يكتبها فرحات عثمان
بيّنا في اليومية السابقة معنى الأخلاق الحميدة الصحيح في الإسلام بالأمس واليوم والنشاز المتواجد في مجتمعنا بين النظرية الأخلاقية عند الفقهاء والنخب، من ناحية، والواقع المعاش الحالي والآني.
نواصل اليوم هذا الطرح لنختمه بالتطرق إلى الثابت الإسلامي في علوية الأخلاق بديننا وذلك من الناحيتين النظرية والفعلية، مع التذكير بما يخفيه الفقهاء أو يخفى عن البعض منهم من واقع الأخلاق الجريء حسب ما عرفناه وثبت من سنة الرسول الأكرم.
ذلك لأنه اعتدنا عموما الكلام في الأمر من منظار شكلي بحت متناسين الأصل، في هذه العادة البليدة فينا من النفاق الاجتماعي الذي وإن كان ضروريا في الحياة الجماعية فبالقدر الأقل كالملح في الطعام، فيه بنة المأكول بالنزر قليل منه وإلا أفسد الأكلة.
لقد استشرى مثل هذا النفاق عند الناس، خاصة أهل التزمت الذين يقفون بمعرفتهم للقرآن في عنوان سورة المنافقين، بما أنهم يجهلون أنه لا حياء في دين الإسلام، إذ لا رياء فيه ولا كذب ! وهذا من سمات الأخلاق الإسلامية.
الثابت الأخلاقي نظريا
المسلم اليوم ينسى أو يتناسى أن الذات البشرية تطغى أحيانا فتطلب دوما المزيد من كل شيء، حتى وإن كان في ذلك التشويه الفاحش الفظيع لما لا يكمن جماله إلا في الأفئدة. أمّا ما في القلب، ومنه الحب والإيمان، فلا تلحقه معرّة لقوة الإحساس به ورباطة الجأش في التمسك به، لا تزعزعه أعمال الشياطين من بني آدم، التي يسلّطها الله من حين لآخر لامتحان صدق نوايا المخلصين من عباده، غير المرائين ولا المخادعبن.
هذا، ولا تنعدم حقبة من الزمن من مثل هذا الرهط من شياطين الإنس؛ بل إن في وجوده ما يقوّي الدين ويزيد من محبة الناس له، فتؤلف قلوبهم سماحته والحريات التي يضمنها للمسلمين ليأتون إليه طواعية وبكل رحابة صدر. أما غير هؤلاء المسلمين النزهاء، من لا يأخذ إلا بإيمان الجوارح، فتعلّقه بأخلاق حميدة من مجرد النظرية. بل هي كالأصنام المعنوية عندهم، يتعاملون معها كما يتعامل الكافر مع أصنامه، لا يعيرون أهمية للمثال الذي يقدمونه في احترام هذه المباديء بقدر المجهود الذي يأتونه للذب عنها وعما في رأيهم يمس بقداستها.
ذلك أن الإسلام لا يخاف على نبل مبادئه وقدرتها على فرض نفسها بنفسها من باب تعلق المؤمن الحق بالأخلاق الحميدة وتفعيلها بتصرف فعلي لا مجرد احترام نظري. لذا، فبما أن أخلاقه الحميدة هي في قلب المؤمن الحق، فالإسلام لا يُضطر إلى فرضها بشوكة القانون على الناس وإن أمكنه ذلك؛ كما أنه لا يخاف أن تنهار دعائمه المتينة لمجرد تصرف أحمق أو عمل أخرق، فيجرّم مثل تلك الأعمال التي تبقي إما صبيانية وإما هلوسة.
خلافا لما رأيناه عند بني إسرائيل من يهود ونصارى، لا ينزل الإسلام أبدا من عليائه إلى المستوى الدني لمن حاول المساس بقداسته، وهو في ذلك لا يدّنس إلا نفسه؛ فليست دار الإسلام من بلور أو قوارير حتى نخاف عليها التهشيم بأبسط فعل أو قول.
