يكتبها فرحات عثمان
من التعابير التي فرضت نفسها في علوم الاجتماع الحديثة تعبير الشخصية المشوشة، وهي من الشذوذ الثقافي الكبار. ولا شك أنها تميّز المجتمعات المسمّاة بالمتخلفة التي هي حقيقة غير نامية ثقافيا، قبل تخلفها الاقتصادي الذي لا يسمح لها به النظام الاقتصادي العالمي الجائر.
أما النمو الثقافي، وهو أساس الثورة المعلوماتية في عالم اليوم، لهو مما يمكن بلدان الجنوب من الحصول على تقدّم سريع لو عملت جاهدة في تلافي تأخرها الثقافي والحد من أسبابه وظواهره.
التخلف الذهني والنمو الثقافي
إننا في عالمنا العربي الإسلامي، رغم وعينا بتخلفنا في الميدانين وإمكانية تجاوز التخلف الثقافي على الأقل لثراء تراثنا الحضاري، لا نفعل ما يجب وبأسلحة فاعلة لتجاوز هذا التخلف. وهو أساسا في هذا التشويش المتأتي من العقلية التي، كما بيّن ذلك ابن خلدون، تجعل المغلوب يتبع الغالب ويتشبه به في كل شيء.
نحن نجد هذا خاصة في دعوى التأصل التي لا تتم إلا في شكل ردّة فعل على الصورة التي يعكسها عنا العالم المدعّي التحضر لحصرنا في خانة التخلف، بما أن التأصل الذي ننشده يتنزل داخل الاستراتيجية التي تُبقي تشويش شخصيتنا على حاله كما تقتضيها مصالح الغرب اليهودي المسيحي.
مثال ذلك ما نعرفه جيّدا بالمغرب العربي الأمازيغي، وبتونس بصفة خاصة، من عدم إعارة السلط واجب التعريب الأهمية الضرورية باسم حتمية الأخذ بالعلوم الغربية بينما قصور العربية عن العلوم ليس لعجزٍ فيها، بل لانعدام الحريات في المجال الثقافي لأسباب سياسية ودينية بحتة للغرب فيها ضلع. وهذا لا يخص العربية فقط ، بل أساسا الدين، بما أننا نمنع الأخذ به بصفة علمية، فلا نسمح بنقاش كل ما تحنّط فيه مما فرضته علينا ثقافات دخيلة على الإسلام عملت وتعمل على إبقائه متخلفا كما هو اليوم.
ينضاف إلى هذا التشويش في شخصيتنا التونسية والمغربية على حد السواء ما في سياساتنا الرسمية من رفض الأخذ ببعدها الأمازيغي، ولو كان ذلك أكثر وضوحا بالجزائر والمملكة المغربية. هذا بالطبع يتم بدعوى علوية العربية في بعدها الإسلامي الأوحد، مما يزيد في حدة التشويش، خاصة وأن صفاته كما سنتكلم في البعض منها في هذا الطرح من شأنها تقليص حظوظ التخلص من شذوذنا الثقافي.
فلكأننا نعمل على بقاء هذه الشذوذ فينا باسم أصالة مزيفة، بينما ثبت أن لا حضارة تقوم بدون الاعتماد على اللغة الأم ومقوماتها ، وليست هي ضرورة العربية الفصحى، بل هناك أيضا الأمازيغية والعربية الدارجة، والتمكن منهبا قبل الانفتاح على غيرهما من الحضارات.
ليست هذه الحال عندنا بعد؛ خاصة وأن التشويش طال الأسس الدينية لشخصيتنا أيضا. وها نحن نبدأ بمثالين منهما كغيض من فيض تجليات وأسباب هذه الشخصية المشوشة ثقافيا ودينيا، وهما ظاهرة الختان للذكور وعادة عيد الأضحى لتبيين ما فيهما من إسرائيليات.
مثال الختان هو لتراكم المغالطات في الإسلام والعادات ببلادنا بالنسبة لما فيه من رمزية للهوية التونسية؛ ومثال عيد الأضحى للتدليل على شدّة تغلغل اليهوديات المقنّعة بدين الإسلام. كل هذا يشوش شخصية المسلم التونسي في حياته الاجتماعية علاوة على فهمه الصحيح للإسلام، إذ تعلّقه المستميت بدينه، رغم ضرورته ومشروعيته كما نقول بها، ليس منطقيا في تجلياته ولا سالما سليما، مما يجل حتما فقرا مدقعا ثراء الشخصية القاعدية العربية المسلمة، والتونسية بصفة أخص.
الختان من أسس اليهودية
دأبت العديد من الجمعيات المدعية المرجعية الإسلامية في شهر رمضام على تنظيم حفلات للختان الجماعي للذكور باسم الدين بينما هو ينطلق لفهم غير صحيح للإسلام. هذه الجمعيات تنوي بالختان مساعدة العائلات الفقيرة، فهلا ساعدتها بما يفيدها حقا، أي بما يحسّن وضعها الاجتماعي وحالتها المادية، إذ لا تداعيات على حياتها اليومية في قطع حشفة الذكر عند البنين، فهذا لا يساعد على تحسين حياة تلك العائلات والخروج من فقرها المدقع غالبا ؟
وها نحن على مشارف ليلة السابع والعشرين من رمضان الكريم، وهو التاريخ المحبذ من طرف هذه الجمعيات في حملتها للختان، فهلا غيّرنا ما في أنفسنا حتى يغيّر الله ما بنا، بأن عوّضنا حفلات الختان الجماعي بإعانات مادية لهذه العائلات المعوزة تساعدها حقا على مجابهة مصاعب الحياة وتعاسة وضعها؟ هكذا نطبّق حقا تعاليم ديننا في ما يفرضه علينا من واجبات، ألا وهي مد العون للفقير ومساعدته عوض الإسراع في تطبيق ما ليس هو من الإسلام حقيقة.
إن الختان ليس من قواعد الإسلام كالزكاة والتكافل الإجتماعي، إذ هو مجرد عادات رسبت في دين الإسلام مما كان متواجدا بين العرب منذ الجاهلية بتأثيرٍ من اليهودية؛ وقد ازداد هذا التغلغل من بعد بما سُمّي الإسرائيليات التي داخلت الإسلام إلى حد تشويه تعاليمه السمحة. وهذا لا يهم فقط فهم تعاليم الدين الحنيف، بل أيضا تصريف عاداته وإكسابها مسحة إسلامية وهى أساسا يهودية.
تلك حال ختان الذكور، مع العلم أنه لا ختان في الإسلام الصحيح للإناث، إنما عادات غريبة عنه أيضا؛ وهذا غير معروف في بلدنا لحسن الحظ. أما الختان المعروف، أي ختان الذكور، فهو حقيقة من العادات اليهودية التي داخلت دين الإسلام. فلا حكم فيها في القرآن، وهو مرجعنا الأول، إذ تمكّنت هذه العادة من الأذهان بفعل الاجتهاد الفقهي بتأويل خاطيء للسنة.
الختان هو عملية القطع الجزئي أو الكلّي لقلفة القضيب، أو الحشفة، وهي رأس الذكر؛ وهي عادة جد منتشرة في الكون كله؛ وقد أحصت المنظمة العالمية للصحة سنة 2009 قرابة سبعة مائة مليون من الذكور البالغين سن 15 عاما فما فوق مختونين، أي قرابة 30 بالمائة من سكان العالم الذكور. فللختان جذور جد قديمة في الحضارات الإنسانية لم تكن ضرورة دينية، بل أيضا ثقافية. والأغلب على الظن أن أصلها يعود إلى عهد الفراعنة بمصر حسب الأدلة الثابتة علميا.
