يكتبها فرحات عثمان
ها نحن أولاء في اليوم الأخير من رمضان، أو قبل الأخير، ما دامت لخبطتنا القيمية تمنعنا من معرفة إن كان رمضان هذه السنة بعدد أيام الشهر القمري المعلومة، أي 29 يوما، أو استثنائيا 30 يوما.
فعادة الرؤيا، التي يتمسك بها أهل الإسلام الرسمي بتونس باسم التعلق بالدين رغم إساءتها له، تمنع من القول بكل تأكيد أن العيد غدا، حسب اقتران الشمس والقمر في ظهيرة هذا اليوم، أو بعد غد، حسب مقولة الرؤيا علميا، أي إمكانية رؤية الاقتران بتونس.
إن الرؤيا الصحيحة إسلاميا هي الأولى، لا الرؤيا بالعين المجرّدة، حتى وإن استأنست بالحساب الفلكي، إذ هي تخالف روح الدين ومقاصده. فهبنا قلنا هذ الرؤيا الأخيرة إسلامية، هلا طرحنا عندها جانبا الوسائل العلمية التي نستعمها اليوم، كالمصدح ومضخم الصوت وغيرها، مما يفرضه الأخذ السليم بالإسلام ؟ أليس في رفضنا ذلك ما يجعل تصرّفنا في تحديد بداية ونهاية رمضان من السخافة بمكان، إذ هو المضحك المبكي الذي لا يكون فيه إلا التهريج في الدين لولا تداعياته الوخيمة على الفهم المخبول له من طرف الناس بينما واجب التخبة هدايتهم للصحيح من الدين ؟
هكذا إذن، رغم أملنا في أن يكون شهر رمضان هذه السنة أفضل من السنوات الماضية، لم يكن منه أي شيء، بداية بعادة الرؤيا هذه؛ فكانت الدغمائية المعتادة طاغية على كل أيام الشهر. فعوض تحرير الناس من القيود المجحفة حتي يخلص صومها بالنية الصادقة وحدها، التي هي مرتبطة بالحرية التامة في الصوم أو عدم الصوم، واصلنا عنفنا المعنوي وفرضنا للمظاهر وللمراءاة، وليس هذا من الإسلام.
مثال ذلك، عوض الدعوة لتثوير معاني القرآن ونقاش كل ما فسد في أخذنا به كل ليالي رمضان بجعل التراويح حلقات نقاش وحوار حول نصوص القرآن عملا بأمر ديننا بتدبّر نصوصه، واصلنا تصرّفنا المعتاد في تكرار النصوص واجترارها بلا فهم ولا نقاش. وعوض الفصل بين الدولة والدين بعدم استغلال صفة المسؤولين الرسمية للظهور في المناسبات الدينية، رأينا العكس، فتواصل استغلال الدين ولم يتوقّف توظيفه الفاحش سياسيا، مخالفين مباديء الدستور وتعاليم الدين نفسه الفاصل بين الحياة الخاصة والعامة.
شعائر الملة مهرجان الشعب
إن أهمية الرموز البشرية ودورها القيّم في الحد من التخلف الذهني أو تغذيته لم تعد خافية، في علم الاجتماع، وذلك أساس التخلف المادي الذي لا زلنا نتخبط فيه. فنحن لا نأتي أي شيء يجدد الدين، وهو عندنا أهم هذه الرموز، وكأننا نبتغي إبقاء البلاد على ما هي عليه من تخلف لما في ذلك من منفعة للبعض لعلها تتلاشى إذا تغيّر التعامل الشعبي مع الدين على قاعدة بدون التهوّر الحالي. هل يرضى مثلا من يصول اليوم ويجول مستعملا الدين لأغراضه الشخصية، عائثا فسادا فيه، أن يفقد مثل هذه السلطة وما له من تسلّط معنوي على الناس لأجل زخرف الدنيا الكذوب ؟
لقد رأينا بعض الساسة تنقلب إلى رجال دين، وليس للدين رجال إذ هو للناس كلهم؛ رأيناهم ليس همّهم إلا الحديث عن الصوم وكأنه للناس لا لله؛ ورأينا بعضهم، قبل رمضان وخلاله، يهتمّون فقط بالجانب التجاري فيه، من تزويد السوق وغير ذلك من الأسباب التي تجعله مناسبةً للتجارة للبعض والتخمة للغالبية، كأن هم الدولة الحرص كل الحرص ألا يغيّر المواطن من عاداته رغم فسادها.
مع هذه، لا بد لنا هنا من الملاحظة أن في مثل هذه التصرفات، رغم نقضها لواجب الدولة في التنبيه للدين الصحيح وأفضل التصرف فيه، لهي متأقلمة مع الواقع الحالي عند الشعب وفهمه لرمضان رغم غلطه. إن النظرة للدين التي نجدها عند هؤلاء الساسة، مع عدم جرأتها على محاولة تغيير الأمور، سليمة في توجهها النفساني والاجتماعي، بما أنها متناغمة، ولو بدون ذكاء وفطنة، مع تجليات رمضان من الزواية الإجتماعية كمهرجان شعبي.
فلا شك أن هذه الخاصية، التي جعلت من شعائر الإسلام مجرّد مهرجانات شعبية، ساهمت لا محالة بقسط وافر في تأصيل الدين في نفسية المؤمن ورسوخه بها لما في ذلك من جوانب بهيجة وعوامل إيجابية ترّغب ولا تنفّر وتجلب فلا تُبعد وتُقصي. هذه الخاصية لإسلامنا الشعبي ميزة كبيرة تجعله صرحا منيعا في الأنفس، يتناسب ويتناغم مع مقتضيات الزمان الحاضر، أي زمن مابعد الحداثة؛ وهو، كما علمنا، الحقبة الزمنية المتميّزة بنزعة روحانية طاغية مع شدة تعلقٍ بكل ما هو من باب الُمتعية ووجوب الاستمتاع بالوقت الحاضر والتلذذ بمباهجه. ولا شك أن لا أكبر ولا أعلى من مباهجٍ ليس لها فقط صبغة الحلال، بل وأيضا فيها تمام الدين.
بذلك قُلت وأقول أن هذه الخاصيات مما يؤهل الإسلام، في قراءة له من زاوية علم الاجتماع البحت، أن يكون بحقٍ دين ما بعد الحداثة بلا منازع، إذ شعائره اليوم هي الفرصة السانحة للمباهج وللاحتفال. هذه القراء تنطبق تماما على رمضان وبالنسبة لعيد الفطر وكل الأعياد والمناسبات الهامة في الإسلام. فما يميّز الإسلام اليوم عن غيره من الأديان هو هذا التعلّق من أتباعه بطقوسه وشعائره حتى وإن كان ذلك بصفة غير تامة أو مخالفة لصريح النص في بعض تجلياته. فنحن المسلم يحرص على الصيام، الذي هو لا محالة الركن الهام من أركان الدين، ولكن دون الصلاة، وهي الركن الأهم بعد التشهد؛ أو نراه يضحّي بأضحية العيد دون العمل على القيام بما هو أوكد، أي الحج.
أكيد أن في هذا النشاز المتفشّي في مجتمعاتنا الإسلامية بين ما هو من النظري في الإسلام وما هو من العادات والتقاليد ما مكّن الدين، ويمكّنه إلى اليوم، من الدوام في النفوس رغم الهزات العنيفة التي حاولت تقويض صرحه، وتداوم على ذلك من الداخل والخارج، بما فيها تصرفات رعناء ومواقف غبية من الساهرين على الإسلام الرسمي.
الإسلام بصفته صلة وثيقة ومباشرة بين الله وعبده، مع انعدام كل واسطة من نوع الكنيسة أو حتى المرجعية الفقهية، يؤسس لحرية التصرف للعبد في تفاصيل دينه ما دام يأخذ بأسّه ولبّه. لذا رأينا الإسلام الشعبي يختلف، إلى حد التناقض إذا أمعنا التثبت، عن الإسلام الرسمي، ورأينا هذا الأخير دائم الاضطرار لأن يغض النظر عن كل ذلك ما دام الأصل لا إخلال فيه. فالفصلة هنا تبقى المظاهر بما لها من الخداع والنفاق، بالرغم أن الدين الحق لا نفاق فيه ولا خداع.
