يكتبها فرحات عثمان
هذا آخر يوم في رمضان، وهوذا عيد الفطر يطل ككل سنة بأفراحه ومسراته، فهل تنسينا أتراح هذا الشهر المبارك الذي مر في لمحة البرق فما صمناه حقا ؟
أليس الصوم عن كل ما فيه إساءة لغيرنا، فهل صمنا عنه ؟ أليس الصوم العزوف عن أوساخ الدنيا، فكيف يتواصل هذا التكالب عليها في عز رمضان ؟ لقد رأينا، مثلا، العديد من الوجوه السياسية ممن له اليوم كل الامتيازات يطلب المزيد بتقديم ملفٍ لدى هيئة الحقيقة والكرامة ضمن 65 ألف ملف، ومنهم السيدان راشد الغنوشي وحمادي الجبالي؛ فكيف ندّعي العمل لخير الشعب الفقير وهمّنا المزيد من الثروة ؟
نعم، تجب العدالة ويتوجب ألا تكون انتقامية؛ إلا أن العدالة الحقة، نظرا لما فيه البلاد والشعب من حال مزرية، ليست بالتعويض المادي، وهذا هو الدور الأساسي للهيئة، والذي تحرص عليه دون الحرص في نفس الوقت على إعطاء المثل في احترام القانون؛ والحال نفسها مع الساسة وهم لا يستحون من البحث المتواصل للزيادة من المنافع لشخصهم حتى وإن كان ذلك على حساب الشعب.
سفينة بلدنا تتقاذفها اليوم الأمواج العتية، وهي أمواج المصالح الضيقة والنزعات الأنانية. ولكن تونس العزيزة ليست في مهب الرياح بقدر ما هي في يد المقادير؛ فلن تسعى هذه المقادير إلا لخير هذا الشعب الذي يستحق الأفضل. هذه قناعتي تلخّصها قراءتي الموالية في إسلام الغد بتونس اليوم وقد حركتها إرادة الحياة فلا بد أن يقودها فكر حر، تحرر من قيود الجمود به، وروح حية متطلعة للأفضل، أي كل ما مكّن الإسلام أن يكون حضارة عالمية تنويرية والذي بانعدامه جعل منه ظلمات اليوم الدامسة، ففي ذلك الأمل لأن يخرج منها لتعود له أنواره المضيئة.
الإسلام اليوم وغدا
نعم، الأمل نور في القلب يجعله الله فيه لكل من صفت نفسه وسعى لما فيه الخير والبركة لغيره قبل نفسه. هذا ما أجبت به صديقا لي من المغرب سألني، وقد أخذ به كل مأخذ ما يفعل الغوغاء باسم الإسلام : «كيف أبقى مسلما بعد هذا الذي نرى؟» وقال مستدلا بكلام فنان مثله مرهف الإحساس: « للأسف، المسلمون لا يفكرون إلا بالسلطة والمال؛ والله ، في عُرفهم، ليس إلا ذريعة لتبرير مصالحهم الشخصية… فما يحدث في العراق أو باكستان هو تكرار حرفي لِما حدث في جزيرة العرب في زمن محمد بن عبدالله ، نبي المسلمين… الإسلام بقي جامدا في تلك النقطة ولم يتطور قيد أنملة منذ انطلاقته الأولى، أي منذ حوالي 1435 عاما، ولن يتطور أبدا كما تطورت المسيحية التي استطاعت أن تتكيف مع تحولات العصر…»
ثم أضاف، مؤكدا ما لا يقبل النقاش : «إن العطب الكبير هو إسلام الشريعة… جُبن الكثيرين ومجاملاتهم وخوفهم يمنعهم من قول ذلك… وسأقولها و أكررها… الإسلام كابوس تاريخي على العقلاء والاحرارا من مسلمي “الوراثة” أن يضعوه وراء ظهورهم ، وعلى الحقوقيين أن يفتحوا عريضة عالمية تندد بفظاعات هذا الدين وخطره على الناشئة ومستقبل العقول الحرة والنفوس الأبية بل والحضارة الإنسانية برمتها…».