ليس الختان إذن خاصية إسلامية، ولو أنها عادة منتشرة سوسيولوجيا وسنة فقهيا؛ بل هي، بلا منازع من الزواية الدينية من مكوّنات الدين اليهودي الذي يجعل منها دليل العهد الذي عقده الله مع بني إسرائيل. وليس هذا في الإسلام؛ فلئن عُدّ الختان سنّة إسلامية، فهو أولا وقبل كل شيء قاعدة يهودية، وله أيضا بعض التواجد في المسيحية الشرقية القديمة.
مع العلم أن هناك أيضا أسبابا صحية محضة عند بعض المجتمعات في تعاطي الختان، إذ يُعتقد أن من شأنه التحصين ضد بعض الأمراض الجنسية. لذلك يتم الختان عادة عقب الولادة ،كما هي الحال في البلاد الأمريكية.
وتلك القاعدة في اليهودية حيث يتحتّم الختان في اليوم الثامن من الولادة لتفعيل العقد المقطوع مع الله من طرف إبراهيم وشعب إسرائيل. هذا، وكان إبراهيم وعائلته الذكور أول المختونين في اليهودية. هذا ما نجده في التوراة في سفر التكوين :
«الاصحاح 17 .10 : هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يختن منكم كل ذكر. 11 : فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم. 12 : ابن ثمانية ايام يختن منكم كل ذكر في اجيالكم. وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. 13 : يختن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك. فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا. 14 : وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي».
لهذا يعطي اليهود لليوم الثامن أهمية كبرى لهذه الخاصية؛ مع العلم أن إبراهيم ختن نفسه لهذه الدواعي الدينية وقد قارب المائة سنة؛ ثم ختن أبناءه الذكور، أي إسماعيل وكان عمره 13سنة، وإسحاق، وكان عمره 8 أيام .
إن الختان في اليوم الثامن من الولادة له أهمية كبرى عند اليهود، وهو ليس فقط مجرّد سنّة كما هي الحال عند المسلمين، بل هو من قواعد الدين اليهودي، وله نفس الأهمية تقريبا وقدسية يوم السبت أو ضرورة الأكل الحلال. بل اعتبر بعضهم الختان اليهودي لوحده من أهم القواعد اليهودية التي يحرص اليهودي على الحفاظ عليها للحفاظ على دينه وذاتيته؛ فالختان من الثابت الهوياتي اليهودي الذي لا محيد عنه.
أما في المسيحية، فقد كان المسيح مختونا بصفته وُلد يهوديا؛ وتم ذلك على القاعدة اليهودية، أي في اليوم الثامن لميلاده كما يبيّنه أنجيل لوقا : «إصحاح 1 . 59 : وفي اليوم الثامن جاءوا ليختنوا الصبي وسمّوه باسم ابيه زكريا.»
«إصحاح 2 .21 : ولما تمّت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمّي يسوع كما تسمّى من الملاك قبل أن حبل به في البطن.»
وكما يذكر ذلك بولس الطرسوي في رسالته إلى أهل كولوسي أو قولي: «الاصحاح 2 . 11 : وبه أيضا ختنتم ختانا غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية، بختان المسيح».
إلا أن الكنيسة سعت للتقليل من أهمية الختان في الديانة المسيحية لاضطرارها للتنازل عن هذه العادة اليهودية مع دخول العديد من الشعوب غير اليهودية للمسيحية من تلك التي لم تكن تعرف الختان أو ترضى به؛ لذلك اضطرت للقبول ألا يتم ختن من لم يكن يهوديا من المسيحيين الجدد. كان ذلك بعد نقاش حاد وطويل تم الفصل فيه في مجلس القدس في أوساط القرن الأول المسيحي؛ بذلك ظهرت في المسيحية عبارة ختان القلب، الذي قلل من أهمية الختان.
لنقرأ في ذلك من رسائل بولس :
«رسالة رومية – إصحاح 2 : 28 : لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانا
29 بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان، الذي مدحه ليس من الناس بل من الله»
ورسالة كورنثوس الأولى : «الإصحاح 7:19 ليس الختان شيئا، وليست الغرلة شيئا، بل حفظ وصايا الله»
أو سفر التثنية : « الاصحاح العاشر 10 :16 : فاختنوا غرلة قلوبكم و لا تصلبوا رقابكم بعد 10 :17 : لان الرب الهكم هو اله الاهة و رب الارباب الاله العظيم الجبار المهيب الذي لا ياخذ بالوجوه و لا يقبل رشوة»
ونجد الشيء نفسه في سفر أعمال الرسل، الاصحاح 15. هذا، ولا تزال الكنيسة القبطية بمصر تختن الذكور؛ ولا غرابة في ذلك نظرا للأصل الفرعوني لهذه العادة. والحال نفسها بأثيوبيا وحتى بلبنان وبعص بلاد الشرق.
أما في الإسلام، فلا ذكر للختان البتة في القرآن؛ أما الفقهاء، فهم يستشهدون بالحديث التالي للرسول، ومنهم من يرى أنها سنة مؤكده وهي تتم بين السن االسابعة و13 سنة، وهي السن التي ختن فيها إسماعيل. وهذا هو الحديث : « عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”خمس من الفطرة: الختان والاستحداد (حلق العانة) ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقص الشارب “. رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه. قال النووي في شرح صحيح مسلم: فالختان واجب عند الشافعي وكثير من العلماء، وسنة عند مالك وأكثر العلماء.»
كما نلاحظ، ليس في الحديث أي تثبيت لحكم إلاهي أو قاعدة دينية، إنما التعبير عن فطرة، أي طبيعة، وليست هي ضرورة إسلامية. هذا، ويقول ابن قيم الجوزية في كتابه «المودود في أحكام المولود» أن الختان سنة إبراهيم والأنبياء من بعده، ويروي في هذا حديثا عن البخاري ومسلم يذكر الرسول الكريم فيه اختتان موسى وكيفيته؛ ثم يضيف ما يلي : « والختان كان من الخصال التي ابتلى الله سبحانه بها إبراهيم خليله فأتمهن وأكملهن فجعله إماماً للناس ، وقد روي أنه أول من اختتن كما تقدّم ، والذي في الصحيح اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة ، واستمر الختان بعده في الرسل وأتباعهم حتى في المسيح فإنه اختتن والنصارى تقر بذلك ولا تجحده ».
كل ما سبق يبيّن أن الاختتان أصل من أصول اليهودية؛ فكيف أصبح من أصول الإسلام كما يقول البعض من الفقهاء؟ لا شيء يؤكد ذلك في القرآن الذي لم يذكره؛ فهل يسهى الفرقان عن أس من أسس الدين ؟ وما يدل على أن الختان مما رسب من الإسرائيليات في الدين القيم اختلاف علماء الإسلام في حكمه. أما الذين اعتبروه واجبا فمن باب المصلحة لا غير، ولو أنهم أعادوها إلى شروط الصلاة أي الطهارة، ولا ربط ضرورة بين الإثنين إذ لا تقتضي الطهارة الختان كما لا يعني الختان بالضرورة الطهارة؛ وهذا مذهب الحنابلة
نعم، يؤكد الفقهاء على ضرورة الختان لما فيه من فوائد صحية وآثار وقائية كبيرة، وهذا من الإسلام فعلا؛ لكن ليس بالضرورة بالتزام الختان. لذلك قال بعضهم أن العناية الصحية بنظافة الأعضاء الجنسية تُغني عن الختان؛ ولا شك أن هذا مما لا يخص إلا العبد وحريته لا الدين، إذ له أن يقرر ما يصلح به ما دام يحرص على الطهارة كما يتوجب عليه شرعا.