هكذا كان السلف الصالح يرى دينه، لا يسرف فيه ولا يغلو عملا وقولا، فإذا امتحنه الله بوقوعه مثلا بين قوم جاهلين، صبر واصطبر ، وغض النظر عن الفسق حتى وإن أمكنه اللجوء للقوة لفرض الحق، لأن الحق يفرض نفسه في الإسلام. لذا كنا نراه يعمل ويجتهد حتى يعطي المثل على الأخلاق الحميدة، فيكون ذلك منه حقيقة الجهاد الأكبر في سبيل الدين الإسلامي السمح. لننصت مثلا إلى ما يقول الامام الشافعي في سفهاء قومه:
يخاطبني السفيه بكل حمق *** فاكره ان اكون له مجيبا
يزيد سفاهة فازيد حلما *** كعود زاده الاحراق طيبا
ولنصغ إلى عالم اللغة أبي عمرو بن العلاء وهو يحدد نوعية الأخلاق الحميدة الحقة التي تزين كل مسلم عرف حقا قدر دينه :
شاتمني عبد بني مسمع *** فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له *** ومن يعض الكلب إن عضا؟
لقد رأينا السلفية الحقة من أهل الأثر اتبعت الكتاب وسنة الرسول وأقوال الصحابة بذكاء وفطنة لا بجهالة؛ فلم تقتف الآثار كآثار، كأصنام وأنصاب لا تُمس ولا تُغيّر، بل اتبعتها كتشخيص لفكر وعلو مقاصد. لذا قبلت، إذا تغيرت الظروف واقتضت تعديل الأثر للحفاظ على روحه السنية، أن يكون ذلك جائزا حتى لا يصبح الأثر صنما لا نورا يُهتدى به.
لقد قيل، وصدق القول، أنه لا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها؛ ولا شك أن الذي أصلح أولها هو مباديء إسلامية كانت ثورية، متقدّمة على زمانها، فأخرجت العالم من الجهالة إلى النور. ولم يكن الإصلاح الذي جاء به الإسلام إلا الثورة على الجمود وجحود آلاء الله في نعمته على عباده بالعقل لأجل الاستنارة به في شؤون هذه الحياة الدنيا على هدي روح الدين ومقاصده لا على التقيد بنصوص أرادها الله فضلى لكونها تقدمية على الدوام، متدرجة في البيان وفي الأخذ بعلوم الآن.
الثابت الأخلاقي عمليّا
إن الإسلام لعلو كعبه ونبل رسالته لا يسطر أي خط أحمر لاحترام الناس له، لأنه لا يكتفي بعلوية أحكامه نظريا كما جرى العمل به في الأديان الأخرى؛ بل هو يرى، وحُق له ذلك، أن علوية الأخلاق الصحيحة هي في قلوب المؤمنين.
فواجب الإحترام لدين مثله، كوني التعاليم وعلميها، لهو واجب يفرضه العقل والتصرف الرصين ولا يتأتى فحسب من أمر الحاكم أو بأي سلطة قهرية أخرى. ذلك لأن الإسلام يضمن الحرية كاملة للإنسان بما أنه لا يدين بالعبودية إلا لله، والحرية التامة كما أرادها ديننا في جميع الميادين هي التي ترفع من قدر الإنسان الحامل للأمانة الإلاهية.
لذا، فإن أعظم الأخلاق الحميدة وأعلاها قدرا ليست تلك التي تفرضها شوكة الحاكم وشرطه، فليست هي شكلية لا تعبأ بحال البشرية اليومية، بل هي التي تجد في نفوس الناس الصدى والقبول الحسن بالعمل على الأخذ بها واحترامها بحذافيرها في حياتها اليومية بكل حسن نية ورغبة وحرية.
إن مصدر الإلزام في الأخلاق الإسلامية هو شعور الإنسان بأن الله يراقبه ويراه، وحتى إن لم يكن هو يراه، فخالقه دوما يراه. ولا شك أن الأخلاق إذا كان مصدرها أولا الضمير أو الإحساس بالواجب قبل أن يكون ذلك بالقوانين الملزمة أو بتجبّر الحاكم، فهي بحق المسلمة، المجتهدة في الأخذ بمبادئه.
لقد نادى الإسلام بمثل هذا الجهاد الجاعل تعاليمه تأخذ بمجامع القلوب أخذا فترى الناس من جراء ذلك تأتي إليه زرافات ووحدانا من كل حدب وصوب بطواعية دون عنف أو إكراه، في محيط كله حرية، لأن تمام الحرية من تمام الأخلاق، وكمال الأخلاق في حرية التصرف؛ فلا أخلاق حميدة ولا تصرفات صادقة إذا كان الخوف مصدرها والسيف حارسها، لا الوازع الأخلاقي فحسب، ولا شيء آخر!