إن المتمعن في العادات والتقاليد الإسلامية ليس له إلا ملاحظة مدى تعلق المسلم بدينه وحريته مع طلاقة فهم هذا الدين في نفس الآن، فهو لا يشك في الأخذ بدينه كما يجب لتشبثه بالتقاليد التي ورثها عن آبائه وعهدها منذ صغره. فلا مجال بالنسبة له للشك في حسن هذه العادات، ولا مجال للنقاش فيها أو حتى تفحص ما اختزنته من رواسب من الماضي السحيق؛ هي من الدين وإن لم يكن الدين منها. بذلك، الشعائر عند المسلم مواسم؛ والموسم، كل موسم، هذا العيد أو الفرصة السانحة لإقام العيد والاحتفال والمهرجان. فلا عيد بدون احتفاء واحتفال، ولا إقامة شعائر بدون مهرجان في الإسلام الشعبي الذي يبقي هكذا من أهم تجليات الإسلام اليوم ومن أهم دواعى الحفاظ عليه في أفئدة العامة.
هذه إذن حال عيد الفطر، وبقية الأعياد، من زاوية علم الاجتماع؛ هي تقتضي وجوبا عند أغلب المسلمين، لا طقوس دينية ضرورة، بما أن الإسلام في سماحته لا يفرض ما لا طاقة للمسلم به، بل كل ما من شأنه تحقيق ملتزمات المهرجان من احتفال وبهجة حتى وإن كان في ذلك تعنّتٍ على النفس وتعبٍ بدنيٍ وماديٍ. فرب الأسرة الإسلامية مثلا يحرص، أيا كانت ظروفه، على أن يمكّن صغاره من نفس الجو الاحتفالي الذي عرفه في صغره، وكأنّ ذلك من أركان الدين لا يصح إلا بها؛ ونحن نعاين هذا بصفة خاصة في عيد الأضحي مثلا وضرورة الأضحية لا باسم الدين فقط أو أولا، بل باسم العادات والتقاليد أولا وقبل كل شيء.
النشاز بين الإسلام الشعبي والرسمي
إن ما نعيشه بالبلاد التونسية من مظاهر مزرية ليس إلا نتيجة تراكمات لفسادٍ عارم ومظالم مستشرية، زادته حدة التقلبات الحاصلة منذ الثورة. ذلك أن الإسلام الشعبي يناقض الإسلام الرسمي بصمت ولكن دون هوادة، إذ هو من تجليات العقلية التونسية التي أصبحت أكثر وعيا بحقوقها في وسط اجتماعي ونفسي لم تتغير فيه المنظومة الحقوقية والعقلية الرسمية للإسلام وللسياسة إذ بقيت على حالها في نشازٍ فاحشٍ مع المجتمع وقد أفاق من سباته.
لإن انتفع النظام السابق والإسلام الرسمي طويلا بقوانينه الجائرة، لم يكن ذلك لقوته وتسلطه، بل خاصة لقبول الشعب بها خوفا من جور النظام؛ وهذا انتهى اليوم، إذ ارتفع خوف الشعب، فإذا النظام على حقيقته، عاريا لا حول له ولا قوة، وإذا إسلامه مجرد نفاق لم يعد ينطلي على الشعب. إن الوضع الكارثي الحالي، رغم مآسيه، ليس إلا إرهاصاتٍ لعهد جديد، لعل حدثانه يطول أو يقصر حسب سوء نية الساسة أو حسنها في التنازل عن غرور الحكم في توظيف الدين كما كان يفُعل سابقا والنظر للأمور كما هي. وهذه الحال المحزنة تتمثّل في الانعدام التام للثقة بين الحاكم والمحكوم، وتفشّي الفساد في البلاد لبقاء منظومة الديكتاتورية القانونية على حالها، خاصة تلك المدّعية المرجعية الإسلامية، مما يقتضي تغييرها جذريا للخروج من الأزمة.
ما من شك أن مثل هذه القوانين الفاسدة تغذّي الفساد الأخلاقي والتعاطي بسلامة مع الدين، فتمنع تغيير العقليات عند أهل الحل والعقد، في حين أن العقلية الشعبية أصبحت في فورة عارمة تؤدي بالبعض من أطياف الشعب إلى العنف والإرهاب ماديا أو معنويا. نعم، القوانين لا تحدث ضرورةً التغيير المنشود، لكنها تسعى له وتسهّله إذا توفرت النية السياسية الصادقة؛ وهي غير منعدمة بتاتا بتونس، إلا أن دوام القوانين الجائرة وتعدد ضغوطات القوى المنتفعة بها، سواء بالداخل أو الخارج، تمنع النوايا الطيبة من العطاء مما فيه خير البلاد.
ما من شك أن القوى المستفيدة من الوضع الحالي في ما يخص الأمور الدينية ترفض أي تغيير، كلّف ذلك البلاد ما كلّفها من المآسي؛ ولعل أعتى هذه القوى تلك التي تتغذّى بفكر دغمائي لا يرى في الحكم إلا مطية لمصالحه المادية والأيديولوجية، الدينية المتزمتة خاصة، إذ توظف القوانين لخدمتها. والأكيد اليوم بتونس أن على رأس هذه القوى الحزب الديني نظرا لتمساكه وللسند الحاصل عليه من طرف زعيم العالم الحالي لتشابك مصالحهما لنظرتهما الواحدة للأمور. فنحن نعلم أنه لا يهم الولايات المتحدة إلا مستحقاتها الاقتصادية بالبلاد، وهي مضمونة مع الحليف الإسلامي لأخذه بمنوال اقتصادي رأسمالي متعجرف.
لهذا، لا يمتنع الطرف الأمريكي من ترك الحبل على الغارب لحليفه الإسلامي في تصريفه لفهمه الديني المتزمت ما دام هذا لا يمس بأهم ما يخصه بتونس؛ بل هو يشجع على ذاك الفهم العقيم للإسلام ما دام يخدم نظرة الغرب المقزّمة لهذا الدين، علاوة على أنها تتناغم مع ما نعلمه من تزّمتٍ ديني أمريكي. كل هذا بيـّن صراحة من خلال معاضدة أمريكا لأفسد ما في الإسلام، أي الوهابية؛ فليس هو فقط لأسباب مادية بحتة كما يتكرر ذكره، بل أيضا وخاصة لما في الإسلام الوهابي الممسوخ من إسرائيليات لها الوقع الكبير ولا شك في متخيّل الأمريكي.
لذا، بما أنه ليس لتونس أي أملٍ في تغيير أوضاعها السياسية لاستحالة حرية التصرف في الشأن المفروض عليها فرضا، لا مجال للحاكم إلا التصرف الحر على المستوى التشريعي في الميادين المسكوت عنها عادة. ولا شك أن ذلك يقتضي من الشجاعة الشيء الكثير، خاصة أن العديد من أهل السياسة المنتمين نظريا للشق الديمقراطي لهم من التحرز شبيه ما نجده عند الإسلاميين، كما بان ذلك جليا عند الكلام في المساواة في الإرث وإبطال تجريم المثلية أوتعاطي المخدرات، إذ ضم ويضم الليبيراليون أصواتهم للإسلاميين أو سكتوا ويسكتون في أفضل الحالات.