لنختم هذا المثال الأول للتشويش الحاصل في شخصيتنا العربية الإسلامية بالقول أنه اختُلف في مسألة هل الرسول خُتن أو ولد مختونا. وفي ذلك يقول ابن القيم في «تحفة المولود» أن هناك ثلاثة أقوال : أنه ولد مختونا، أن جبريل ختنه حين شق صدره، وأن جده عبد المطلب ختنه على عادة العرب في ختان أولادهم .
وهذا يبيّن أن الختان من عادة العرب؛ وهو الثابت الذي لا شك فيه، وذلك لأن العادات اليهودية كانت منتشرة كثيرا بين العرب، إذ كانوا باليمن وبيثرب خاصة. ومما يؤكد عادة العرب هذه، بيت امريء القيس الآتي الذي يهجو في قيصر الروم ويعيّره أنه لم يختتن، جاعلا ولادته كذلك نقصا على العادة اليهودية :
«إني حلفت يمينا غير كاذبة | لأنت أغلف إلا ما جنى القمر».
الغريب أنه قاله لما ورد على القيصر للاستعانة به لاستعادة ملكه، فدخل عليه الحمَّام ورآه كذلك، فكان منه هذا البيت. ولعل شاعرنا كان يهوديا، إذ هناك من تكلم في الديانة اليهودية (والمسيحية أيضا) للعديد من شعراء الجاهلية، لا شك أن أشهرهم السموأل بن عاديا، مثال الوفاء عند العرب. أما فيما يخص بيت الملك الشاعر، فقد قيل أنه كان أحد الأسباب الباعثة لقيصر على أن سمَّ امرء القيس فمات من جراء قروحه بأنقرة. وفي هذه العادة اليهودية التي مات من جرائها شاعرنا، يقول ابن القيم : «وكانت العرب… ترى الفضيلة في الختان نفسه وتفخر به»؛ وهو، بدون أدنى شك، يقصد يهود العرب.
عيد الأضحى من الإسرائيليات
يمثل هذا العيد المرور الذي نلاحظه في الإسلام من الشعائرية إلى المهراجانية. وقد أصبح حقيقة مهرجانا لتجارة الخروف أكثر منه عيدا دينيا، وهو بذلك يتفق مع عقلية المهرجان التي يكثر فيه الهرج والمرج، بما أنه لا يخلو من عربدة ومجون دنياوي؛ بل دنس للحرمات وانتهاك لروحها. ولا شك أن هذا يتناسب مع زمننا المابعد حداثي الذي تتميّز فيه نزعة عودة الروحانيات بطقوس شعبية مفرطة التحرر من غلو الطقوس الدينية الرسمية، فإذا هي ماجنة باسم الدين، معربدة بشعائره، تفتعلها لمصالحها الآنية، لتخمة الأكل والتجارة مثلا.
عيد الأضحى ليس فيه من الدين الإسلامي الصحيح أي شيء، بما أن الأضحية من شعائر الحج، لا مكان لها خارج مكة ودون الحج. رغم هذه الحقيقة، نرى أهل الإسلام يتهافتون على شراء الخروف للتضحية باسم الدين، بينما هم لا يقومون بذلك إلا إشباعا لنهمهم عند البعض ولزيادة في ربح تجاري عند البعض الآخر ممن يمتهن تجارة الغنم مباشرة أو عن طريق غيره ممن يشجع على التضحية الوجوبية في موسم الحج خارج الحرم المكي.
إن تجار الدين كُثر اليوم، منهم من لا ينعت الأضحية بالسنة المؤكدة على من يقدر إلا لغاية في نفس يعقوب؛ فليست هي احترام العادة النبوية بقدر ما هي خدمة مصالح من يمتهن بيع الخرفان. فهلا استعمل المسلم ثمن الخروف في الصدقات وقد استشرى الفقر؟
لقد أصبحت الأضحية مما يحرص عليه المسلم وكأنها واجبة بينما يعلم بيّن العلم أن الحج الذي ترتبط به هذه الأضحية غير واجب إلا لمن استطاع إليه سبيلا. بل نحن نعرف أن ديننا السمح لا يمانع في أن يصرف الحاج ما يجهّزه لحجه في أمور أخرى مما يحبّذها الإسلام ويحث عليها، كإعانة المحتاج والصدقة، وغير ذلك من فعل الخير مما تقتضيه حال مجتمعاتنا الفقيرة.
إن سنة الرسول في الأضحية هي إحياءً لسنة إبراهيم في نطاق شعائر الحج، ثم هي إحياء حادثة الذبيح المذكورة بالفرقان، وهو إسحاق لا إسماعيل. فأغلبية علماء الإسلام قبل اليوم أنكروا مقولة أن يكون الذبيح إسماعيل، ومنهم الطبري والقرطبي والرازي مثلا. وهؤلاء يعدّدون أسماء الصحابة الأجلاّء الذين كانوا يقولون أن الذبيح إسحاق، ومنهم الخليفة عمر وعلي بن أبي طالب والعباس، عم الرسول، وابنه عبد الله، حبر الأمة، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم.
نعم، لقد داوم الرسول الأكرم على مثل هذه الشعيرة؛ إلا أن ذلك كان دوما بمكة مع الحج أو بالتوازي معه، لا كعيد منفصل عن التواجد بمكة، مستقل عن أداء الحج، كما هو الحال اليوم. فالقرآن لا يتحدث عن الأضحية، إذ يذكر فقط حادثة الذبيح دون الافصاح عن هويته بسورة الصافات، من الآية 100 إلى الآية 111. أما السنة الصحيحة، أي ما اتفق عليه الشيخان، فيأتي الحديث عن الأضحية كجزء لا يتجزأ من مراسم الحج، لا كعيد مستقل بذاته فيه إحياء لسنة إبراهيم فقط، لأنه عندها ليس إلا إحياءً للإسرائيليات في دين الإسلام.
ولا شك أن تسمية يوم النحر ويوم عرفة بيوم الحج الأكبر الدليل الأسنى على أنه لا عيد خارج الحج، وبالتالي لا أضحية خارجه أيضا. فالمضحّي يضحّي بما يقدر عليه من الهدي في نطاق الحج، وليست الأضحية إلا من الهدي. فلنصغ لما يقوله ابن القيم في الموضوع : «يوم النحر هو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك». ويقول الرسول : «أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر»، ويوم القر: هو يوم الاستقرار في منى، وهو اليوم الحادي عشر من شهر الحج.
إن العادة التي استقرت ببلاد الإسلام إلى اليوم هي من باب إحياء سنة إبراهيم الخليل، ولا شيء يمنع ذلك في ديننا الحنيف بما أنه يعترف باليهودية التي سبقته؛ إلا أنه على المسلم أن يعلم ذلك، أي أنه إذ يحي سنة الخليل، فهو يحي ذكراه مع الذبيح إسحاق.
ولقائل أن يقول هنا، وهذا ما يتعلّق به المسلمون الذين يعتقدون في أن المعني بسورة الصافات هو إسماعيل: إن التضحية تخص البكر من الأبناء، ونحن نعلم أن الابن الأكبر لسيدنا إبراهيم هو إسماعيل. وهذا من الخلط والخطأ والتشويش الذي نحن بصدده في هذه اليومية.
ذلك أننا نعلم أيضا أن إسماعيل ابن أمة، وأن أبناء الإماء لم يكن لهم من الحقوق مثل ما لأبناء الأحرار. فليس لا منطقيا ولا اجتماعيا ولا تاريخيا أن يكون الله طلب من إبراهيم التضحية بابن أمة. هذا ما يقرّ به العديد من الأئمة الأجلاء الذين ذكرت آنفا. وهو من هذا المعلوم الثابت بخصوص العديد من الإسرائيليات التي داخلت الإسلام؛ فمنها عيد الأضحى إذ ليس هو بشعيرة من شعائر الإسلام خارج الحج كما بينا.