هذا ما يقوله صديقي، وهو من خيرة مفكري مغربنا، بل العالم العربي طرا؛ وليس وحده الذي يفكّر هكذا، وإن كانت له الشجاعة التي تنقص غيره للإدلاء برأيه الحر كمفكر حر. و أنا لا أقبل قيل صديقي رغم معزته الكبري عندي، بل لأجلها، إذ أعلم تمام العلم ما للقنوط من مأخذ على النفوس الأبية. فكانت إجابتي أن قلت له والحسرة تملأ فؤادى مع معرفتي أن ليس فيها فائدة : إن ما يتراءى لنا اليوم من الفهم المشوش لما يمكن له الإنقاذ من الهوة السحيقة التي نحن بها هو الفهم غير المعتاد لأسباب هذه الهوة، فهكذا يُنعت كل جديد حادث لم تعتده الأدمغة إذا تشبت بالمعروف المعهود. وهذا وإن كان مما لا أستغربه من العامة، فأنا بكل صراحة أستغربه من أهل الفكر؛ فهم أدرى وأعلم من أي أحد أن الفكر المركب ليس الفكر المتهافت ولا المتناقض بما أنه لا تناقض في فكر ما بعد الحداثة.
وأضفت : لا فائدة للعودة هنا لمسألة الشريعة التي جعلت منها قبة وهي مجرد حبّة في فكرنا الأضدايدي pensée contradictorielle وهو فكر هذا الزمن العلمي الذي قطع مع النمط القديم في التفكير، أي ما يُسمّي بالفكر الديكارتي. نعم، لا أشد خطرا اليوم على الناشئة مما يُسمّون أدمغتهم به من أحكام انتهت صلوحيتها كما نقول للدواء، فهي مما صلح وعافى طويلا إلا أنها اليوم أصبحت السم الزعاف، لهذا أعود للتأكيد على دور المثقف، وصديقي من سادتهم، للتصدّي لهذا الزحف المغولي الإسلاموي عوض البكاء على أطلال ليست هي إلا أطلال عروش كانت مشيدة ويمكنها من جديد الارتفاع شامخة مهيبة.
لقد حان الوقت لرفع كل ما تحنط من الفكر الإسلامي النير حتى نعيد له رونقه. فدعنا من إسلام الشريعة المحنطة، لأن الشريعة الحقة هي ما شُرع لهذا العصر حسب مقاصد الشريعة وروحها؛ أما ما كان صالحا لعهد مضى، فهو لم يعد من الإسلام الأزلي التعاليم العلميها العالميها. إن كلام صديقي العزيز يبيّن شدة تأثره بما يحدث، وهذا مما أفهمه، إلا أنه وغيره يحمل من الأنوار ما يحتم عليهم تجاوز مثل هذا الألم الحاد الذي يمنعهم من إفادة الناس بعلمهم النيّر واستعماله كمنقذ من الظلال لهم وكمنقذ من التحسر على ما لا فائدة تُرجى من التحسّر عليه. فليس أشد من الألم والحسرة منعًا للعالم أن يفيد الناس بوافر معرفته، وهذا واجب النخبة الحقيقية. فليكن الله في عون كل مجتهد للعمل على إنارة الناس ورفع الغشاوة على أعينهم؛ فإن لم يفعل المثقف المستنير، فمن يفعله غيره ؟ ليكن المفكر المسلم بورميثيوس، لا يستسلم لليأس، فذلك من نوع الحرام السلفي الذي لا تعترف به الأذهان الحرة المتحررة، والمفكر الحر لها القدوة !
هكذا وبتصرف وجيز كانت إجابتي الأولى لصديقي، ثم سرعان ما أردفتها بإجابة مستفيضة لهول المسؤولية التي في أعناقنا. فقلت ما أبيّنه بتصرف طفيف هنا حتى أُبدّل مكان الحسرة ما من شأنه رفع حيرة الصديق المفكّر وكل مفكر صادق النية في بلاد الإسلام المنكوبة اليوم. ذلك لأن مثل هذه المهارات والأنوار التي يزخر بها ذهنهم المتفق لا ينبغي أن تُهدر في التشنيع بلا فائدة على ما ليس من شأنه لا الإفادة ولا الضرر إلا بفهمنا له. ولا فهم بغير المجاهدة، أي مجاهدة النفس ثم مجاهدة الغير، للوصول إلى المعرفة الصحيحة التي هي دوما أعلى من العلم المجرد ولو كان علميا؛ فالعالم هو الجاهل طالب العلم أبدا، لا من ظن أنه علم، إذ عندها يبدأ جهله، ولا قاع له.