هذ، ولم يكن المسلم الحق يزدري ما حسن عند قوم من غير ملته، فينتقي منها الأحسن يضيفه إلى مكارم أخلاقه فتكون صالحة لكل زمان ومكان لتطورها الدائم وشديد تعلقها بالواقع المعاش. ذلك أن الله يهدي من يشاء؛ ثم لأنه من سماحة الإسلام وتأسيسه للحرية الإنسانية أن لا مفر لغير المسلم أن يصبح مسلما طال الزمن أو قصر، ولكن ليس ذلك عسفا وقهرا، بل بمحض اختياره وتمام حريته حبا وتقديرا لدين يحمي كامل الحريات الذاتية للإنسان ببقائه المثل الأعلى لكل الأديان وتكريسه لأعلى وأفضل منظومة أخلاقية أخذ بها كل من تحضر من بني آدم.
أما إذا غيّرنا ما يميّز هذا الدين وتأسّينا بما كان من هوج المتزمتين وهلوستهم فحاولنا – تماما مثل ما كان يفعل الرهبان والقساوسة وما يفعله اليوم أهل السلف والوهابية والداعشية – فرض تعاليم الإسلام على الناس بقوة، فضيّقنا من حرية المعتقد والرأي والإبداع وقيّدنا الحرية الشخصية، لعملنا ولا شك على انفضاض الناس عن ديننا آجلا، إن لم يكن عاجلا، عوض التشجيع للدخول فيه، وقد كان ولا يزال عزيزا بالتوافد المستمر عليه من المهتدين للحنيفية المسلمة.
لذا فالمسلم الذي يتجاهل ذلك لفي غي، لا همّ له إلا تتبع غي غيره؛ ولعل في ذلك منه مراوغة حتى لا يُحاسب نفسه على هناتها بالانشغال بمحاسبة هناة غيره؛ ولربما يداري كفره بكفر غيره ! لذلك، فالتحلي بالأخلاق الحميدة فعليا والابتعاد عن الأفعال الرذيلة مدارها أولا وقل كل شيء النفس الانسانية التي لا يسهر على كبح جماحها إلا صاحبها بوازعه الأخلاقي حتى وإن كان في تصرفه ما يُعاب.
ولا شك أن لنا في كل هذا من السلف والرسول الأكرم أعلى المثل وأفضل القدوة. فلقد جاء ليتمم مكارم الأخلاق لمكانها الحقيقي في نفوس الناس أجمعين، إذ غاية الإسلام أن تتعامل البشرية جمعاء بقانون حسن الخلق الحر المتحرّر، لأنه نابع من النفس والنية الصافية، فليس فوقه قانون.
الجرأة الأخلاقية عند الرسول والسلف
الأخلاق الصحيحة، علاوة على صدق السريرة، هي إذن في القبول بالأمور كما هي، دون حياء مصطنع أو تملّق ظاهري أو بهتان. لتبيان ذلك، نأخذ نماذج حية من السنة السنيّة تبيّن مدى انفصام شخصيتنا اليوم، إذ أننا نجرّم عند البعض منا وفي المجتمع ما لم يكن مرفوضا عند سلفنا الصالح وعلى رأسه الرسول الكريم.
مثال ذلك الفعل العربي القح «ناك»، والمصدر منه «النيك»، مما نرميه بالبذاءة اليوم بينما استعمله السلف دون أي حرج، ومنهم حبر الأمة عبد الله ابن عباس الذي تزخر كتب الفقه والأدب بذكر البيت الذي كان يردده في حجاته إلى البيت العتيق:
وهن يمشين بنا هميسا *** ان تصدق الطير ننك لميسا
هذا وقد كتب العديد من الفقهاء الأجلاء في مواضيع الجنس وما يتعلق به بدون أي حرج، كما عنون الإمام السيوطي إحد مصنفاته هكذا : «نواضر الأيك في فوائد النيك».