خلاصة القول، للخروج من التشويش العقائدي، أن الأضحية هي من سنة الرسول إذا كانت في نطاق الحج؛ وهي بذلك من شعائر الإسلام؛ أما إن كانت خارج الحج، فهي عندها من سنة إبراهيم الخليل التي يعترف بها الإسلام ويقرها. لذا، من الواجب اليوم العلم بأنه لا علاقة للأضحية كما نقوم بها خارج مكة بدين الإسلام، إذ هي عادات يهودية عُدّت منه في نطاق الإسرائيليات التي داخلت ديننا وشوّشت ذهننا، مما يحتّم إعادة الاجتهاد فيه لتنقيته من كل ما شوهه.
ضرورة إعادة فتح باب الاجتهاد
هذان المثلان يبيّنان حال شخصيتنا الإسلامية اليوم المشوّشة بما تغلغل فيها من إسرائيليات، الشيء الذي أضاف للتشويش النفسي تشويشا ثقافيا دينيا له تداعيات وخيمة على سيكولوجية العربي المسلم كما نراه في الشخصية العربية المغربية الأمازيغية، والتونسية خاصة.
لا جرم، إن دين الإسلام اليوم كشمس ساطعة في كبد السماء، إلا أننا في فصل الصيف، وهذا يقتضي منا للانتفاع بها حسب مقتضيات الفصل، أي التخلّي عن الثياب وارتياد الشواطيء التي لا تنعدم ببلادنا. أما إن حافظنا على تدثّرنا بثيابنا وتزملنا بها كأننا في فصل الشتاء، ثم لازمنا المدن، فلا مناص عندها من التأفف من حر الشمس المفرط والهروب منها ابتغاء للظل؛ وفي هذا الأمراض الجلدية أيضا. فإذا حالنا تعيسه في بلدنا المشمس الذي يأتيه السياح من كل حدب وصوب باذلين الأموال السخية للانتفاع بشمسنا وشواطئنا؛ هلا بدأنا بأنفسنا؟
هذه الشمس هي ديننا الحنيف الذي نضيّعه لا محالة بتزمت مقيت ليس من نصه ولا روحه ولا مقاصده، عوض الأخذ بهذه الأخيرة حسب ما يقتضيه الشرع الصحيح الذي يفرض استعمال العقل الحصيف والذهن المتقد ذكاء للتفتّق على ما يميّز البشر، ألا وهو التوق للأفضل.
هذا، ونحن نعلم أن الأفضل في ابن آدم كالتجارة النافقة، تتغير حسب الأزمن والأحوال؛ فلا بد لها من التأقلم مع حال السوق، خاصة إذا كانت نوعيتها تمكّنها من ذلك؛ فتلك الطبيعة البشرية التي لا تبقى عل حال من الصحة والطهارة بدون عناية مستمرة ورعاية لضميرٍ لعله يصطأ إذا لم نسهر على تزكيته المستدامة بأن نسعى لذلك بدون لأي ودون عنجهية في الغرور بعلم ليس هو إلا عند الله بما أن العالم الحق هو الجاهل الذي لا يفتأ يتعلم.
هذه هي الروح الإسلامية التي لم نعد نعرفها، إذ انبرى الجهال مشائخ، فادّعوا علما ليس في الدين وتقمّصوا دور الكهنة والقساوسة في ادعاء علم أعلم ومعرفة أعرف من حكمة الله التي لا يطالها العقل البشري، الفقير دوما لها. بذلك غدونا في جاهلية مطبقة، خاصة بما داخل دين الإسلام من إسرائيليات باسم العودة إلي سنة إبراهيم، جد الموحدين.
إن تعاليم الإسلام السمحة اليوم في مقاصده السنية؛ وهي في روحانيات كانت الصوفية من الأوائل، بعد أهل الصفة، في الأخذ بها والسير على منهاجها؛ فكان السالك، وكان الإسلام الحق ! ثم عنّ للساسة من خلفاء بني العباس غلق باب الاجتهاد، فإذ بصرح الحضارة الإسلامية ينهار، وإذا بالعادات اليهودية، وحتى المسيحية، تتغلغل فيه فتمحو العديد مما فيه من ثورية؛ فهي الطاغية على الفقه الحالي.
رغم ذلك، كان هذا الفقه أساسا نتاج اجتهاد يُذكر فيُشكر لحملة علم آغلبهم من غير العرب، وهم الموالي، أي من كان مشبعا بالعادات اليهودية والمسيحية المنتشرة في ذلك الوقت بالجزيرة العربية والتي جاء الإسلام مصححا لها. لكن، في الحين نفسه الذي تطوّر الغرب اليهودي المسيحي، نابذا كل ما في عاداته القديمة من نزعة غير ديمقراطية، حافظنا عليها في الإسلام؛ فالمسلمون اليوم، متزمتون كانوا أو معتدلون، يعدّونها من الإسلام وهي ليست منه.
إن القراءة التي تدّعي السلفية خاصة ليس فيها إلا الفكر اليهودي والمسيحي؛ وهي تمسخ تعاليم الإسلام السمحة بالعودة لا إلى سنة إبراهيم الخليل، أي الحنيفية السمحة حسب ما صحّحه الإسلام، بل إلى اليهودية كما عرفها المجتمع الجاهلي فطالت الإسلام وعُرفت بمسمّى الإسرائيليات، كما قلنا ونعيده للذكرى.
لهذا لا بد من إحكام العقل في ديننا وعدم الاكتفاء باجترار ما حصلنا عليه من علوم الإسلام بما اجتهد به السلف، بل العمل على فتح باب الاجتهاد مجددا وإثراء تلك العلوم بفنون الإسلام إحياء لهويتنا الإسلامية.
إحياء العربية لمنع اضمحلالها
وبما أن العربية من أسس هذه الهوية، ولو أنها ليست لوحدها كما نبيّنها لاحقا، فهي أيضا في خطر الاضمحلال رغم أنها لغة دين هذه البلاد؛ ولا بد إذن من إحيائها بحكمة وذكاء.
إن للغة الضاد من الاتساع ما يمكّنها من أن تعود من جديد لغة الحضارة والعلوم؛ إلا أن ذلك ليس في حفظ القرآن أو برامج التعريب حسب مناهج بالية، بل أولا وقبل كل شيء في تفتح البلاد وأهلها على العالم بأخذهم بالمعايير الحضارية في كل شيء حتى لا يكون الأخذ بالعربية هذا التنكر الذي نراه اليوم للحضارة والحقوق والحريات.
إن وضع العربية المزري اليوم يجعلنا نتساءل أي لغة نتكلم؟ هل هي الدارجة التي تعدّدت وتنوعت لهجاتها، ولكن حذقها ويحذقها العربي فيتكلمها بكل سلاسة ولو أنه يخلطها بلكنات وتعابير أجنبية؟ أم هي الفصحى التي لا يتكلمها حقا إلا الممتهن لها، فلا يعرف حقيقة أسرارها وبديعها غير القلة القليلة ممن إذا تلكموها كانوا نشازا وبدوا كأنهم يتمقعرون ؟
إن العربية في حالة يرثى لها بينما هي، مع الدين، من الرموز البشرية الهامة في التأسيس لشخصية متزنة متوازنة. لذا رأينا التونسي لا يعرف التفكير ولا يفقه أمره لانعدام حذقه للغته الأم؛ مثله في ذلك كالطفل الصغير الذي لا يقدر على التعبير بكل سلاسة عما يختلج في صدره فلا يصل فكره لانعدام الآلية المناسبة. تزيد طبعا اللخبطة الدينية الأمور سوءا؛ ولنا في أمر الشاعر العربي المذكو أعلاه خير مثال، إذ ذهب يطلب معونة قيصر الروم لاسترداد ملكه، فإذا به يهجوه أخذا بدينه، وقد أكرمه الملك بأن مكّنه من الدخول عليه إلى الحمام !