إسلام الشريعة في الميزان
بدأت بالإتيان بالبعض مما ذكره صديقي من سيء الحسن، لأن السوء والحسن مقترنان في الذات البشرية، فلا حُسن وحسنى بدون سيء وأسوأ؛ هذا قدر الإنسان الذي يعرفه خير المعرفة صديقي وكل فكّر مثله. قال الصديق في غيضٍ من فيض ما اختنقت به نفسه، مستشهدا بنماذج من القرآن وقد وضع بين معقوفين صفتنا له بأنه كتاب الرحمة المهداة، ذاكرا ومستشهدا بتعليقات لما به من وجوب قطع الرؤوس وإطارتها : { «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق» (سورة محمد:4). قال القرطبي رحمه آلله: (لم يقل فاقتلوهم لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأبشع صوره، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه). وقال ابن كثير رحمه آلله: (فضرب الرقاب) أي إذا واجهتموهم فأحصدوهم حصدا بالسيوف). وقال أبو بكر الجزائري: (أي فاضربوا رقام ضربا شديدا تفصلون فيه الرقاب عن الأبدان). قال الكاساني رحمه آلله: (فأضربوا فوق الأعناق) وهذا بعد الأخذ والأسر لأن الضرب فوق الأعناق هو الإبانة من الفصل ولا يقدر على ذلك حال القتال ويقدر عليه بعد الأخذ والأسر)}.
هذا ما قاله صديقي الأستاذ وهو، كما قلت، من صفوة الصفوة المثقّفة ببلد من بلاد المغرب المستنير بغزارة ما فيه من أهل التصوف وقد جعلوا من أرضه هذا التيرب الخصب لنماء إسلامٍ جديدٍ متجددٍ. ما من شك أن ما يدل على ما في هذه الاستشهادات من نشاز مع فكر صديقي العزيز هو ما يُترجمه ويبرع فيه علم الاجتماع الفهيم، وهو أفضل مدخل في رأيي للنظرة الأنَسَية الجديدة للأمور، خاصة في طرحه بخصوص ما بعد الحداثة. هذا، وأنا أعمل على التنظير لإسلام ما بعد الحداثة ببلاد المغرب وسائر أرض الإسلام على هدي فكر ممثله الأسنى، ميشال مافيزولي Michel Maffesoli، الذي يعرّبه صديقي الحزين في أبهج الحلل وأرقاها. أذكر له ما يلي من ترجماته، أسوقها تباعا لترك المجال للتمتع ببراعة الترجمة وعظمة الفكر ما بعد الحداثي لمافيزولي وقد فتح له صديقي الباب على مصراعيه بمغربنا الزاخز بالمتناقضات، الباحث عن ذاته.
في مقولة تبيّن عظمة الجزئي بين الفن الكلاسيكي و الباروكي، يبيّن الأستاذ ميشال مافيزولي بتعبير صديقي الأنيق الرائق: « كيف أن الحكمة الشعبية ذات جذور أنثربولوجية لا يرقى إليها شك. ومن خصائصها المائزة أنها تشيح بوجهها عن المستقبل، مقابل انهماكها في الحاضر وتجذُّرها في تربة المعيش، وتستنكف أيضا عن إهدار طاقتها في تنكّب الآتي و ترقب مجيئه.» ويضيف صديقي دون التفطن لمدى تناقضه في مقولاته في الإسلام وما يترجمه : «إن الإهتمام الشديد بالصغير والمتناهي بالصّغر ليس له أبدا أنْ يُضيِّق دائرة الحياة أو يجعلها تتحجر و تتكلّس. ليس له ذلك طالما هو طريقة، من جملة طرائق، في تدبير النمو الاشتدادي السائر باتجاه العمق ، عكس النمو الامتدادي المهووس بالتوسع ولا شيء غيره. »
إن ما يستشهد به صديقي المغربي مما يسمّيه إسلام الشريعة ليس من الشريعة إلا للآخذ بها، بينما الإسلام لكل الناس؛ والذي يميّز هذا الدين عن سائر الأديان هو إبطاله لكل الأصنام بما فيها المعنوية، وجعله للعلاقة بين الله وعبده مباشرة لا واسطة بينهما. فكل من انتصب قائما بين الله والمؤمن المسلم للكلام عن الدين، زاعما تبيان أحكامه، ليس إلا من الأحبار والكهنة وقساوسة كنيسة ليس لها أي مكان في إسلامنا إذا أخذنا به الأخذ الصحيح. لذا، كل من يتكلم عن الإسلام دون العودة إلى مقاصده يحنّط تعاليمه بأن يمحي منها كل حرية في التأويل، جاعلا القداسة لا للدين وإنما للحرف، نازعا عنه روحه؛ بذلك، هو يعبد صنما أقامه بنفسه لا هذا الدين العلمي العالمي الذي يبقى أزليا في تعاليمه لأنها تتأقلم مع كل زمان ومكان نتيجة العودة إلى مقاصدها التي هي الوحيدة التي لا تتغير فلا تتسنه.