إن ذكر العورة والكلام المتعلق بالجنس، وهو ما يكثر في شوارعنا فيُعد من أفحش الفاحشة والتدنّي للأخلاق، ليس مما يمنعه دين الإسلام بما أنه دين ودنيا؛ بل حتى العراء لم يكن ممنوعا قبل تغلغل الإسرائيليات في دين الإسلام. فالحج الإسلامي الأول تم على الطريقة العربية المعهودة، أي مع حجيج عراة، نسوة ورجالا.
لشرح فلسفة عدم التحرّج في مثل هذه المواضيع، بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ما يلي: « من العلماء من قال: إنَّ هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة، وليس من الفحش المنهى عنه».
ومما يّذكر عن الرسول الأكرم أنه استعمل بنفسه مثل هذه العبارات التي نندّد بها اليوم ويندى منا الجبين؛ كما أنه لم يمنع أصحابه من استعمالها، حتى من لم يكن يفعل ذلك لأخلاقه اليهودية التي كانت متزمتة في المسائل الدينية، هذا الذي بقي عند البعض من متزمتينا اليوم، يهود الإسلام.
فقد رُوي عن أبي بن كعب، الصحابي الجليل، أنه سُمع، على غير عادته قبل أن يسلم، يتلفظ بشتائم من هذا القبيل : « أعضض بأير أبيك» أو «أعضك الله بأير أبيك» «وأعضض بـظر أمك». وهذا يحاكي ما نسمعه اليوم من شتائم بشوارعنا، إذ الأير هو العضو الذكري للرجل والبظر هوالعضو الجنسي للمرأة.
ولما أنحى البعض باللوم على أبي، أجاب ما يلي حسب ما ذكرته الرواة : «عن أبيّ رضي الله عنه أن رجلا اعتزى فأعضه أبي بهن أبيه فقالوا : ما كنت فاحشا قال : إنا أُمرنا بذلك. والهن بمعنى الفرج.».
ولا غرابة في ذلك إذ مما رُوي عن النبي الكريم ما يلي : « لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لعلك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت. قال : لا، يا رسول الله، قال : أنكتها. لا يكني، قال : فعند ذلك أمر برجمه» (أخرجه البخاري وأحمد والألباني، عن عبدالله بن عباس).
ولنذكر أيضا ما يُروى عن أكبر الصحابة قدرا، الخليفة الأول، إذ كان استعمل مثل الكلام الشعبي الذي نعتبره اليوم من البذاءة ونجرّمه : «امصص بـبـظـر اللات» (ذكره البخاري). والحال نفسها عند الخليفة الثاني عمر الفاروق : «أعضك الله بـبـظـر أمك» (ذُكر في كنز العمال).
وليس هذا مما يُذكر عن السنة فحسب، بل كان متفشيا أيضا عند أهل البيت؛ من ذلك ما يُروى عن الحسين بن علي بن أبي طالب في حديث له يخص أحد بني أمية : «أكلت بـظـر أمك إن لم تبلغه عني ما أقول له » (المطالب العالية للعسقلاني).
كل هذا لبيان أن الفقه الإسلامي لا يعرف التزمت؛ ألم نقل أنه لا حياء في دين الإسلام؟ فلا شك أن كتب الفقه لهي أكثر جرأة من العديد مما نرميه اليوم بالفحش في ما يُكتب ويُنشر. فإلى متى نقبل من قلة ضالة، متزمتة، داعشية إفساد إسلامنا المتسامح الجريء بتسلطها على حريات الناس؟ إنها حقا فئة قليلة ضالة ببلدنا، لا يجب بتاتا أن نغتر بادعائها تمثيل الإسلام، لأنها غوت، وهي لا تبدو كثيرة إلا بالعنف الذي تمارسه ماديا ومعنويا مع السكوت المخزي لمن واجبه قول الحق ولو على نفسه.
التسامح لب الأخلاق الإسلامية
لو أردنا اختزال الأخلاق الإسلامية، لا بد إذن من تلخيصها بالمبدأ الهام الذي هو التسامح. أما من يجهل ما لدينه من قدسية لما فيه من هذا التسامح الذي لا حد له والدعم الأكبر للحريات العامة، فلا يفتأ يحاول تزويق ذاك الجمال بالإفراط في حمايته بينما هو في الحقيقة يشينه.