الجرأة السياسية تتمثل اليوم لا محالة في استغلال الميدان التشريعي الذي تتوفر فيه فرصة التصرّف بعرض مشاريع ثورية من شأنها قلب المفاهيم بالأدمغة في مواضع حساسة للغاية. فبمثل هذه القوانين المتوجّهة للمخيال الشعبي واللاوعي الجماعي يكون الوقع الكبير على الأذهان، إذ هي تفرض بقوة وضرورة على الساسة تحديد موقف واضح من هذا المسائل والقبول أو رفض المساس بما يُعد غلطا من المواضيع المحسومة دينيا. إن القبول أو رفض فتح باب الاجتهاد فيها من شأنه أن يبيّن الاستعداد للقبول بالعيش المشترك أو رفضه، أي الأخذ بمباديء دولة القانون أو مواصلة التمويه والكذب لأجل فرض نمطٍ إسلاميٍ متزّمتٍ على المجتمع التونسي المتفتح، الذي دينه مهرجاني، وذلك بالإشهار كذبا وتمويها لأسطورة المجتمع الإسلامي المحافظ.
أسطورة المجتمع الإسلامي المحافظ
المجتمع التونسي ككل مجتمعاتنا العربية الإسلامية يزخر بالأساطير الشعبية، وهي لا محالة مما يثري المتخيل الشعبي ويزيد تراثه المادي والمعنوي قيمةً ومدلولاً. إلا أن مثل هذه الأساطير فساد وإفساد في مجتمعاتنا اليوم لما عليه حال السياسية في بلداننا العربية الإسلامية، وهي ما نعلم من خضوعها للإمبريالية، سواءً كانت غربية أو شرقية، ظاهرة المعالم الخارجية أو مستبطنتها لمغالطةٍ داخليةٍ ناجحةٍ.
لا شك أن مثل الحريات الخاصة في حياة المسلم أفضل الدليل على ذلك، فهي من الانفتاح بمكان من منظور ديني بحت، إذ قدّس الإسلام الحياة الخصوصية إلى حد القبول بالعصيان في أمور الشرع ما دام ذلك يتم داخل حرمة الحياة الخصوصية. لذا، ليس ما في قوانيننا وتجلياتها الهوجاء من تحريمٍ وموانع مجحفة باسم الدين إلا من التجني الصارخ في حق دين نفسه، المتسامح، الإناسي التعاليم. فقد اعترف صراحة بحرية الحياة الخصوصية قبل أن ينبذها فقه لا يأخذ بتعاليم الدين الصحيح، فخلق التزمت الأخلاقي والمحافظة الأسطورية للمجتمع الإسلامي المتحرر أساسا، كما نراه في قلبه للشعائر إلى مهرجان.
إن دعوى المحافـظة للمجتمع باطلة في أفواه النخب، سياسية كانت أو دينية؛ ليست هي عندها إلا لإحكام قبضتها على أبناء الشعب بحرمانهم من حرياتٍ أقرها لهم دستورهم، وأيضا دينهم، بما أن الإسلام دين العلاقة المباشرة بين الله وعبده، ليس فيه أية كنيسة أو مرجعية كهنوتية للتدخل بين الله والعبد في أمور دينه. لقد تفشّت في الإسلام قراءة خاطئة رسبت إليه من الإسرائيليات جعلته دينا متزمتا لا حرية فيه ولا حب ولا متعة ولا جنس، بينما لا شيء من هذا في دين القيمة. فالخمرة كما بيّناه غير محرّمة بل هو السكر، والعري ليس بإثمٍ، إذ تم الحج الأول للإسلام على الطريقة العربية القديمة في التعري التام للرجال والنساء حول الكعبة. ثم لا تزمت أخلاقي في الإسلام دين الفطرة الذي يعترف بحق المسلم في المتعة وتعاطي الجنس، حتى أنه لم يمنعه في عهد الرسول وخليفته الأول، إذ تواصل العمل بمتعة الحج إلى عهد الخليفة عمر قبل أن يقع منعها تأثرا بالعادات اليهودية والنصوانية.
هذا، وقد بقي الكثير من روح الإسلام الصحيحة في القراءة الوحيدة الأصيلة له، أي القراءة الصوفية، صوفية الحقائق كما هي عند الجنيد وابن عربي، لا صوفية أهل الدجل. لذلك نرى عند أهل التصوف العديد من الحريات الأصلية في الإسلام والتي يرفضها أهل التزمت ممن لا يأخذ إلا بما هو غريب عن دين الحنيفية. وقد حافظ التصوف، إلى جانب ذلك، بالجانب المهرجاني للشعائر الإسلامية كما نرى جليا في مواسم الأولياء إلى حد الشعوذة عند بعضهم حسب روح العصر المابلغ في كل شيء.
لذا، حان الوقت للتقريب بين الإسلام الرسمي والإسلام الصوفي لسد الهوة بين الأول والإسلام الشعبي المهرجاني الذي صوفيته الأصلية بتقي واضحة كل الوضوح رغم بعض المظاهر المزرية. فبذلك نصلح ديننا، إذ ليس ما تتقوله الوهابية من الإسلام بتاتا؛ بل وحتى العديد مما نجده في المذاهب التي تدّعي الوسطية من مناهضةٍ لحريات المؤمن وقد كان سيد الآنام يحترم أي احترام العبد في حرية حياته الخاصة إلى حد القبول بالمنافقين والصلاة عليهم عند موتهم.
لنذكّر هنا، كمثال لهذا التميّز الذي يجب استجاعه، موضوع الإثم والذنب الذي سبق أن بيّنا أن مفهومهما الإسلامي يختلف تمام الاختلاف عن الفهم اليهودي والمسيحي لهما. فليس في دين محمد نفس فهم الإثم كما عهدناه فيهما وكما رسب منهما في الفقه الإسلامي. الإثم الوحيد في دين القيمة هو الإشراك بالله، كما بيّناه؛ أما سائر المخالفات غير ذلك فليس إلا من الذنب الذي فيه الكفارة والتوبة والإصلاح الذاتي بتزكية النفس. إنها كلها مما لا ينجرّ عنه أي عقاب ولا تعزير ولا عتاب، إذا عرف المؤمن كيف يكف عن ذلك بعمل يصلح به الخطأ ويتوب به. هذا ما عرفته وتعمل به الصوفية وله جذور عند الشعب وحتى في تصرفات الرعاع منه.
بهذا، من وجهة علم الاجتماع، مفهوم الذنب في الإسلام علمي الصبغة، أي هو بمثابة تلك التجربة الضرورية للعبد حتى تخلص نيته ويستقيم عوجه؛ فهو في ذلك كالطفل الصغير الذي لا بد له أن يتدرّب على المشي مع ضرورة السقوط حتى تصحّ رجلاه ويستقيم عليهما واقفا يمشي بكل ثبات. والفهم الصوفي للذنوب في الإسلام يعتبرها بمثابة المحنة للمسلم، تمكّنه من تزكية نفسه؛ وهي لذلك، إذ لم يكن فيها أي اعتداءٍ على الغير، لا تعني أي أحد، إلا الله وحده وعبده. بل لقد ذهب تسامح الإسلام إلى حد قبول الدخول إلى الجنة لمن سرق أو زنى ما دام إقراره بوحدانية الله كان صحيحا لا مراء فيه.كل هذا يبيّن مدى إسرافنا في تشويه الإسلام والإضرار بسماحته وحداثة تعاليمه التي تبقى تنويرية وإناسية.
مظاهر المهرجان في التصرّف الشعبي
إن النشاز الذي نعيشه بين فكرنا وتصرفنا، بين رؤيانا للحياة وهي تمضي وحياتنا على وقعها اليومي، بل اللحظاتي، لهو كالدمية الروسية، أي أنك تجد تحت هذا النشاز الظاهر أكثر من نشاز؛ فهناك انفصام لا نعير له الأهمية التي يستحقها؛ وهذا بيت القصيد ومربط الخيل في المشاكل الاجتماعية والنفسية التي نعيشها. لهذا قلت سابقا أن أغلب من يمتهن السياسة – وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى مجرد الحياة بالمدينة -، لا في بلادنا العربية فقط بل في العالم أجمع، له أعراض ألزهايمر سياسي.