لنقرأ ما يقول صديقي بنفسه في معرض حديثه عن الجزئيات التي هي بوصلة المجتمعات و محرارها، وهو يترجم فكر ما بعد الحداثة المافيزولي إلى لغة الضاد: « هذا ما يُفسّر أن الاقتدار الاجتماعي، وهو تعبير آخر عن الأُنسيّة، يستمد قوته وعنفوانه من تفاعله الموصول بين العياني والحسي من جهة، والتجليات المعتادة جدا في ثنايا الحياة اليومية من جهة ثانية. والحال أنه من تفاعله الخلاق هذا يستلهم قدرته على مقاومة إملاءات السلط بكل أنواعها. السلط أو أنظمة الحكم والتحكّم التي يواجهها و يُوازنها باقتداره. فالطريف والخالي من الدلالة، أو ما أراده العقل الإنتاجي الربحي كذلك، ينتصبان، في كل الأحوال، كدرع واقٍ ورادع للصخب المزعج المنبعث من المؤسسات المتعالية، وهو ما يُحوِّل ذلك الخالي ظاهريا من دلالة إلى مُترعٍ بدلالته الخاصة.»
هذا ما ينطبق تماما على الإسلام وحاله اليوم، إذ لنا الإسلام الرسمي الذي تفرضه السلط السياسية حسب مصالحها، ولنا الإسلام الشعبي الذي هو أقرب للإسلام الصحيح، إلا أن سلطته تبقى رهينة الاعترف بها، ومن له العمل على ذلك غير أهل الفكر وصديقي منهم الذي يضيف في ترجمته: « لاحظ غويو، وهو بالمناسبة أول عالم اجتماع تطرق للأنوميا، أي للخارق للعادة والخارج عن المألوف في المجتمع، وأبرز أهميتها،كيف أن عظمة النوابغ تظهر من خلال طرق معالجتهم للتفاصيل والجزئيات. وعلى هديه نتساءل إنْ لم يكن النبوغ الشعبي يتجلى أول ما يتجلى في تذوقه للجزئيات وتفاعله الشديد معها. فالسمة الفارقة للجزئيات والتفصيلات هو تحررها من القبضة الحديدية للطموحات المفرطة والمُغالية للسلط أو أنظمة الحكم على اختلافها، ويعود ذلك إلى كون الجزئيات إياها عادية جدا، بل وموغلة في الاعتيادية، والحال أن العادي والمعتاد هو المختبر اليومي للأُنسيّة. إن المتع الحسية، متع الجوارح والمعيش البسيط التي تختصرها الحياة العادية، هي الضامنة، على المدى الأطول، لاستمرارية المجتمعات. ويعود ذلك، في تقديري الخاص، إلى أن الجزئي والتفصيلي هو العالم كله مختصرا وكثيفا. ووضعُه هذا هو الذي يجعلنا نتمثل كل عنصر من عناصر الحياة على أنه مستقل بذاته ومندغم في غيره في آن واحد. وفي كلمة، الجزئي هو الملموس الكوني. »
الإسلام الشعبي الما بعد حداثي
