائل التي يراها حسب ضميره؛ فإن كانت الإفطار، فليفطر ولا يظلم نفسه ولا دينه.
وليعلم حق العلم أن الإسلام يسمح صراحة بعدم الصوم لأعذار متنوعة، منها في حالة الحرب؛ ولا شك أن الامتحان ساحتها للتلميذ، كما سبق أن قلنا. لذا من حقه وواجبه عدم إهدار حظوظه في النجاح بأداء ما ليس من واجبه لسماح الدين له في ذلك بالرغم من مقولة بعض الفقهاء الفاقدين لأبسط حس بيداغوجي، علاوة على فهم غير صحيح للدين.
ليس على الفقيه فرض رأيه، فهو مجتهد يصيب ويخطىء
إن من واجب الفقهاء التذكير بأن حرية المؤمن ثابتة في دين الإسلام ثبوت كونه ختام الأديان؛ فهي تلازم كسب المسلم، وتبقى مطلقه لا يقيّدها إلا ضمير المؤمن وحسن نيته.
فلا شك أن الفقيه في الإسلام ليس له مكانة الحبر أو الكاهن اليهودي والأسقف أو القس المسيحي؛ إنه مجرد مؤمن كسائر المؤمنين، لا رجل دين؛ ذلك لأن الإسلام للجميع، فيه الكل سواسية لا يمتاز الواحد فيه على الآخر إلا بالتقوى؛ وهي ما سبق أن بيّنا.
لهذا، ليس اجتهاد الفقهاء إلا الفهم المجرّد من كل مشروعية، والرأي الذي يرونه ليس له قوة خاصة؛ ذلك لأن المرجع الوحيد في الإسلام هو القرآن وما صح من السنة لتأويله.
ثم إن اجتهاد الفقيه يقبل الصحة والغلط، كما قاله أصحاب المذاهب أنفسهم، وقد مثّلوا قمة الاجتهاد في علو كعب تأويلهم للدين والأخذ بتعاليمه في زمنهم. فهل للفقيه اليوم حق التبجح بامتلاك حقيقة ما ادّعاها قبله لا مالك ولا الشافعي ولا غيره من جلة الفقهاء؟
مع العلم أن لقب الشيخ الذي يفتخر بعضهم بحمله ليس له أية قيمة دينية، ولعله من باب المداهنة أو التمويه، بل الاحتيال، من بعضهم، إذ أصل اللقب درجة علمية ليس أغلب مشايخنا أهلا لها.
واجب الفقيه إذن أن ينصح بالأفضل من الدين حسب الأفضل الصالح للمؤمن، لا ما يتناغم مع مصالحه. وقد علمنا أنها اليوم في هذا الفهم المقيت للدين، رغم شدة تسامحه، لتفادي إغضاب أهل التزمت. فهؤلاء غدوا يرومون فرض فهم فاحش للدين سيقضي حتما عليه بدعدشة مستدامة لا بد أن يتصدى لها النزهاء من المسلمين، رافضين مسخ تعاليم الإسلام السمحة.
فهلا ذكّر الفقهاء والمشايخ من الصادقين بهذه الحقائق عوض فرض رأيهم وتأويلهم على الناس؟ فهل هم أعلم من الله؟ وكيف يصرفون حسب أوهوائهم ما تركه الله للمؤمنين يتصرّفون فيه حسب ضمائرهم فقط ما داموا يوحّدون الله؟
أليست مرجعيتهم الكتاب المقدس في كل ما يأتونه من مسخ للإسلام السمح المتسامح، أي تعاليم اليهودية والمسيحية، ما سُمّي في التاريخ بالإسرئيليات؟
ولنا عودة إليها لاحقا في هذه اليوميات حتى نعيد لديننا حقه، إذ ما نقول هنا لهو ملّتنا الحق، دين الحريات الشخصية كلها رغم أنف الفقهاء؛ ويبقي العلم لله وحده وليس لأحد، أيا كان؛ فالله أعلم.
شارك رأيك