الفرق الفارق الوحيد يبقى في كيفية التعامل مع المرض أو شبه المرض هذا، ودرجة حدّته التي هي عندنا في بلادنا العربية من تلك المستعصية عند تطور المرض. إلا أنها أيضا مما يسهل علاجه إذا عرفنا كيف نحافظ على عاداتنا في عدم اعتبار مرض ما ليس هو، إذ الألزهايمر من الخرف، أي الهرم العادي للمخ رغم تجلّيه غير العادي. فالألزهايمر، وقد خُص بيومية، ليس إلا شبه مرضٍ، ما صيّره المرض الذي نعرفه إلا الجشع المادي للصناعة الصيدلية؛ وهو كذلك في صبغته السياسية. وللنمطين دواء واحد وحيد اليوم لا غير، هو المعالجة بالقبل bécothérapie التي هي في االسياسة bécopolitique ونظام محبة ordo amoris، وقد تحدثت عنهما مطوّلا في اليومية السابقة.
السؤال الآن هو : كيف نحب غيرنا ونحن غير قادين على محبة أنفسنا المحبة الحقيقة، تلك التي تقبل بذاتنا كما هي، بحسناتها وسيئاتها، بشرورها وذنوبها، إضافة إلى خيرها وبرها ؟ نعم، إن العديد منا لا يحب غيره فلا يعرف إلا نفسه، إلا أنه في ذلك لا يحب نفسه في الواقع رغم كرهه لغيره، بل هو يكره حقيقة ذاته بما أنه يكره غيره؛ لأن كره الآخر هو الكره الثابت لذاتنا، ما دمنا لا شيء بغير هذا الأخر. إنه حقا وحقيقة المرآة لنا، بل هو أيضا تلك المرآة بلا قصدير، نتمعن فيها ولا ندري أننا في نفس الوقت نظهر على حقيقتنا للغير، تلك الحقيقة التي لا نراها كما لا نرى عيوبنا، بل ذاتنا كلها؛ فهي إن تبدو دوما في صورة مغايرة لما نعرفه، ليست خيالية، بما أننا نتاج الآخر كما تصرف الآخر نتاج تصرفنا.
كم من مرة سمعت نقد زيدٍ لمجتمعه وكأنه ليس منه، وكم من مرة تذمّر عمرو من مساويء الناس وهو لا يرى مساوءه التي تغذيها لا محالة، لأننا كقطرة الماء الذي يملا الكأس، لا تفيد وحدها، ولكنها تفيضة أو تساعد على ملئه. أقول هذا لأنه لا مناص من عودتنا إلى أنفسنا قبل الحكم على غيرنا، أيا كان، وإعطاء المثل قبل المطالبة به عند الغير. وما من شك أن في ذلك الصعوبة القصوى لأن إعطاء المثل من شأنه أن يجعلنا من العلو ّبمكان، في مكانة الأنبياء والأولياء. ولا غرو أن مكانة الأنبياء والأولياء ليست دوما بالمستحبة إذا حكمنا عليها حسب معاييرنا الدنيوية؛ فكم من نبي وولي لم يلق إلا القتل والتنكيل من أهله !
إلا أن هذا مما لا مناص منه إذا أردنا التصدي إلى الاصلاح وطلب الأمثل؛ ذلك أن الطالب الحق للأفضل عليه دوما أن ينظر إلى الشمعة وهي تحترق ذائبة ولكنها منيرة في نفس الآن. فهل نريد إصلاح العطب بالإضاءة على الأقل فالتنبيه عليه ونقبل بالاحتراق والذوبان أم نخيّر الظلمات ومطباتها ولا نحترق ؟ عندها لا بد من البداية بقبول ظلمة أنفسنا والتعامل معها على حقيقتها، لا نغطيها إلا في أفضل الحالات بما لا يعدو أن يكون من الأنوار الاصطناعية، هذا الزخرف الكاذب الذي لا فائدة منه تحت ضياء الشمس الساطعة.
إن تصرفاتنا، بما فيها المظاهر المهرجانية، تعكس على حقيقتها ذاتيتنا، لذا علينا أن نعتبر بها ولا نحكم على الآخر إلا بعد الحكم على تصرفنا أو له؛ فالتصرف هو مفتاح الحكم السديد على الغير أو له. نحن إن انتبهنا لأدركنا هذا الاتصال الوطيد الذي يخفى من شدة بيانه بين التصرف المعتاد والحكمة السنية في التصرف التي هي هذا التصوف في مظاهره الشعبية وإن اختلف عما عرفناه عند أقطاب الصوفية؛ فلا يميز بينهما إلا حرف وحيد وتبدل الزمن. إذا عرفنا ذلك وتمعنّا فيه، هان الأمر لتحسين تصرفنا حتى نسهر على جعله من التصوف، وهو من أفضل التصرف الذي أثمرته ثقافتنا في علميتها المستهجنة اليوم وعالميتها الثابتة رغم جحود زمن أسود غربيب، هو في نفس الوقت زمن الجماهير، زمن المهرجان الشعبي.
إسلام زمن المهرجان
هناك من المسلمين من في قلوبهم مرض أو في عقولهم غفلة يقولون بأن الإسلام دين لا حرية فيه للعبد، فيمكن للبعض استعباد البعض باسمه تعالى، ثم التصرف في حياة الناس، بل التجاوز إلى قبض روح بعضهم، بينما لا يقبض الروح إلا الله ولا يسلّم العبد نفسه إلا له؛ ذلك هو الإسلام الذي غاب عن مرضى القلوب وغفلى العقول.
من هذا الإسلام أيضا في تجلياته الشعبية ما نذكر اليوم في مظاهر المهرجان، وليس هو إلا المثال الأقصى من أمثلة عدّة اختلط الصحيح فيها بالخطأ فسهونا عن الصحيح في ديننا الذي شوّهناه أخذا بالخطأ كما نرى بداعش. إن الدين في تجلّيه المهرجاني سليم التوجه النفساني، بما أن المهرجان يضمن من الزواية الاجتماعية تأصل دين القيّمة في نفسية المؤمن ورسوخه بها كما قلنا.
لعله من الضروري التذكير هنا أن من المعانى الأصلية للحلال انعدام الريبة، ومن ذلك المجاز : الحُلو الحلال، أي الكلام الذي لا ريبة فيه؛ ومنها أيضا حلّ العقدة والنزول بالمكان الآمن؛ فكلها ترمى إلى ما فيه اجتماع أمنى متسامح. وحتى فقها، أي ما يقابل الحرام، فالحلال هو المطلق شرعا سواء بالإذن أو بغير الإذن؛ وبذلك فهو يشمل المباح والمندوب والواجب والمكروه؛ هذه كلها من الأمور التي تتغير مع تغير الزمن وتطور الأذواق، فيبقى المهم التعايش السلمي في كنف دين الإسلام الذي هو أولا وقبل كل شيء سلام. وهذا ما يتناسب مع زمن الاحتفال والمهرجان.
بذلك قُلت وأكرر هنا أن الخاصيات السابقة الذكر مما يؤهل الإسلام أن يكون بحق دين ما بعد الحداثة بلا منازع. فالوقت حان أن نأخذ بمقتضيات زمننا الحاضر بإعادة قراءة ديننا والفقه الذي ليس هو إلا اجتهاد من اجتهد من علماء الإسلام حتى نرفع عنه كل ما شانه ويشينه، جاعلا من ديننا الحنيف مطية لكل من يريد الإساءة له إلى حد الإجرام، كما نرى ذلك في شرق غوى إلى حد إحياء الجاهلية باسم الإسلام؛ فيا لها من فظاعة ! ولا شك أن الأفضع هو أن نجد بين ظهرانينا من يتجرأ على اعتبار هذه الجاهلية الجهلاء من الإسلام، قالبا بذلك الأمور رأسا على عقب.