الجزئي الذي هو بوصلة الإسلام الشعبي، كما بيّنه ببلاغة عربية صديقي، من الفكر ما بعد الحداثي؛ وهو يكمن عندنا في هذا الاعتقاد الساري في سائر المجتمعات الإسلاميه أنه دين الرحمة والمحبة. لذا، علينا بيان كيف يجب أن تتجلى مظاهر هذه الرحمة حتى لا يكون الدين الرهبوت والنقموت الذي نعاينه من العديد من أهله، إذ أن هذا البعض جزء من الكل، فلا وجود له إلا لوجود تعاطفٍ لأسبابٍ عديدة من طرف الكل الذي يعمه في لخبطة فكرية. وهذه اللخبطة لا يمكن رفعها إلا من طرف النبغاء من أهل الفكر ممن لا ينحرفون بفكرهم ولا بأنفسهم إلى الصراع الذي لا ينتهي بين الخير والشر، تلك المانوية التي داخلت الإسلام وهي من إفرازات عادات وتقاليد غير ما أسس لديننا العربي؛ ففي الإسلام تناغم تام في الذات البشرية وتلاحم وطيد بين ما هو من الشر وما هو من الخير، وليس أكبر دليل على ذلك إلا ما نجده فه من التفريق بين الذنب والإثم، وهو من رواسب الفكر الإغريقي الذي أثر كثيرا على فكر الإسلام.
في ترجمته للأمور الصغيرة التي تنظمها القوانين الكبيرة، منطلقا مما قاله فرومونتان عن الفنّ التشكيلي أي أن «من الوارد أن تُنظّم قوانين كبيرة جدا أمورا صغيرة جدا» يقول صديقي أيضا: « المقصود هنا بالقانون هو ذلك الناظم الجوهري (الجواني) الذي يجعل الواقع مستقلا ومتينا ومتجاوِزا، بِما لا يُقاس، لكل الشروحات والأحكام الجاهزة في حقه. وهذا المقصود هو الذي يسري على المحسوس، المحسوسُ في كل جماله التراجيدي ، بِما هو معجون، جزئيا، في أنصبة من شقاوة وقبح وفوضى، فضلا عن تفرده بنظامه الخاص، والمُعاش بصفته تلك.» أليست هذه حال الإسلام إذ الأمور الصغيرة هي طريقة فهم العوام لدينهم بأنه دين الرحمة والغفران، بينما القوانين الكبيرة هي ما يُسمّى إسلام الشريعة وما يأخذ به الإسلام الرسمي وهي في الأغلب أحكام غير إسلامية في روحها، لأنها متفرعة عن اليهودية والمسيحية ؟
فمن يأخذ اليوم، غير القليل من المعتوهين، بقطع اليد رغم أن هذا مما ورد فيه نص صريح ؟ ومن يقول بملك اليمين أو بالعبودية ؟ أليس كل هذا وغيره من القوانين الكبيرة، شأنه في ذلك شأن كل ما ورد من شناعة حسب مفهومنا اليوم لحقوق الإنسان في زمن لم يكن للإنسان فيه حقوق ؟ أليس من الضروري الأخذ بالجزئيات الهامة وطرح ما بدا من القوانين رغم مسحتها الإلاهية، إذ نحن لا نناقض كلام الله عندما لا نعمل بحرف كلام له جاء متناغما مع عصر ولّى وانقضى، وإنما بروح هذا النص وهي أيضا من كلامه، بل هي أعلى وأرفع ما فيه ؟ هذا هو مفهوم الشعوب الإسلامية، خاصة بمغربنا الصوفي، للإسلام رغم منطوق شريعته !