إنه في هذا، في أفضل الحالات، كالأم الحنون التي تبتغي ولا شك حماية طفلها مبالغة إلى حد خنق نموه الطبيعي، تحرمه من نشأة سليمة تجعل منه ذلك القاصر الذي لا قدرة له ولا قوة لأجل ما بالغت فيه من الإحاطة والرعاية التي كان منها الغلو والشطط؛ ومن الحب الجارف ما قتل!
التسامح الإسلامي ليس فقط من أركان الأخلاق الحميدة وبه تكتمل شخصية المسلم، بل هو قمة تلك الأخلاق ! فبالتسامح يكون المؤمن متصالحا مع نفسه ومع غيره، لا حرب عشواء قائمة بينه وبين ذاته وبينه وبين غيره. فالله يقول: «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (فصلت 34)، ويقول أيضا «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم» (النور 22)، وأيضا «ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور»(الشورى 43).
إن التسامح في سماحته مطلب حضاري وإنساني، فلابد منه في كل أمر نقوم به، خاصة في الأخلاق الحميدة التي نتشبث بها ونعيش على هديها. فإذا كانت الشدة في أخذ الحق وفي الأمر بالدين أو في الدعوة إلى الله أو الغيرة على شريعته هو من المطلوب والمستحب والمندوب، فلا شك أن نتيجة كل ذلك تنقلب إلى عكس ما نبتغي فندين بتصرفنا ما كنا ندعو إليه من خير إذ نقلبه شرا بتشددنا في طلبه واستخدامنا الأسلوب القمعي من أمر ونهي وغلظة وعنف. ألم يقل تعالى : «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» (النحل 125)؟
هذا، والحكمة هي ضالة المؤمن في عصرنا الحاضر، تُطلب بكل رفق ولين وسماحة وتسامح من كل مكان، خاصة عند من كان في ركب الحضارة حتى لا يتخلف الإسلام عنه. هذه أخلاق نبينا الكريم في الدفاع عن مباديء دينه، إذ قال الله فيه: «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» (آل عمران 159)!
إن الإسلام يقدّس النفس البشرية التي تميل دائماً إلى الرفق واللين والحب والعطف ولا تميل إلى العنف بكافة أشكاله وأنواعه، وهذا يتأتّى للناس في أخذهم بمعالم الحضارة البشرية والمعايير الديمقراطية العالمية، فإذا هم كما قال الشاعر :
ولقد وجدتك بالسماحة والندى *** بحرا وبالاداب روضا مزهرا
لقد كان الإسلام من الحرية بمكان في زمن أظلمت الدنيا فيه في سائر بلدان العالم، فما كانت في البلاد الإسلامية محاكم تفتيش ولا قوانين كنسية لتكبيل المسلمين في حرياتهم، مما جعل ديننا ينمو وينتشر بأخذه أولا وقبل كل شيء بمجامع القلوب مما انعدم في الأديان الأخرى فهرب الناس منها لقسوتها ورعونة أحكامها وتسلط الحكام عليها باسم الدين يكبّل به الحريات.
لذا، علوية الأخلاق الحميدة التي يكرسها الإسلام ليست إلا تلك العالقة أبد الدهر بالقلوب قبل أن تكون بالسيف. ولعل المبدأ الثابت في ديننا أن كل مسلم راع وكل مسلم مسؤول عن رعيته يؤكد هذا التوجه، بمعنى أن الرعاية لحقوق الله هي مسألة الجميع، فلا تُفرض قسرا، إذ هي تنبع أساسا من مكنون صدور المسلمين، فليست هي إلا بتعاطي المثل الأفضل والدعوى للحسنى بالتي هي أفضل مع نبذ العنف وكل مظاهر الخوف من تتبعات زجرية لما فيها من إنقاص لحرية الإنسان في اختيار الأفضل. هذا أس من أسس الإسلام الحق كما جاء به سيد الآنام.
ولنسق كمثال هنا حرية المعتقد، إذ أكد الإسلام على أن لا إكراه في الدين، وذلك في زمن كان الإكراه هو القاعدة. فحدّث ولا حرج عن تسامح الإسلام على تصرفات الفاسقين حتى في مُهاجر الرسول الأكرم، حيث حث على مكارم الأخلاق في غض النظر عن فسق الفاسقين، لأن قداسة الإسلام في عليين.