إن المسؤولية لعظيمة على من يتكلّم اليوم باسم الدين، خاصة بين من يحكم بلاد الإسلام، فيقر ما ليس فيه من قمع لحرياتٍ يعترف بها الإسلام وقهرٍ لحقوق المؤمن الذي أراده ديننا هذا العبد الحر الأبي الذي لا يسلم أمره إلا لخالقه. لقد جاء الإسلام بتحطيم الأصنام، كل الأصنام، وها نحن أولاء أمام أصنام جديدة من النوع المعنوي يقيمها البعض ممن يجعل نفسه الطاغوت الرباني الذي يستعبد العباد، وما استعبدهم خالقهم. فكفى المسلم الحق اغترارا ! لقد حان للإسلام، ونحن على رأس مائة سنة جديدة، أن تتجدد قراءته لرفع كل ما دنّسه ابتغاء إطفاء نوره، ولا انطفاء لنور الحق ما دام في الحياة رمق !
رأيي في ذلك، وقد قلته وأكرره للذكرى التي تنفع المؤمنين، أنه حان الوقت لأن نمر برؤيتنا للإسلام من إسلام الحداثة، وقد اندثرت الحداثة كما عرفناها، إلى إسلام ما بعد الحداثة، إسلام الجماهير والمهرجان، كل ما يميز زمننا الحاضر؛ وهذا يقتضي منا التجاوز بالتعامل الموضوعي أو – حسب عبارة زعيم الحزب الإسلامي – مرحلة الرفض النسبي لواقع الحال بتونس، إلى مرحلة جديدة هي مرحلة النقد الذاتي أو القبول النسبي والنظر والتعامل الموضوعي مع الأطروحات الإسلامية ذاتها. طبعا، ليست تلك الخاصة بالعقيدة، بل كل ما يخص المعاملات، هذا الجانب الثاني الموازي للعبادات والذي يتكون الدين الإسلامي منه ببعديه الأساسيين، مما يجعله في الآن نفسه الدين والسياسة بمعناها المدنيو أي ما يخص المدينة. إذن ليست هي سياسة إيديولوجية كما قُرأت إلى حد الآن، بل سياسة بالمعنى الصحيح، أي عمران بشري ومدنية. يكون ذلك بحق ما يمكن تسميته بالإسلام التونسي لما فيه من تفاعل حقيقي بين الفكر الإسلامي الحر وبين الواقع بتونس الذي أساسه البعد الحضاري والحرية المتغلغلة فيه، المغرقة قدما في التاريخ.
كيف يكون هذا ؟ باعتماد لفظ الشيخ الغنوشي، يكون بالعودة إلى «مرونة وعمومية وعقلانية النص الإسلامي وغياب مرجعية كنسية» في الإسلام. وأيضا، وكما ذكر الشيخ، لأن «الحركة الإسلامية في تونس ذات خلفية فكرية متنوعة تداخلت فيها في محصّلة التحليل عناصر ثلاثة : التدين التونسي التقليدي المؤسس علي التصور أو المذهب المالكي (وأضيف أنا التصوف ومكانته بمختلف ثنايا المجتمع)، والثقافة الإصلاحية المشرقية، والثقافة العقلانية الحديثة».
نعم، إن الحركة الإسلامية بتونس، وقد نجحت في المرور من عقبات مراحل سابقة فتطورت ولاقت النجاح، لحري بها اليوم العبور بالفكر الإسلامي من فترة غدت شاهدا من الماضي إلى أخرى، ألا وهي الشاهد على الحاضر والمستقبل. إن الفترة التي ولّت وانقضت، لهي فترة الحداثة الغربية؛ أما الفترة الجديدة فهي تلك التي تنصهر فيها كل مقومات الحداثة بدون حدود – بما فيه ما أسميته الحداثة التراجعية أو السابقة لأوانها rétromodernité، وكانت تلك حداثة الإسلام عند ظهوره، وهي اليوم من مكونات ما يعرف بما بعد الحداثة.
هذا الإسلام ما بعد الحداثي، الذي يمهّد له إسلام المهرجان بتونس، هو إسلام كوني وعلمي. كونيته في أنه خاتم الأديان وأن الرسالة المحمدية لا ترفض ما سبقها من أديان الكتاب، بل تقرّها حتى أنه يمكن اعتبار الإسلام بمثابة العهد الأخير ultime Testament من الله إلى عباده، ذرية إبراهيم. والأحاديث النبوية كثيرة في هذا الميدان للتأكيد على أن الإسلام ليس إلا جزءا من الإيمان بالله، وأن التوحيد لهو أساس الإيمان قبل أي شيء آخر من مظاهر العبادات رغم أنف كل من ضاق إيمانه فربطه بظاهر الشعائر. ولعل الحديث الصحيح المأثور عن الرسول مع أبي هريرة لأكبر الدليل على ذلك كغيض من فيض تسامح الإسلام وتفتحه على كل مظاهر الإيمان بالله.
أما علمية الإسلام، فحدّث ولا حرج، حيث تعددت الآيات الكريمة المؤكدة على ضرورة العقل وإحكامه في أمور الدنيا والتزام العمل به ! إن الدين يدعو الإنسان لاستعمال عقله في كل ما يخصه، عدا الأمور العقائدية؛ وقد سن الله الطريق لعباده في ذلك بمنهجية القرآن العقلية وبأن نسخ أحكاما فجاء بأحسن منها. أليس ذلك منه أفضل الأدلة لانتهاج هديه من طرف خلقه في كل ما يخص حياتهم الدنيوية ؟ كيف لا يهتدي الإنسان بالقدوة الإلاهية فينسى أو يتناسى العمل بأحكام لا علاقة لها بالعبادات، ولكنها تخص حياته اليومية، كالأحكام المتعلقة بحالة العبودية – وكان ذلك فعلا من المسلمين -، ولكن أيضا بما يتعلق بمواضيع أخرى كقطع اليد أو الرجم، تلك الإحكام التي، وإن كانت ثورية في زمن البعثة، طالتها سنّة الله في طبيعة البشر فبليت ولم يعد يستسيغها العقل ولا يقبل بها الدين في مقاصده ؟
لقد قال زعيم الحزب الإسلامي في كتابٍ له أن حزبه مر بحركته من الفكر السياسي لسيد قطب وتكفيره الشامل للأنظمة، إلى الكشف الخميني واستيعابه للصراعات الاجتماعية بمنظومة المستضعفين الإسلامية، فشعر عندها «كما لو أن الفكر الإسلامي من قبل لم يقرأ» آية من آياته (آية المستضعفين). أليس حان الوقت اليوم لأن يكون دور النهضة التاريخي، وهو متمكن بمقاليد الحكم، إعادة الاعتبار لتفكير إسلامي ما بعد الحداثي من شأنه أن يبوأ الإسلام مكانته الحقيقية كدين كوني وعلمي، مؤكدا بذلك بأفضل الوسائل على صبغته الأزلية ؟ فلا يكون هذا إلا بتفعيل دعوة القرآن الصريحة والملحة لإحكام العقل في كل شؤون الدنيا، والعمل على أن يقرأ المسلم أخيرا تلك الآيات التي لا تُحصى ولا تُعد والتي إن دلت على شيء فعلى عقلانية الإسلام وعلميته بلا أدني شك علاوة على قابليته للمهرجانية، كما اضطُر لها المسلمون قهرا وتحيلا للعيش.
لقد فعلنا الأفاعيل بهذا الدين مما أوجب على أهله من أبناء الشعب على التصرف فيه للتٍأقلم مع مقتضياته الرسمية إلى حد جعله احتفالا ومهرجانا مع كل ما يحدث من غلوّ ومغالاة في مثل تلك المناسبات من مجون وعربدة. هذا هو إسلامنا اليوم، إسلام مهرجانات بما فيها من قصف؛ وليس هو حقيقة إلا قصف الضعيف البريء للتصدي لقصف القوي الجائر. خلاصة القول أننا جنّسنا الدين بينما لا جنس فيه؛ فهل في الروحانيات جنسية؟ هل الملاك ذكر أو أنثي؟ هكذا بقي الفقهاء في جدال عقيم حول جنس الملائكة، هذا النقاش البيزنطي الذي غدا إسلاميا، والذي لا تفقهه الجماهير، مما حدا بها إلى ابتداع إسلاما لها هو الإسلام المهرجاني، إسلام ما بعد الحداثة. فإذا كان للجنس دخل له في الدين، فأولى أن يكون في الحياة إذ هو منها من جهة وهو كل الحياة الخصوصية من جهة أخرى.