لعله من الضروري هنا التذكير أن أفضل ما سهّل الحفاظ على اللغة العربية من الاندثار إلى يومنا هذا هو القرآن الكريم الذي جاء بلغة العرب. ولكن، هوذا القرآن للأسف قد شوّهته قراءة العديد ممن لا يفهمونه ولا يفقهون بلاغته وسمو مقاصده، إذ يقفون عند حرفه فيجعلون الويل للمصلين باسم الدين!
لذا حان الوقت ولا شك للقيام بعملية فيها في نفس الوقت الاحياء الضروري للسان العربي الفصيح وللدين الإسلامي الصحيح. وها نحن بتونس بصدد الإصلاح الضروري للمنظومة التربوية، فهلا تكون بالعودة إلى تدريس العربية على قاعدة دون التوقف عن التفتح على اللغات الأجنبية، كما هو الحال اليوم وكما لا يمكن التفريط فيه في عالمنا المعولم؟
خلافا لما يردّده البعض ممن يقدّس لحضارة الغرب وهي في الأفول، إن العودة إلى تدريس القرآن بمدارسنا ومعاهدنا لهي أفضل مدخل للعربية. لكن لا بد أن يكون ذلك في نفس الوقت بإبطال كل التأويلات الخاطئة للنص القرآني وتدريسه للناشئة على قاعدة صحيحة تُبيـّن ما فيه من ثقافة وحضارة؛ ذلك لأن الإسلام ليس مجرد شعائر، إذ هو أولا وقبل كل شيء ثقافة ومدنية.
نحن نسجل اليوم النبذ الفاحش للعربية لتدريس العلوم في بعض البلاد، مثل المغرب أخيرا، أو العزوف عن تدريس مادة التربية الإسلامية بالمقررات المدرسية، كما كان الحال بمصر، ولعل الشأن نفسه يكون أيضا بالمغرب. إنه لمن الخطأ الفاحش أن يقع هكذا الخلط بين التزمت الذي نراه اليوم في فهم الدين وضرورة الحفاظ على تراثنا العربي من خلال إحياء علوم الإسلام. وذلك لا يكون إلا بتعليم القرآن حسب منهج علمي للناشئة حتى لا تقع فريسة لتجار الدين كما هي اليوم. فانعدام معرفة الشبيبة لدينها بصفة موضوعية يجعلها تنساق وراء المغرّرين بها لشدة رغبتها في التعلق بتراثها الديني، وهو الشيء الذي لا بد منه حتى لا يكون الإنسان منبتّا، عديم الأصول، مذبذبا، متذبذبا في حياته.
لا مجال إذن في هذه الظروف العصيبة إلا للحفاظ على القرآن كأفضل وعاء للغتنا في بلاغتها وفصاحتها، وتدريسه علميا بمدارسنا ومعاهدنا لأن فيه الكثير من هويتنا وأصالتنا. طبعا، لا بد أن يتم ذلك على قواعد جديدة تأخذ بما في حضارة الإسلام من تفتّح على الآخر والاغتراف من كل ما صلح في غير الإسلام وفي غير العربية من حضارات، لأن ثقافتنا العربية الإسلامية لم تبلغ أوجها إلا بما تنزّل فيها من فتوحات غير عربية وروافد غير إسلامية من حضارات سبقتها فأبدعت وأفادت البشرية.
لذا، ليس من المنطقي ولا من العلمي التنكر لما في مخزوننا الحضاري التليد من ثراء لمجرد أن ما بقي منه تآكل فهرم وساء مآله اليوم، لأن حال التربية الإسلامية في بلاد العرب في يوم الناس هذا كماء تعكّر فأصبح مستنقعا لانعدام تجديد مائه وبانعزاله عن منبعه وتوقف انسيال مياهه التي هي في عينها عذبة زلال.
لقد دامت اللغة اليهودية القديمة بحفاظ أهلها على التوارة وحافظ الشعب اليهودي على كيانه بالتمسك بدينه؛ فهل يواصل العربي اليوم إضاعة عربيته ودينه وقد بلغ حاله من التعاسة والفظاعة الحد الأقصى؟ إنه لا مجال للحفاظ على الإسلام إلا بتدريسه بمدارسنا ومعاهدنا لأن فيه الكثير من هويتنا وأصالتنا؛ إلا أن ذلك يجب أن يتم كما قلنا بالأخذ بكل ما تنزّل في العربية من فتوحات غير عربية وروافد غير إسلامية من حضارات سبقت الإسلام والعرب كالحضارة الفارسية والأمازيغية مثلا.
نحن، في المغرب العربي الأمازيغي وبالبلاد التونسية، لا نحسن لا اللغة العربية ولا الدين الإسلامي مما جعل شخصية التونسي مشوشة، ليس لها هذا العمود الفقري الذي يتأتّى من التمكن من ثوابت الشخصية. ففي المتخيل التونسي، إضافة إلى رهافة حس وتفتّح على الغيرية، ميوعة لا خلاص منها ما دامت منعدمة معرفة الثوابت على أساس صحيح. وما من شك أن هذا التذبذب هو الذي يميّز الشخصية التونسية فيعطيها طرافتها ونكهتها الخاصة، إذ ليس التونسي كغيره من العرب ولا المسلمين ولا حتى بقية أهل المغرب الكبير.
هكذا إذن، ثمن هذه الطرافة باهض جدا، بما أنه يجعل من الروح التونسية المرهفة قليلة التماسك، وكأنها من البلور، سريعة الانكسار كأنها من قوارير. لذا، فالعمل على أن يستعيد التونسي الشيء من ثوابت شخصيته بالعودة لدينه ولغته ليس فيه إلا ما يقوّي هذه الشخصية دون التقوقع، بل يدعّم تفتحه على الآخر، كل آخر، لأن ذلك أيضا من ثوابته السيكولوجية.
فالعودة مثلا إلى تدريس القرآن بالمعاهد الثانوية من شأنها تمكين الفتى التونسي من سلاح فتاك يحمي شخصيته بأن يقويها؛ إذ لا فكر لمن لا يقدر على التعبير بلغته الأم ولا شخصية لمن لا فكر له متجذر في ثقافته. إلا أنه من الضروري، ونحن نؤكد على تلك البديهة، التبيان أن مثل هذه العودة إلى الجذور، أي هذا التأصل الذي لا مناص منه، لا يمكنه أن يتم باسم إيديولوجية سياسوية معيّنة ولا على ضوء فهم خاص للدين ومعايير تخالف الثوابت الأخرى لشخصية التونسي كما بينتها.
ذلك أنه لا يمكن بحال استغلال الضرورة القصوى للعودة لتدريس القرآن في المعاهد كأفضل وسيلة للناشئة للتمكن من لغتها العربية ومعرفة دينها لغسل دماغها بفهم ظلامي للإسلام وتفسير أكل عليه الدهر ولا زال يشرب إلى الثمالة! إن تدريس القرآن بالثانويات كمدخل للدين وتدعيم للغة العربية في نفس الوقت يجب أن يتم بصفة علمية، انطلاقا من أفضل ما أنتجه الفكر العربي الإسلامي في موضوعيته؛ فنحن لا نُعدم من مثل هذا المنتوج العلمي القيم الذي لا نجد فيه التزمت الطاغي اليوم على علوم الدين. يكون ذلك مثلا باستعمال تفسير الطبري، أقدم وأجل تفسير، لقراءته الموضوعية للقرآن أو تفسير التحرير والتنوير لمواطننا ابن عاشور لجدته مع علميته.