هذا يؤكد أن تسامح الأخلاق الحميدة الإسلامية في كونيتها لأنها رسالة ربانية من الله لكل البشرية تجد آثارها عند كل خلقه، لا تحتكرها أمة حتى وإن كانت خير تلك التي أخرجت للناس. فكما تحلّى الرسول الكريم بالأخلاق الكريمة، تحلّى بها جميع الأنبياء الذين سبقوه.
ولا مجال للانفراد في مجال الأخلاق الحميدة الحقة بتميز خاص أو تصور معين يقصينا عما وصلت إليه الإنسانية من تطور وتحضر في مجال الإنسانيات. فلا بد، عندما نتحدث عن أخلاقنا الحميدة أو نكتب فيها، أن نراعي ما وصل إليه العالم في مجال الأخلاق من تقدم في شؤون دنياه للاعتبار بتجاربه والأخذ بالطيب منها حتى يكون تصرفنا دوما في الطليعة، فلا نفسح لغيرنا المجال للاستخفاف بنا ورمي ديننا بالجمود والتحجر وأخلاقنا بالإنحطاط وانعدامها من الواقعية، إذ بدأت وتبقى ثورية أبد الدهر.
هذا هو التسامح الحق الذي يجعل من الأخلاق الإسلامية تلك التي من شأنها أن تختزل الأخلاق الإنسانية والأعمال البشرية برمتها حتى تكون خير داعية للمقبل على الإسلام كما أقبل عليه الكثير في بداية انتشاره في حقبة من التاريخ كان الإسلام فيها بأحكامه الثورية منارة لسائر الأمم، أي حداثة قبل الحداثة الغربية.
من أجل أخلاق إسلامية صحيحة
رأينا أن الإسلام دين الحريات، والحرية فيه هي حرية مسؤولة؛ وهي لا تكون كذلك إذا انعدمت إمكانية تعاطيها دون خوف أو وجل من تتبعات عدلية لادعاء اعتداء على المقدسات أو مس بمحرمات. فلم يستعبد الإسلام الناس لرأي مخالف أو مذهب جديد وقد أرادهم الله أحرارا لا عبودية لهم إلا لربهم ولا سلطة لأحد عليهم في ما يخص دينهم إلا له، ربهم الأوحد.
وبما أن لب الأخلاق الإسلامية التسامح، مما يجعلها صالحة لكل إنسان في كل زمان ومكان، فهي ولا شك، بوساطة حرية العبد، في هذا التوازن المنشود بين مطالب الروح والجسد، إذ لا رهبنة في الإسلام ولا غلو في التدين، بل المطمح هو ابن آدم الحر في جسمه السليم وعقله الأسلم الذي يجعله يعتنق دين القيمة لأنه دين الحرية والتسامح.
إن المسلم المتّسم بأخلاق إسلامية صحيحة هو الذي يستنبط دوما الطريق السوي لأنه وسط بين من يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، كما نرى ذلك في المجتمعات التي ذهبت أخلاقها، ومن يعمل لآخرته كأن يموت غدا، كما نراه عند المتبتّلين من النساك والزهاد.
فلا تمانع أن الإسلام لا يعارض حاجات الجسد من شهوات ورغبات؛ وكيف له أن يفعل ذلك وقد وضعها الله فيه؟ كل ما في الأمر أن الإسلام يحدّدها بإطار شرعي هو من الذكاء بمكان، إذ هو يتأقلم مع الوضع الراهن من زاوية نصه، وفي الوقت نفسه يتماهى تمام التماهي مع مستجدات العصر من ناحية روحه؛ تلك ولا شك أزليته.
أما كيف السبيل إلى هذا، فبأن تتصف الأخلاق الحميدة الإسلامية بالسهولة والسيولة واليسر ورفع الحرج. ألم يقل الله «وما جعل عليكم في الدين من حرج» ؟ (الحج 78) وأيضا «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» (البقرة 286)؟
نعم، هناك من يقول أن الأخلاق الإسلامية هي في ما جاء به الوحي وهو كلام الله، واحترام كلام الله احترام لقداسته؛ وهذا صحيح. ولكن ليس كلام الله مجرد حرف انعدمت منه روحه الزكية؛ فهو أولا وقبل كل شيء روح ومقصد ومغزى. فليس بالإمكان الأخذ بحرف نحترم شكله ونحن في نفس الآن نرمي بأهم ما فيه عرض الحائط، أي مقصده الشريف الذي تعبر عنه روحه الأزلية.