إن الإسلام الشعبي اليوم في بلاد الإسلام مهرجانيّ، بما في ذلك من حسناتٍ وسيّئاتٍ، لأنه يبقى بذلك كلمة السواء الإسلامية في تجلياتٍ شعبية متأقلمة مع محيط القوانين الجائرة والتصرفات الرسمية المتسلطة على حريات العباد. فما يمكن أن تكون غدا كلمة السواء في الإسلام التونسي الذي عرفنا الآن خصوصياته، خاصة وأنها زادت بعد الانقلاب الشعبي، ثورة تونس ما بعد الحداثية؟
كلمة السواء بتونس
إننا عند قبولنا بالغوص في دنيا مظاهرنا بمهرجاناتها الشعائرية نقدر أخيرا على التوجه للضمير الحي بكلام يسمعه من لم يمت ضميره السياسي والإسلامي على حد السواء؛ وهي أن الإسلام الشعبي التونسي سلام أولا وقبل كل شيء في مظاهره كمهرجان. ليست الحنيفية المسلمة بحرب بتونس ولا هي خدعة، ومن ظن ذلك فقد جهل عن علم؛ وليس أقذع من ذلك وأبخس علما، لأنه من الفجور الذي يراد به الفضيلة.
الإسلام التونسي دين ودنيا، وهو كدين لا يعتد فقط بالشعائر، إنما الدين أولا ثقافة وأخلاق؛ فلا دين لمن لا يسلم الناس من يده ولسانه وسوء نيته؛ ولا دين لمن لا يصدق ظنه ويحسن فعله وعمله؛ ولا دين لمن يحكم على غيره بالظنة. والإسلام كدنيا سياسة صادقة النوايا، نزيهة الأفعال؛ فلا كذب ولا غش ولا بديع في القول ولا زخرف في الفعل، خاصة إذا أريد به الباطل؛ ومن الحق ما لا يراد به إلا الباطل ! لذا، قلنا إن الإسلام في السياسة أخلاق أو لا يكون poléthique. والأخلاق تقتضي سياسة كلمة السواء، وهي اليوم في الالتزام بمقصد من مقاصد الشريعة، كما هو مكسب من مكتسبات الثورة، أي حرية العبد، حرية التونسي وقد مجدها الإسلام وأعلتها الثورة.
التونسي اليوم حر أبي، فلا يُستعبد من جديد. رغم هذا، نحن نرى الأحزاب تسعى لذلك، فتعمل جاهدة لاستعباد التونسيين خاصة وأن الشعب فقد اليوم الثقة في نخبته الحاكمة ولا مجال لأن يستعيد الشعب الثقة في من ساسه ويود سياسته إلا بكلمة سواء سياسية تكون فيها الأخلاق هي الأساس. هذه الكلمة هي إرجاع السلطة للشعب حالا وبدون مماطلة، ولا يكون ذلك إلا بتفعيل ما في الدستور من مكاسب فرضها الشعب من خلال مجتمعه المدني. فلا بد من الكف عن التلاعب بالألفاظ والمعاني، بما في ذلك الانشغال بالانتخابات بينما الدستور لم يفعّل بعد تماما؛ ففي هذا الوضع، ليست هي إلا صورة لتكالب الأحزاب على الحكم ونهم السياسيين لملاذته، إذ مردوا عليها فلا يقدرون الاستغناء عنها. إنها، كما بينّاه في اليومية السابقة، ليست الديمقراطية، بل الديمومقراطية، أي الصحراء قاحلة، حكم الشعب فيها سراب وسيادته وهم، فهي الصحراء أو الديموم التي لا تكثر فيها إلا شياطين الحكم ومردته.
الديمقراطية الحقة اليوم، وهي الديملوكية، أو سلطة الشعب، تفرض إعادة الكلمة إلى الشعب، ويكون ذلك بالنسبة للانتخابات الجهوية والمحلية بالإحترام الحقيقي للدستور في تفعيل حقوق المواطنة كلها بما فيها أحقية القرار ومراقبة النواب، وإلا لا تسعى إلا لإحكام قبضة الأحزاب الكبرى على البلديات في حرصها على التمسك بالحكم والاستحواذ عليه في كل مفاصل الدولة. سيادة الشعب اليوم لا تكون إلا بتعاطيه أموره في بلدياته وولايات في نطاق لا مركزية حقيقية؛ فهذا هو الذي من شأنه أن يعيد ثقته في السياسة حتى لا تكون حكرا، كما هي الآن، على قراصنتها ومردة الحكم فيها الذين همهم الوحيد مصالحهم لا كلمة الشعب. ولا أدل على ذلك إلا ما تشحّم من كروشهم وتفحش من ثراء في معاشهم، ناهيك عن تضخم ثرواتهم وابتغائهم دوما للمزيد.
نموذج المهرجان التونسي
الانقلاب الشعبي التونسي كان إرادة المواطنة في التيقظ للحياة وقد اشتد الظمأ بتونس إلى رغبة الحرية التي لازمت التونسي وتلازم جوعه الدائب إلي حياة الدعة والكرامة. هل اندثر حقا المد الثوري وغارت عيون تطلع الشعب لأفق أفضل على مشارف سنته السادسة ؟ لا أعتقد ذلك !
فلم تكن الثورة التونسية تلك الثورة العادية كما عرفناها في الزمان الماضي، بل هي هذا الفوران الشعبي الذي نراه يوميا في شوارعنا والذي سيتواصل ويدوم لأنه سمة من سمات زمن مابعد الحداثة الذي أضلنا. نعم، لقد عملت الأيادي الخفية حتى تكون الكلمة الأخيرة للشعب في التخلص من السلطة الظالمة؛ لكنها ما كانت تفعل شيئا لولا الانقلاب الشعبي العارم ورغبته الجامحة في الانعتاق من ربقة حكم جفت منابع الحياة فيه، فكان ساقطا ضرورة كالثمرة التي أينعت وأصبحت مهددة بالتعفن؛ لذا سارعت الأيدي لقطافها لحاجة في نفس يعقوب.
إنها ما كانت لتنجح إلا بما قام به الشعب من انقلاب على المفاهيم، إذ جعل إرادته تعلو لا محالة، عاجلا أو آجلا، إرادة السلطة في عصر هو زمن الجماهير بلا منازع. لذلك عمل البعض على إشاعة فكرة الثورة لاستبدال ما كان يبدو انقلابا، رغم صفته الشعبية الثابتة؛ فأصبح الانقلاب الشعبي في الأذهان بحق ثورة، الشيء الذي أدّى إلى عرقلة الصورة التي كانت مقررة من تواصل النظام السابق على هيأته مع تعديل طفيف على مستوى الرأس. وما كان لمن لم يقرأ للشعب حسابه إلا أن يذعن؛ هكذا كان الأمر لا مجرد انقلاب سياسي.
بذلك عسر تطبيق المخطط الأول كما كان يتمناه البعض القاضي بفتح أبواب البلاد التونسية على مصراعيها للتجارة الحرة كسوق جديدة للغرب المادي بعد أن احتكرته عائلة الرئيس المخلوع. إلا أن المخطط لم يفشل تماما لما في البرنامج الاقتصادي للحزب الإسلامي، وهو الورقة الرابحة في يد الحليف الأمريكي، لما له من توجه رأسمالي كان من بين الأسباب الهامة التي جعلت زعيمة الغرب تراهن عليه كبديل للسطلة التي ساهمت في إسقاطها.