لا شك أن صديقي لا يقول غير ذلك عندما يواصل ترجمته فيقول : « تحدثت أعلاه عن “فلسفات الحياة” التي هي من فلسفة الشعب التي تتبين البصيرة الشعبية من خلالها إرادة عيْش غلاّبة بفضلها تسير الأمور وتستمر، رغم كل الضربات وشتى الأوامر والنواهي ومظاهر إستغلال وسيطرة وإخضاع وإذلال. وهذا المعطى المركزي ساءل ولا زال يُسائل فلاسفة وعلماء اجتماع ساعين للكشف، كلٌّ على شاكلته، عن السر الكامن وراء استمرار حياة الأفراد والجماعات رغم كل أشكال ومظاهر القهر والضغط. من جهتنا، نتساءل إنْ لم يكن سر الأسرار في ذلك كامنا في هذه الأشياء الصغيرة التي هي نسغ الحياة اليومية وبها تعج وتمور. نتساءل أيضا إنْ لم يكن سر الأسرار كامنا في الملموس/ المحسوس العصي على الزوال، والذي يستمر البشر في التشبث به في كل الأحوال والمشهود له بصلابته وتماسكه. ولا طائل من البحث عنه في عوالم أخرى ، أو في الحلم بمجتمعات كاملة وفي التطلع لمعقولات مثالية أو طوباويات من كل ألوان الطيف. فعندما يقول مثلٌ شعبي، مثلا، بأن “الشيء تُمسكه بيدك أفضل من شيئين تنتظرهما وتُمنّي بهما النفس”، فذاك دليل على ثقة الحس المشترك في ما هو بمتناول اليد وبعالم الشهادة، مقابل عدم اكتراثه واستخفافه بالموعود والمجهول والمقيم بعالم الغيب الذي قد يأتي أو لا يأتي !»
هكذا يتكلّم صديقي عن الحس المشترك، هذه الحكمة الشعبية التي تزخر بها مجتمعاتنا ولا يراها حواليه ! إن المؤكد الأكيد هو أن ما يسمّيه الصديق إسلام الشريعة ليس له من المهابة والسيطرة على العقول إلا عند القلّة من تجار الدين ومعتوهيه؛ أما الأغلبية، وهي ذات حسٍ شعبيٍ عالي الكعب، فهي لا ترى مانعا في فهم الإسلام حسب مقاصده. إنما المشكل اليوم هو أنها لا تجرؤ على التصريح بذلك؛ وهذا طبعا لا يعني أن مثل هذا الفكر غير موجود عند العموم، وهذا ما يؤكد على ضرورة العمل على رفع مثل هذه القيود عن العموم؛ فمن يعين على ذلك غير من له من الثقافة الزاد الوفير ؟ فبها تأتي الثقافة الأكاديمية في نصرة الثقافة الشعبية؛ والكل ثقافة واحدة لا اختلاف بينهما إلا في المظهر، والمظهر خداع في دنيا المظاهر هذه !
ونحن نقرأ لصديقي في ترجمة له عن دلالة إنزياح أخلاق الاقتناع عن أخلاقيات الممارسة ما يلي : « الحق أن هذه الطريقة العريقة والموصولة في تمثل أشياء الحياة وإتيانها تدعواليوم أهل الفكر والنظر، وبعد عودتها إلى سطح، للقيام بثورة كوبرنيكية إحتفاءٌ بعلوّ شأن الملموس والأشياء الصغيرة والبسيطة والعادية جدا في حيوات الناس. تلك الأشياء التي تنتظم على نحو منطقي وسلس، و منها يتشكل نسق الواقع البشري.»
نعم، إن علينا، خاصة أهل الفكر منا، القيام بثورة كوبونيكية على المسلّمات في فكرنا إذ هو عندها من الفكر الديني الذي نحن نرفضه في الآن نفسه. لنتذكر أن الفكر المتحرر اليوم في الغرب ليس حقا بالمتحرر بما أن رواسب الدغمائية اليهودية المسيحية لا تزال به، بينما إذا بدت لنا هذه الدغمائية ظاهرة واضحة للعيون في فكرنا، فذلك لا لرواسب خصوصية للفكر العربي الإسلامي وإنما لما طغا عليه من تلك العادات الغريبة عنه. فالإسلام السلفي والجهادي اليوم ليس في أغلبه إلا من رواسب الإسرائيليات في الدين الإسلامي الذي أصله التفتح والقبول بالآخر؛ هذا ما أنتجه وصدّره لغرب القرون الوسطى، معيدا إليه بضاعته الإغريقية في أفضل حال، ومستوردا منه أسوأ ما فيه، دغمائيته إلى حد أنها أصبحت ميزة له اليوم حتى عند المستنيرين من مثقفينا.