بهذا، تكون المقاربة عصرية، لا نسكت فيها على كل ما ميّز ديننا، كتعدد القراءآت وكثرة الاختلاف في فهم حرفه. ففي روح الإسلام من ثراء إلى حد أن التناقض ما يجعله أفضل التجلّي لما يسمّى اليوم في علم الاجتماع بالفكر المركب والأضدادي Pensée complexe conradictorielle وهو من أحدث ما أنتجه الفكر العالمي. وهذا، إن دلّ على شيء، فلا يدل إلا على أن حضارة الإسلام كانت حداثية قبل الأوان (وقد نعتّ ذلك بالحداثة التراجعية rétromodernité)، ولها أن تعود لها حداثتها في زمن ما بعد الحداثة؛ فيكون ذلك بقراءة جديدة للإسلام كإسلام زمنه، أي ما بعد الحديث، هذا الإ-سلام الذي هو سلام قبل كل شيء.
بذلك، نعيد لدراسة القرآن ما كان يميّزها في العصور الأولى من تفتح ذهن ونقاشات وبحوثات تفنن فيها علماء اللغة والأدب والتاريخ أي تفنن، عملا بالمبدأ الإسلامي القاضي بإعمال العقل في تدبر القرآن وفهم معانيه، وهو تثوير القرآن، أي الاجتهاد المستدام. أى طريقة أفضل من ذلك لإحكام العقل في فهم الدين وتعلم العربية الفصحى على قاعدة متينة في فترة المراهقة التي كثيرا ما تتميز بالرغبة للعودة إلى الأصول؟
هكذا، نُبقي على تفتح الشخصية التونسية مع العمل على تجذرها، فننجح في تجاوز الفترة الصعبة الني نعيشها بالقطع مع كل ما رسب إلينا من الماضي ومن الخارج من فكر ظلامي وتصرف دغمائي. هذا ما تفرضه الفترة التي نعيشها؛ وبذلك نكون بحق في مستوى تطلعات شعبنا وهذه المسؤلية التي نتحملها كجيل سياسي يتحتم عليه تجاوز مصلحته الذاتية للعمل على بناء مستقبل لهذه البلاد لا تنغّصه الأفكار السياسوية الضيقة التي اعتدناها، سواء كانت دغمائية يمينة أو يسارية، دينية وعلمانية.
إنه التجذر الحيوي الذي كان عليه الإسلام وعليه يبقى حتى يحافظ على روحه الثورية، لأن الإسلام ثورة على ما تحجر في الفكر الإنساني، وإلا فليس هو بالدين القيم، دين البشرية جمعاء بما أنه خاتمها. وهذا يقتضي ألا نجز به في بوتقة التزمت الشعائري، بل نعرض كل ما فيه من ثراء وعلمية على فتوحات الفكر البشري في كل صقع محافظين أشد الحفظ على ما فيه من ثقافة علمية عالمية.
الثابت الأمازيغي في الهوية المغاربية
نحن إذا تحدّثنا عن العربية وما يتطلبه وضعها الحالي، لا بد لنا أيضا، إحقاقا للحق، أن نذكر أن المغرب لم يكن منذ الأزل عربيا، بل أصل ساكنته بربرية أو أمازيغية. فما تعودنا عليه من تسمية المغرب الكبير بالعربي، وما هو بالعربي، إنما هو المستعرب، وقبل ذلك هو الأمازيغي، بلاد الرجال الأحرار. لذلك، كل ما قلناه عن العربية كاللغة الأم ينطبق تمام الانطباق على من لغته الأم الأمازيغية.
هذا، ولا بد لنا من الخروج هنا أيضا من التشويش الأنثروبولوجي. إننا لنعلم أن علماء الأنساب يصنّفون عامة العرب إلى عرب بائدة، تلك التي انقرضت وانقطعت أخبارها قبل الإسلام، وعرب باقية، وهي تسمّى أيضا المتعربة أو المستعربة، ويعنون بها القبائل العربية التي أخذت العربية عن العرب البائدة. وهناك من يقسّم العرب بعد البائدة إلى عرب عاربة ومستعربة، أي العرب الباقية.
فالعاربة هي المنحدرة من نسل قحطان، وهي القحطانية، أي عرب الجنوب من حمير واليمن؛ وهي في هذه النظرية أول من تكلم العربية. أما العرب المستعربة، فهم المعدّيون أبناء معد بن عدنان الذين قطنوا شمال الجزيرة العربية؛ هم إذا أهل الحجاز والشام. هؤلاء من نسل إسماعيل بن إبراهيم، ولم يكونوا عربا إنما استعربوا، بما أن لغتهم كانت العبرانية والآرامية والكلدانية؛ وبعد نزولهم مكة ومصاهرتهم لليمنية اتخذوا منهم لغتهم العربية، فتعرّبوا أو استعربوا. ومن الملاحظ أن ابن خلدون يسمّيهم العرب التابعة ويضيف إليهم صنفا آخر، هو العرب المستعجمة أي الذين دخلوا نفوذ الدولة الإسلامية.
هكذا إذن، ليس العرب، لا بالمغرب فقط بل حتى في الجزيرة العربية، إلا مستعربة أو مستعجمة. إلا أننا ببلاد المغرب لا يمكن أن ندخل الأمازيغية في المستعجمة بما أن الرجال الأحرار حافظوا به على لغتهم الأم ولم يستعربوا تماما ولا استعجموا. ثم إن الأمازيغية سبقت العربية ببلاد المغرب، فالبربر هم السكان الأصليون، والأصل عادة يغلب الفصل حتى وإن طال الزمن على ذلك؛ فهذه حتمية من الحتميات المابعد حداثية.
لذا، إذا أراد المستعربة بالمغرب الحفاظ على العربية، وبما أن الأمازيغة لا زالت باقية، يكون ذلك بعدم مواصلة تجاهل لغة سبقتهم بالمغرب ولا زالت به حية ثرية. الأفضل هو التناغم والتواصل بين اللغتين إذ فيه الحياة للإثنين، لا التقطع والتصادم وليس فيهما إلا ما تؤول إليه كل حرب، أي هازم ومهزوم. ولقد اعترف بالأمازيغة دستور المغرب الأقصى الجديد ثم دستور الجزائر، ولم يكن لهما إلا القيام بذلك بما أنه الواقع المعاش للقسم الأوفر المغربي.
لنختم قولة الحق هذه في الأمازيغية بالتذكير أن المؤرخين درجوا على قسمة تاريخ العرب المستعربة إلى ما قبل الإسلام، وتلك الجاهلية، وما بعد الإسلام. وبما أن العالم، كل العالم، في فترة ما بعد الحداثة، فلا شك أن ذلك يفتح من زاوية الاستعراب فترة جديدة في التاريخ الإسلامي تكون فترة إسلام ما بعد الحداثة.
هذا يعنى أنه لا يكتفي بما درب العرب عليه من التعالي على بقية مكونات الاسلام، خاصة بالمغرب المستعرب، بل يعترف أنه ضمن هذا المغرب المستعرب هناك أمازيغية لا بد من الاعتراف بها وإعطائها كل ما تستحق من قيمة، بله الحقوق والتقدير، خاصة في قراءة جديدة متجددة للإسلام حسب روح الأمازيغة التي هي أقرب إلى روح الإسلام مما عندنا اليوم في الفقه إسلامي من تحديد لثوريته.
فما يميّز الأمازيغية، تماما كالعربية، هي شدة التوق للحرية والنزعة لأن تكون حدودها أقل مل يمكن، إذ الحرية هي التي تعطي للمسؤولية قيمتها وللإنسان شرفه؛ فهو حر، ثائر أو لا يكون. وهذا انعدم في فقهنا في العديد من المواضيع. بذلك يحقق الإسلام التجذر الحقيقي بالمغرب المستعرب، إذ يكون عندها إسلام كل المغاربة، إسلام المستعربين والأمازيغيين؛ وهو التجذر الحيوي الذي تقتضيه ما بعد الحداثة. ولعمري تلك حتمية تفرضها أيضا نزعة الإسلام الكونية والعلمية؛ لذا، فإسلام الغد لهو الإسلام ما بعد الحداثي، إسلام الزمن الراهن.