لكن الشعب التونسي عرقل مجددا حسابات الجميع عبر مجتمعه المدني الذي تمسك بكل مباديء الانقلاب الشعبي، جاعلا منها مباديء ثورية تستلزم التطبيق. وهو اليوم في حراكٍ مستمرٍ لأنه آمن ويؤمن بثورته؛ فهو بلا يكتفي بمجرد التغيير الحاصل على المستوى الصوري، هذا الذي أُريد منه مجرد انقلابٍ سياسيٍ، بل يعمل جاهدا على أن يكون انقلابا شعبيا حقيقيا، أي ثورة على كل ما بلى في السياسة فابتُلي به سنوات عدة. بل هو لا يقبل بعد بما بلي من حوكمة اقتصادية ودينية، حيث لم يعد يرضى بما دأب عليه الشأن في العلاقات الدولية والتجليات الفقهية، فيطالب اليوم بنصيبه من الحقوق والسلط التي هي ميزة الديمقراطيات، ومن آليات تضمن دولة القانون ومن حرية في كل شيِء.
إن الشعب لن يهدأ طالما لم يحصل على ما يطالب به من حقوق وحريات، وهي لا تُضمن إلا في نطاق مجمتع آمن ودولة قانون؛ ولا مجال لهذا في زمننا الراهن إلا بتفاعل محسوس وملموس بين ديمقراطيته الهشة والديمقراطيات الغربية العريقة. وهذا لا يُعجب ضرورة ممن عهد انعدام دولة القانون لأجل مصالحه التي تقتصر على حرية التجارة في نظام رأسمالي متزمت الدين، لا يعتبر للمجتمع حقوقا غير حقوقه كمستهلك لضمان تعهده بواجباته في التسوق والتسلع. نعم، هناك الكثير من أصدقاء بلدنا في الغرب ممن همهم الأوحد أن تكون تونس مجرد سوق للتجارة والتسوق؛ أما أن تصبح بحق دولة قانون تُحترم فيها الحريات والحقوق بما فيها الدينية، فليس ذلك بالمهم لما يمكن أن تكون فيه من عرقلة للسلاسة التجارية، خاصة عندما هي من نوع الرأسمالية غير المعقلنة أو الشرسة.
إلا أن شعب تونس اليوم لم يعد يرضى بذلك وقد أصبح انقلابه ثورةً بحقٍ في مخيلته بكل ما ترمز إليه من تغيير جذري للمفاهيم، فهو في هيجان مستمر وفورة لا ينقطع؛ وهذا في حقيقة الأمر هو الذي يغذّي هيجانه الديني وينمّيه في مختلف مظاهره، من مهرجان شعبي إلى هيجانٍ دينيٍ متزمتٍ. فهو يسعى بكل الوسائل، الحسنة والسيئة معا، ويواصل جاهدا السعي حتى تكون ثورته ملائمة لطبعه وتطلعاته في العيش بطلاقةٍ حياته ودينه. وهذا هو الذي يجعل بحقٍ من انقلابه الشعبي ثورة مثالية للعالم أجمع، لعلها تأتي بتغييرٍ جذريٍ في التصرف السياسي والحوكمة الرشيدة بين الدول والشعوب.
هذه السنة السادسة للثورة التونسية على الأبواب، وهي سن البلوغ في عمر الدول؛ لقد حان فيها الوقت للشعب عبر مجتمعه المدني للتعبير بكل طلاقة عن تطلعاته التي بدت واضحة في مهرجانه الشعبي، وما اختص به من أهداف ومقاصد لعلها لا تبدو واضحة إلا للعارف الدارس لخبايا المجتمع التونسي. كانت السنوات الخمس الأولى الفرصة لامتحان القوى السياسية على الساحة العامة، فبانت عيوب البعض ونقائص الآخرين، وأصبح الشعب على علمٍ بحقيقة الكل يناقشها وينقضها بطريقته الشعبية في تصرفاته المهرجانية بما فيه من عربدة ومجون ديني لا يختلف كثير الاختلاف عن عربدة ومجون الساسة والفقهاء، إذ هذا من باب مداواة العلة بالعلة؛ فالشعب التونسي، كما قال الشاعر، داوى ويداوي علاته بما كان فيه الداء.
الأحزاب اليوم لم تعد تمثل أفضل ما في الديمقراطية، ولا النواب لهم امتياز تمثيل الشعب؛ لذا سنرى الثورة التونسية في سنواتها القادمة تعمل أكثر فأكثر على تفعيل أنموذجها الذي يعتمد على جمعيات المجتمع المدني وعلى السلط المحلية والجهوية في ديمقراطية مهرجانية أكثر من أي وقت مضى، أي هي جماهيرية بكل ما في الجماهير من طالح وطالح. هذا ما سمّيته ما بعد الديمقراطية؛ فيها السلطة حقا للشعب، كما هي الحال اليوم في المهرجان الديني الذي من شأنه غدا، سياسيا، أن يتمثّل في مجالس محلية وجهوية منتخبة لها القرار السياسي حقا وحقيقة. فكما يمارس الشعب اليوم حرياته بصفة عشوائية مهرجانية، يمارسها غدا عبر آليات دولة الحقوق الشعبية ومجتمع الحريات.
لا شك أن للإسلام الدور الكبار في بناء صرح هذا المجتمع لأنه مقدّر للإسلام السياسي النجاح في تونس؛ غير أنه ليس ذلك الإسلام الذي عهدناه في السنوات الأخيرة، ولا النسخة المشوّهة منه التي نراها بالشرق. إنه إسلام التسامح والمحبة والتآخي. ولا يُستبعد أن تعطيه الصوفية التونسية البعد السياسي عاجلا بعد أن تنظّم صفوفها للتصدي للخطر السلفي؛ فالإسلام بتونس بحاجة لمن يتكلم باسمه ويعطي عنه أفضل صورة. وليس أفضل من أهل التصوف في ذلك، إذ هم في قلوب كل التونسيين، حيث لا تخلو مدينة ولا قرية من وليّ صالح. فالإسلام التونسي، باعتراف الإمام ابن عاشر، مدين كثيرا للجنيد السالك، أحد أعلام الصوفية بلا منازع. قناعتي إذن، انطلاقا مما أرى من إسلامٍ مهرجانيٍ في شوارعنا، بما فيه من مظاهر مخزية، أن السنة القادمة للثورة التونسية ستكون حاسمة مع تحرك أكبر للإسلام الصوفي التونسي وولوجه معترك السياسة لدحر المظاهر الكاذبة المدّعية تمثيل الدين الإسلامي وهي تشوّهه.
ما من شك أن الصوفية السياسية هي القادرة وحدها اليوم على إنجاح النوذج التونسي للإسلام السياسي بأن تجعل من بلدنا قِبلة الإسلام (بكسر القاف) وقُبلته (بضم القاف) لكل مؤمن، أيا كان معتقده، آمن بالحرية وتطلع للكرامة على هذه الأرض. وإن مثل هذا المستقبل لتونس ليتلألأ في عيون شبابها وشعبها الكادح نهار مساء في زمن سلطتهما بلا منازع. فيكفي النظر في عيون شعبنا لتبيّن ملامح هذا الغد الزاهر، لأن عيونه كلها أمل، والأمل إرادة، وإرادة الشعب لا تُقهر اليوم. إن غدا لناظره لقريب، وهذا ما أرته لي المقادير.
تونس الإمتاع والمؤانسة
إن الرؤيا في الإسلام حق، والحق يعلو ولا يُعلى عليه رغم جهل الجاهلين وكيد الكائدين ! والرؤيا هي من الحلم الصادق؛ ولقد عنّت ليلة نزول القرآن. وها أنذا، كتحية للتونسيين في ليلة العيد أو الليلة السابقة له، حسب القرار السياسي الديني، أشاطر هذه الرؤيا أحبّائي؛ إنها تحيّة لكل تونسي تعلّق حقا ببلده وأرادها جميلة مشرقة، دائم التجدد؛ فلعل رؤياي تكون غدا هذا الحلم الذي يتحقق ! ذلك أن تونس الجميلة هي، كما هو الحال للإسلام الأغر الذي أعتقده ويعتقد فيه كل تونسي حق غيور على بلده ومتعلق بذاتيته، محبة وأخاء وتسامح وسلام.