إننا إذا فعلنا ذلك لا نحترم لا ديننا ولا عمل السلف الصالح! أما رأينا أمير المؤمني عمر الفاروق لا يتردد لحظة في مخالفة سنة الرسول في المؤلفة قلوبهم رغم قرب العهد بها؟ لذا، لا يحق لنا، باسم قدسية الوحي، التمسك بنص كلام الله والتنصل من روحه. فقد علّمنا الإسلام أن الروح، وهي من أمر الله، أعلى شأنا من كل شيء في مخلوقاته؛ فلا مجال لأن نتجاهل روح الإسلام بدعوى احترام نصه.
إن احترام الوحي ليس في احترام النص فقط، بل هو أساسا في احترام روح النص؛ أما إذا اختلف ظاهر النص مع روحه، فالروح أولى أن تحترم! ويكفي الرد على من يقول غير ذلك بما يلي : أليست روح النص كلام الله تماما كالنص؟ أليست الروح أعلى من الشكل؟
هذا مع العلم أنه ولا شك ما ساعد الإسلام على أن يصل إلى ما وصل إليه من اطراد النمو، بينما عزف عن الأديان الأخرى أهلها، خصال المؤمن التي ذكرنا. فالمسلم، بصريح عبارة الرسول، لا يضره من خالفه ولا من خذله، لأنه يصبر على الحق ويداوم العمل على إعلاء كلمته بالتي هي أحسن دون إفساد في الأرض.
إن الصبر على المصائب، مع التسامح، من أوكد وأسمى صفات المسلم الحق، لا مسلم اليوم الذي، وكأن دينه من قوارير، يفتخر بلمعان الزجاج ولا يأبه بما يحتويه مما فسد بداخله ولا بهشاشته، إذ يتصدع أو ينكسر لأدنى هزة.
أما ونحن في زمن ما بعد الحداثة الذي أظلنا، وهو زمن رجوع الوعي إلى عظمة خالق هذا الكون، وعصر عودة الروحانيات، لا يمكن للمسلم أن يكتفي بطبيعة من قوارير في هشاشتها، بل عليه السمو بها إلى أعلى المصاف التي تليق بقدر دينه السمح. وله ذاك ولا شك بأخلاق التسامح الي لا بد أن تميز إسلامه.
في الختام، لنقل كلمة عمن يعتقد جازما ضرورة العودة بالإسلام إلى ما كان عليه سلفنا الصالح من مثال وقدوة. إن تطلّعهم هذا يكون من الحكمة وحصافة الرأي بمكان لو كان ينتهج في ذلك السبيل القويم والمحجة السوية. فإن السلفية الحقيقية هي تلك التي تعود إلى روح الإسلام، وهي روح التسامح والمحبة، لا روح الكراهية والبغض.
أما سلفية شوارعنا، فقد زاغت عن الحق حين دعت، شكلا، إلى العودة إلى مثال السلف الصالح في حين هي تعمل فعلا على تقويضه؛ فليس مثلها الأعلى في ذلك إلا سلف اليهودية والمسيحية اللتان كان فيهما فرض الدين بحد السيف والتخيير بين الإيمان والقتل حتى بعد استقرار الملة وقيام دولتها. وليس هذا إيمان المسلم المؤمن بالله الرحمان الرحيم؛ ولا هو إسلام محمد، خاتم الإنبياء، الذي جاء متمما مكارم الأخلاق!
لقد عمل أعداء الإسلام منذ الفتنة الكبرى الأولى، وحتى قبلها، في الخفاء، وها هم اليوم يعملون جهرة تحت قناع الدفاع عن الإسلام، جاهلين أو متجاهلين أنه دين التسامح ونظام المحبة، أحب من أحب وكره من كره!
ذلك لأنه ليس في الإسلام من ذنب لا يحتمل الصفح والمغفرة من الله سوى الإشراك به؛ أما كل ما عدا ذلك فيطاله تسامح الله وغفرانه؛ ألا تكون أخلاق العبد في تسامح ربّه؟ هذه الأخلاق الإسلامية التي ندعو إليها بتونس المؤنسة لتكون من جديد أرض الإمتاع والمؤانسة.
شارك رأيك