هذا، وهل من الضروري التذكير أن انتشار الإسلام بالبلاد المغاربية مدين للمسلمين من الأمازيغ بالكثير، إذ أياديهم البيضاء عليه وافرة لا يشكك فيها إلا الغبي؟ بل لعل البربر كانوا أشد تعلقا بالإسلام الصحيح من العرب أنفسهم، فهم أهل وبر وخيام، أي بدو رحّل، وقد علمنا نظرة الإسلام للإيمان البدوي، نظرة كلها ازدراء وانتقاص. فهل من الضروري التذكير بما استوفاه ابن خلدون من حضارة البربر ورفاهة الإسلام فيها؟
إن عقيدة الأمازيغ لا تشوبها شوائب أهل التزمت الذين أنتجوا داعش، فالإسلام الأمازيغي وفيّ لروح الدين وهي حرية قبل كل شيء، تقتضي دوما التأقلم مع مقتضيات الزمن وتحدياته لتجدد مستدام يكون خير ضمان لثورية الاسلام في كل زمان. بهذا يكون مستقبل الإسلام بالبلاد المغاربية، بل في بقية العالم العربي، للفهم الأمازيغي، بمعنى أنه إسلام أهل الفهم الأحرار، بقراءة للدين غير دغمائية، أثرته وتثريه.
صفات الهوية التونسية
لقد أثارت أخيرا قضية استغلال المدارس والمعاهذ هذا الصيف لحفظ القرآن جدلا عقيما، إذ لم يكن الغرض من هذه المبادرة حقيقة لخدمة الهوية التونسية، بل لغرض أيديولوجي، وهو طبعا هنا ديني. وهو يتنزل في نطاق الصراع المستميت بين النخبة ذات المرجعية الإسلامية وغريمتها ذات المرجعية اللائكية؛ وليست هذه وتلك إلا سلفية متزمتة، الأولى دينية والثانية مدنية.
إنه من الخطأ القول بأن قضية الهوية التونسية تم الحسم فيها نهائيا بما حصل من اتفاق بالدستور، إذ هو أعوج ومتزعزع، علاوة على أن نصوص الدستور بقيت حبرا على ورق. فالهوية التونسية لا يمكن أن تنحصر في طابع عربي إسلامي بحت، إذ لها من الطرافة ما يجعلها ثرية بتعقّدها، وهو هذا المكوّن الأساس للفكر المركب الذي ذكرنا، الغنيّ بثراء مكوناته، الإناسية خاصة، والذي يقدمه علماء الاجتماع كالحل لأزمة التفكر عامة في هذا العصر الذي هو حقبة غروب الحضارة الغربية.
إن ما يمّيز الهوية التونسية هي أنها لا إسلامية متزمتة ولا متنكرة لأصولها؛ ثم هي ليست فقط أمازيغية عربية إسلامية، بل آخذة من كل جنس وثقافة بطرف في تمازج ناجح، لا يجب إفساده بتقليد أعمى سواء لشرق غوى أو لغرب تنكّر لذاته. الهوية التونسية الشعبية في بعدها الإسلامي صوفية؛ ونحن نعلم ما يمتاز به التصوّف من روحانية كونية؛ وهو أيضا أهم ما يميّز المعتقد الأمازيغي، إذ أغلب أولياء التصوف بالمغرب من الأمازيغ كما بينّاه.
إلا أن الهوية التونسية أيضا متأثرة بمخيال عالمي أتى من كل صقع، بما أن أغلب حكام تونس وساستها كانوا من أصل أجنبي قبل أن تضمحل خاصيتهم الأولى في ذاتية هذه الأرض المعطاء التي قيل فيها أنها تكوّن بحق «البلد العالم» كما تختزله روح ما بعد الحداثة.
هذه هي الصفة للهوية التونسية القاعدية. أما تجلياتها اليوم بعد الترسبات التي عرفتها والإسقاطات التي لم تنج منها، فهي عسيرة التبيّن لمن لا يغوص في العمق، لأن اللخبطة القيمية وصلت أقصى مداها ببلادنا. نحن اليوم أمام مخاطر تتهددنا في ذاتيتنا هي، من ناحية، الانبتات الغربوي بينما انهارت حداثة الغرب المتهالك في مادية مزرية، ومن ناحية أخرى الغي الشرقي المتهافت في تزمت سلفي ليس فيه من الروحانيات نقيرا رغم أنها لب الدين.
إن من محاسن ما يقع اليوم بتونس الثورة الشعبية لهو رفع الغطاء عن المستور وكشف مساوئنا؛ وهذه هي السبيل الوحيدة لإصلاح ما فسد ويفسد فينا. وهو مما يساعد كثيرا على بلورة هويتنا وهي ضرورة قصوى متحتّمة في كل الحضارات جسّدت طموحها إلى ما وصلت إليه من فتوحات؛ كما هي الإجابة الحصيفة على السؤال عن الوسيلة للانعتاق من ربقة الانحطاط لكل ثقافة وحضارة تبتغيان التطور، خاصة لمن تواصل الغروب عندها بعد ماض مشرق.
ليس التخلف ولا النقص حكرا على ثقافة إلا في تواتر الشعور بذلك وانعدم الإحساس المقابل المكمّل له، ألا وهو القناعة بإمكانية التفوّق من جديد على النفس وما فيها من كوابل للتوق إلى الأفضل. هذا لا يتم إلا بالثقة الضرورية في الذات، ولكن لا إلى حد عقدة التفوق على الآخر، إذ ليست هي عندها إلا مركّب النقص الذي لا ينفع، بل يضر كل الضرر.
إحياء الهوية التونسية القاعدية
ما من شك أن من عوامل استعادة الثقة في النفس هي في العودة إلى الماضي، أي التجذّر في كل ما كان أساسيا في الحضارة التي وصلت إلي أشد الانحطاط بعد أن بلغت أوجها، إذ تلك سنّة الحياة ومصائر الدول. فلننظر كيف بنى الغرب حداثته بالعودة إلى ماضيه الإغريقي الروماني، وقد ساعدته في ذلك أي مساعدة الحضارة العربية الإسلامية نظرا لتفتحه عليها وأخذه منها !
نحن إذا ذكّرنا بماهية الاحتلال الفرنسي، الذي كان ثقافيا أوّلا وقبل كل شيء، وبمدى أهمية الرموز الثقافية عند تشكيل رؤى الشعوب وتصرّفاتها، علمنا أن المشكل الأساسي اليوم هو في انعدام الرؤية الواضحة للهوية التونسية؛ فهل هي هوية مهمّشة، غربيا أو شرقيا، أم هي هويّة قائمة الذات لا بد من نفض الغبار عنها لإحيائها من جديد؟
نعم، لقد سعت النخبة بتونس بعد الاستقلال إلى ربط البلاد بالغرب مع نبذ أسس الهوية التونسية القاعدية رغم ما اتسمت به سياسة الرئيس بورقيبة وتكوينه من ثقافة شبه متّزنة بين الأصل والفصل. هذا ما يُواصله البعض من النخبة التي أنعتها بالسلفية المدنية في تجسيدها للانبتات ضد عموم الشعب وضد السلفية المتزمتة الدينية التي تستغل من ناحيتها رفض الشعب الصريح لرفض تهجين آخر للهوية التونسية الحقيقية.