هذا الدين السمح، وليس ذلك الإسلام السمج الذي يحلم به البعض، متجذر في تونس كتفتحٍ مستديم على الآخر، بكل ما في هذا الآخر من اختلاف وائتلاف مع عاداتنا وتقاليدنا، وعلى أفضل ما في الغير مما يتم به التواصل والتكامل بين البشر. فهو لا يعير أية أهمية لما يمكن أن تكون في بني آدم من هنات الطبيعة البشرية التي لا يخلو منها أحد، حيث خُلق الإنسان ضعيفا ناقصا. وهذا ما رأيت.
رأيت تونسنا قدوة لجميع بلاد العالم لفتحها باب تجربةٍ سياسيةٍ رائدةٍ عمادها تعاملٍ نموذجيٍ مع دين الحِلم والإغضاء عن النقائص، هذا الدين الذي يأخذ هكذا دوما بمجامع القلوب. ورأيت ديننا بحق خاتم الأديان لعدم تمييزه بين المعتقدات واحترامه لها جميعا في خصوصياتها، مع سلامةٍ في تعاطي كل المعضلات بتغليب عقلٍ حساس لا يرفض ما تفرضه تجارب الأمم وغرائز البشر، كل البشر، من بديهيات.
رأيت الإسلام كما هو، على حقيقته، كدينٍ حضاريٍ هو ثورة على كل قديم مبتذل، بما فيه من روح عالية وأخلاق سنيّة تحتم الإحترام التام الذي لا لبس فيه بتحديدٍ لحريات الذات البشرية، ولا نكران لنوازعها وقابليتها للتطور والرقي بالمحبة، لا البغض والكره أو السب والعنف. ورأيت الإسلام كأقدس ما يكون لتقديسه للإنسان وللروح الآدمية، لأن في تقديسهما التقديس الصادق لخالقهما، إذ حمّل الله آدم أمانة البحث اللامتناهي عن حقيقةٍ لا يطالها أحد، فهي أفق يفرض على الباحث وعلى العالم، مهما ارتفع باعهما في العلم، الإقرار بجهلهما، وإلا فقد جهلا في الحين نفسه الذي يعتقدان فيه أنهما علما ! ورأيت الإمام الشاطبي يقول أن العالم من علم جهله والجاهل من اغتر بعلمه، وأن الإسلام يتوجب الاجتهاد دون لأي، عن حسن نية وحسب الأخلاق والمثل الإسلامية، إذ الاجتهاد حتى مع الخطأ يثاب في دين القيمة. فديننا علمي وفني، فيه السعيد من عُدّت سقطاته والعالم من قلّت غلطاته والفنان من يخطىء ليصيب.
رأيت التونسي يفتخر بثورة هي فاتحة عهد جديد للإنسانية جمعاء، لكونها هذا الفتح الثقافي والأخلاقي الذي قوامه القسطاس باسم دين العدل والمساواة والحرية، لأنه عقيدة وسياسة في نفس الآن؛ ليست العقيدة فيه ذاك الحكر على المرجعية الكنيسية، ولا السياسة فيه تلك الدكترة والتسلط على الشعب، وهو سيد نفسه ويبقى على الحال هذه ما بل بحر صوفة.
إن رؤياي تفصل المقال في ما للدين والسياسة من اتصال في تونس ما بعد الحداثة؛ قالت لي المقادير إنها رؤيا صادقة، إذ هي رؤيا كل التونسيين الغيورين على بلدهم، لا هؤلاء المتكلّمين باسم الشعب، وهو عنهم في شغل، همّهم اللهث وراء المناصب أو الأغراض الشخصية، سياسيةٍ كانت أو دينيةٍ. ولقد آن الأوان لهؤلاء أن يفسحوا المجال لمن يفهم الشعب حقا؛ فمثل بعضهم كمثل الكلاب التي تمر القافلة فلا تأبه بجريها وراءها؛ ومثل البعض الآخر كهذه الأحمرة والبراذين حاملة أسفار علوم الدنيا والدين ولا تعي ما فيها وما تفرضه عليها من إعمالٍ للعقل واجتهادٍ لا ينتهي، وقد نادى بهما ديننا الحنيف.
إن الشعب التونسي لهو من الذكاء والفطنة مما يجعله لا يحلم فقط كما أنا أحلم، بل يعمل على تحقيق أحلام جميع أبنائه البررة؛ وهو يعلم أن حلمي هذا هو رؤيا حقيقتها تتراءى شيئا فشيئا على أرضه الطيبة وتحت سمائه الزكية، الأرض التونسية، هذه الربوع المؤنسة، لأنها دائما وأبد الدهر أرضية سلام. تلك هي تونس وهكذا تدوم لشعبها، فيها إمتاع ومؤانسة، فهي تؤنس على الدوام إذ فيها الدين مهرجان ثلاثية إسلامية : المسجد والزاوية والإناسة. فالجامع بمعناه الموسّع، أي المسجد و الزاوية والرباط لهو الجامع لخير ما في النفس من ضمير وفؤاد وغيرية، تعتبر الآخر متمما للأنا؛ هذا هو الإسلام الذي فيه الغيرية، قبل القبلية، وفيه القبلية قبل الذاتية والفردانية في عالم أصبح زمن القبلية المابعد حداثية.
هلا حرصنا إذن، في نهاية رمضان هذه السنة، على إحياء مثل ومباديء، بل علوم وفنون الدين كلها، في أنفسنا وفي عقليتنا، حتى لا تموت في ذهننا وفي حياتنا مباديء هذا الدين السمح، لأن فيها موت الأخلاق كلها؛ فليس ممات التسامح في القلوب واحدا، بل ممات كل الدين مماته ! إني أرى، كما يرى البحار القرقني وكل بحارة البلاد، «أن الريح واري». فهلا تقدمنا إذن إلى الأمام بقارب تونس الهائم على وجهه يهزه الموج كما شاء له وأراد ؟ إلى الأمام، يا قارب تونس الجميلة، باعتقادٍ راسخ أن المقادير معك في حماية أولياء هذه التربة المتقدة إيمانا صحيحا روحانيا صوفيا، أصح الإسلام وأصدقه !
بهذا يمر الإسلام المهرجاني اليوم من مجرد مظاهر إلى ما يهز القلب من الحب الذي في سموه وضرورته لحياة آمنة مؤمنة يعلو الدين، بما أن الدين الصحيح هو الحب كما سبق أن قلنا. ولنكرر هذا بذكر أحلى ما قيل في الحب، هذا البيت الرائع لأبى الطيب المتنبى من قصيدته التي مطلعها «كم قتيل كما قتلتُ شهيدِ» :
يترشفن من فمي رشفات | هن فيه أحلى من التوحيد
فهلا أحيينا تعاليم ديننا كدين الحب والمحبة حتى يترشّفه المؤمن وغير المؤمن كأحسن مظاهر الحب؛ وقد علمنا أنه لا أعشق من العربي ولا أحب لله من الصوفي ! لهذا، أختم هذه اليومية قبل الأخيرة ببلاغة المتيّمة في حب الحق، رابعة العدوية، التي تقمّصت حبّها لله أروع تلخيص. ولا شك أنها كانت في ذلك من أورع المؤمنات، تماما كالمرأة التونسية التي هي بحق مستقبل البلاد والإسلام طبعا، لا فقط بتونس بل بالعالم طرا؛ بهذا شعر رابعة أيضا في تونس الإمتاع والمؤانسة :
أحبّك حبّيْن حُبّ الهوى | وحُبّاً لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حُبّ الهوى | فشغلي بذكرك عمّن سواك
وأما الذي أنت أهل له | فكشفك للحُجب حتى أراك
شارك رأيك