يقول صديقي أيضا في ترجمته تلك: « والسؤال المطروح الآن هو : لماذا تُمثّل عودتها وبروزها على السطح الاجتماعي ثورة من هذا الحجم ؟ ببساطة لأن الأصل في الأشياء هو طابعها الفلتان والزئبقي والهارب، ربما لكونها مندورة للفناء كما هو مندور مشاهدوها ومُعايشوها. فوق، تحدثتُ عن حكمة تراجيدية لأن إحساس الإنسان بالتناهي يدفعه، دونما شعور وبلا إرادة عازمة، إلى تجريب كل ما يدخل في باب “الرائع” في هذه الحياة ومن خلال المعيش. إن الإحتفاء بالأشياء والأمور الصغيرة المتناثرة حواليه ليُعبّر أحسن تعبير عن فلسفة حياتية تدفعه دفعا باتجاه التقاط واقتناص كل ما هو قابل للعيش والمعايشة، والتفاعل مع المعطيات المباشرة التي تقع في دائرة مداركه، والموسومة بعفويتها واندفاعيتها على حد تعبير برغسون.
من السمات المائزة للمعيش اليومي قدرته الفائقة على الإنزياح عن الأخلاق التمامية والمتحجرة. لذلك، قد تجد الناس في معاشهم يعلنون الولاء الصريح لمعتقدات دينية وقناعات أخلاقية، بل قد يتحمّسون للدعوة إليها والتبشير بها، إلا أنهم سرعان ما يرمونها وراء ظهورهم ما أن تعترضهم عقبات أو تواجههم مشاكل تعجز هذه المعتقدات أو القناعات عن مجاراتها أو فكّ ألغازها. فقد يُجاهر فرنسي بمواقف عنصرية “مبدئية” إزاءالأجانب، غير أن ذلك لن يمنعه من مراعاة جاره العربي و الأخذ بيده عند الحاجة. بالمثل، لا تحول الأخلاق الجنسية المتشددة لهذا أو ذاك دون وقوعه في مطبات زيغ جنسي بوسطه القريب والأقرب.
في مطلق الأحوال، ثمة انفصام (انفصال) مسترسل ولافت بين القناعات الأخلاقية المُعلنة والمتجهِّمة من جهة، وممارستها على أرض الواقع من جهة أخرى. تلك الممارسة التي تنحو منحى الزيغ واللزوجة والمرونة الشديدة في الواقع اليومي. ولعل ذلك هو ما يُفسّر تلك المقاومة الشرسة التي تٌبديها الأشياء الصغيرة والملموسة حين لا تسلم قيادها بسهولة وتتأبّى على التطويع. إن المهم، في هذا السياق، ليس ما ينبغي أن يكون، بل الكائن والمتحقق على الأرض. يقول فيبر كلاما لطيفا بهذا المعنى : “قد لايكون الشيء جميلا ولا مٌبجّلا ولا جيدا، غير أنه يُعاش كما هو وبلا أدنى اكتراث بإحالته على مستويات عليا تتجاوزه من قبيل المعتقد والمثل الأعلى الفلاني أو العلاني”. أعتقد بأن مفهوم التعددية القيمية الذي اشتهر به فيبر يستمد كل قوته وألقه من هذه الفكرة الأساسية التي عبر عنها للتو.»
المثقف والحكمة الشعبية
هذا ما علينا القيام به في زمننا الراهن، وهو من اللزوميات عند خاصة الخاصة قبل العامة. رغم ذلك، ففي هذه العامة العديد من المظاهر التي تبعث على الأمل غير أنها سبقت وتبقى سابقة على صفوتها إلى حد إنارتها حتما. وذلك لا يخفى على صديقي إذ هو يقول في ترجمة عنونها الأبيقورية الإجتماعية والتمحور حول الحاضر : « ولمزيدٍ من بيان ما تعنيه الأُنسية، كما نتمثلها، نورد جملة بداهات غاية في البساطة، من قبيل تلك التي عبّر عنها هوغار بـ “المتع اليومية” في دراسته للثقافة الشعبية. فقد وقف مليّا عند الأهمية القصوى لِما سمّاه “نكهة العيش” و”الحياة الجيدة” و”شدة الإنهمام بالحاضر”، وكلها سمات مميِّزة لهذه الثقافة. وسندفع بمعاينته إلى الحد الأقصى بالقول بأن الأبيقورية اليومية باتت بالفعل أيديولوجية ونمط عيش منتشرين على أوسع نطاق في المجتمعات المعاصرة. لقد غدت نزوعا قويا متمحورا حول بؤرة الحاضر والآني ذي الأوجه والأشكال المتناسلة. نزوع لايحفل إطلاقا بمُنازلة ومنازعة التمثلات الإسقاطية الدينية والسياسية والإقتصادية، بل يقنع باقتناص لحظات المتعة السعيدة الهربانة والمتسارعة.