ففي سعي أهل التزمت الإسلامي هذا الاحتلال الذي لا ينقص فحشا عن الاحتلال الغربي، بل هو أفحش، لأن المخاتلة والخداع تتم فيه باسم الدين؛ لهذا، الضرر أكبر بالهوية االتونسية الأصيلة، ألا وهو الاحتلال الإسلاموي. ذلك لأن الهوية التونسية، وإن كانت عربية إسلامية، فهي أيضا أمازيغية متصوّفة كما قلنا، ولها روافد أخرى عديدة من كل أفق حضاري متأت من تلك الحضارات المتعاقبة على الأرض التونسية وقد كانت على مر العصور بوتقة انصهرت فيها الحضارات.
لئن كان من المنطقي والواجب عدم قطع التواصل مع معالم الهوية العربية الإسلامية بهذه البلاد، فالمفروض المتحتم ألا يكون ذلك إلا بربطها بما يمت حقيقة إلى جذورها، أي تفتح التونسي على العالم، وخاصة محيطه المتوسطي، وتسامحه وحبه للآخر، أيا كان وأيا كانت ملامحه ومشاربه؛ فأهم ميزة للهوية التونسية هي الغيرية، إذ التونسي هو الآخر قبل أن يكون ذاته فمن الآخر يستمدها طريفة لا هجينة.
إن في هذه الهوية التونسية، إذا أردنا استعمال البلاغة القرآنية في سورة المدثر: 49-50، الحُمر المستنفرة، و فيها أيضا القسورة. الحمر المستنفرة ترمز إلى رؤية الاستنفار السوسيولوجية لعالم الاجتماع التونسي محمود الذوادي، وهو يقصد بها «شدة الاستفار التي تتصف بها علاقات التفاعل التونسي مع التونسي الآخر»، فيقول أن «تعامل التونسي مع التونسي الآخر يتّسم عادة بنوع من الجفاء والحذر والتوتر». هذا، وإن كان صحيحا، فهو يخص فقط الآخر المجهول، أو البرّاني كما نقول شعبيا، إذ لا شك، كما يعترف به السيد الذوادي نفسه، في «وجود تعامل معاكس عند التوسيين الذين يعرفون بعهم بعضا، أي عندما تربط علاقاتهم روابط الدم والزمالة والجيرة…».
إذا لاحظنا أن هذا ينضاف إلى تفشّي العنف اللفظي والجسدي عند التونسيين، علمنا أن حالة الاستنفار ليست إلا المؤشر على خوف التونسي من غيره خوفه من نفسه ومن ردّة فعل تتجاوز المعقول؛ والمعقول هنا هو ما يمنعه القانون. فلا يجب أن ننسى أن المحيط الذي يعيش فيه التونسي كله قوانين رادعة، لا محيط حريات يساعد على العيش بكل طمأنينة وحسب الطبيعة. لذلك، لا ترى التونسي على طبيعته إلا عندما يكون مع من يرتاح إليه، إذ هو عندها لا يخاف على نفسه.
إنه من الضروري التأكيد على أن هذا الخوف ليس مردّه الضعف والاستكانة، ما دمنا بيّنا نزعة العنف المعنوي والمادي في التونسي، بل سببه الخوف من قوة جامحة في أحشائه يعلم جيّد العلم أن من شأنها حمله أبعد مما يسمح به المحيط وقوانينه المتعجرفة الظالمة.
ففي التونسي ما يكفي من الحكمة الشعبية التي تحمله على توقّي الحذر والابتعاد عن المغالاة والمبالغة نظرا لأنهما خاصياتان فيه، فإذا لم يكبح جماحهما أخذتاه بعيدا. هذه الخاصية الكامنة في التونسي هي ما أسمّيها طبيعة القسورة، أي الأسد، إذ في كل تونسي أسد نائم؛ وهي الطبيعة التي عندما تستيقظ تجعل من إرادته في الحياة إرادة عصيّة على كل جبار عنيد؛ وهي التي تغنّى بها شاعر البلاد الخالد دون أدنى شك.
طبيعة الاستنفار إذن هي مجرد الطلاء الخارجي الذي يساعد على الحفاظ على النفس وكبحها عند الضرورة؛ أما الثابت النفساني والإجتماعي في التونسي فطبيعة القسورة. لذلك، الهبة الهوياتية الأصيلة للتونسي التي ننادي بها تقتضي تحريره من القوانين المجحفة التي تحمله على الخروج من جلدته للتأقلم مع المحيط الجائر. فبتحريره من تلك القواعد المجحفة يتخلص التونسي من طبيعته الظاهرة، أي طبيعة الاستنفار أو الحمر المستنفرة، ليعود لطبيعته الأصيلة، طبيعة القسورة، التي كما بيّن لنا التاريخ تعود من حين إلى حين في قالب ثورات متعاقبة.
وبعد، أليس من الأفضل نشر السلام مع النفس ومع الآخر حتى يحيا التونسي حسب طبيعته، طبيعة الليث الهاديء أو القسورة دون أي استنفار، إذ لا داعي له من أي الخوف بقوانين تكرّس حقوقه وحرياته كما اعترف بها الدستور؟
إن إحياء الهوية التونسية وتلافي تشويش شخصية التونسي لهو من المتحتم اليوم بتونس لإعادة «بناء الجماعة المهشّمة» حسب تعبير إدوارد سعيد؛ وهذا يقتضي الأخذ بما يمّيزها من طرافة طبيعة الحمر المستنفرة والقسورة في نفس الوقت؛ ذلك هو الذي من شأنه تمكين الإحياء السريع الناجح لها. وهذا هو الذي يتوجّب الحفاظ عليه من الاندثار إذ تم دفنه تحت رماد الصراع الأيديولوجي العقيم بين غُربتين، غربوية ومشرقية، ليس فيهما لا استشراق ولا إشراق.
ولئن حرصنا على تنميط الهبة الهوياتية في تونس بالإطار القانوني حتى تكون أصيلة – للضرورة القصوي للقانون في أي إحياء، أيا كان شأنه، فهذا مما لا ينتطح فيها عنزان -، لنا أن نتساءل : كيف يتم ذلك في استنباط القوانين وبعده، دون الإضرار بذاتية الهوية؟ لا شك أن هذا يتم أولا بحزمة قرارات وقوانين على النطاق الداخلي والخارجي للبلاد ثم على الحرص على تطبيقها للعمل على تزكية كل ما فسد في المتخيّل الشعبي.
ذلك هو الذي يمكّن من أن تُرفع من اللاوعي الجماعي البعض من العراقيل التي تنمّي فيه إرهابا فكريا فاحشا أو تبعية مقيتة لمن همّه طمس الخصوصيات التونسية الطريفة التي تجعل منها هذه الاستثناء الحقيقي، ما أسمّيه الاستثناء تونس. وهذا الإحياء القانوني هو ضرورة دينيا أيضا، ونفسيا بطبيعة الحال لقيمة الدين في مجتمعنا كثقافة.
إذن، ليس هو بتاتا في الانحياز للغرب ولا للشرق، بل لا يكون إلا باستقلال جديد عن المرجعيات المتهافتة غربية كانت شرقية يتم على المستوى الذهني أساسا. بذلك تكون الهوية التونسية على حالها الأصيلة، نتعرّف عليها كما هي في أصالتها. فليست الأصالة في تقليد الآخر بدعوى تقدّمه ولا في إحياء التليد في الذات بصفة هوجاء، بل هي في هذا التناغم الناجح الطريف بين الحادث والتليد لا بد له أن يكون حيويا بالضرورة. وهذا من سمات زمن مابعد الحداثة، وهي خاصية تتقمص تونس اليوم بدون أدنى شك معالمها القاعدية، إذ أن ما بعد الحداثة ذهنية قبل أي شيء آخر.
شارك رأيك