يتعلق الأمر في هذه الأبيقورية الإجتماعية بمعرفة، أو بالأحرى بخبرة سليقية ومُستبطنَة تتماهى مع تلك الحكمة التراجيدية التي تُدرك بأن المتع الأساسية في هذه الحياة، من قبيل الأكل والشرب والثرثرة والحب والشجار، متع في عجلة من أمرها وتمر بسرعة. وبالتالي، تقضي “الحكمة الشعبية ” باقترافها هنا والآن دونما تباطؤ ولا إرجاء. من الضروري التذكير الدائم بهكذا بداهات بعد تعوُّد “العقل المجرد” لكثير من أهل الفكر والنظر على تجاهلها و إسقاطها بالمرّة من الحساب. بيد أنها هي النواة الصلبة لكل بناء إجتماعي للواقع شاؤوا ذلك أو شككوا فيه أو جحدوا به حتى. إننا، بحق، حيال إمبيريقية يومية شديدة البساطة مقطوعة الصلة تماما بالإمبيريقية المُتفلسفة المُحكمة البناء والمُتقنة الصنع. إمبيريقيةٌ مؤداها أن “الموجود هو المنظور والمحسوس والواقع بمتناول اليد” وماعداه معدوم. وحتى لو اعترفنا له بوجود محدود وجزئي، فليست له عواقب مباشرة على أحوال الناس و شرطهم الوجودي.»
إنها بديهيات، كما يقول صديقي، ولهذا فهي حتمية للخروج بدين الإسلام من البوتقة التي يريده فيها أزليا لا أعداؤه فقط بل وأيضا من يدعي أنه يبتغي له الخير. ولأضيف هنا دلالة أخرى عن حتمية التغيير بالحديث عن التعقد الإجتماعي كما نظّر له “إدغار موران” وكما ترجمه صديقي أخذا عن فكر أستاذنا مافيزولي: « وتفادياً لأي تفسير سببي أو آلي لهذه العناصر، نبادر إلى القول بأنها لا تحتمله أصلا لأنها ليست سوى جُماع لحظات متزامنة في تحققها وتفاعلها، ما يعني أنها غير تعاقبية ولا منفصلة عن بعضها بالمرة.
إن المنطق البيتيّ، بيت القصيد في حديثنا، هو قبل كل شيء منطق الوحدة العضوية بين هذه العناصر، وهو أبعد ما يكون عن بنية بسيطة وبدائية. إنه منطق متماهٍ مع حالة التعقد والتشعب، كما أفاض موران في بيان أوجهها وشرحها من خلال ما أسماه الأنموذج البيو-أنثربوسوسيولوجي. ثمة تفاعل متواصل بين عناصر هذا الكلّ، ما يجعلها عُرضة لتعديلات وتغيرات متواصلة أيضا. فالحداثة القائمة على السببية العقلانية تتمحور حول التضامن الآلي البسيط، في حين أن المُحرّك المحوري للأزمنة التقليدية (ما قبل الحديثة) وما بعد الحداثية هو التضامن العضوي الموسوم بتعقده اللافت والقائم أساسا على التفاعل.
ما سبق من بسطٍ لهذه المسوغات يحملنا على تقرير كون المنطق البيتي العريق مقولة فيها من الوجاهة ما يجعلها أقدر على مساعدتنا على فهْم حال ومآل المجتمعات المعاصرة. في مو ازينها، تعتبر الحساسية البيئية وحالات التكافل بين الجيران والأعمال الخيرية والإحسانية وعلاقات التكافل بين “شمال” “جنوب” أشكالا وصيغا متكاثرة لهذا التضامن الإجتماعي والطبيعي الناشيء. في الإتجاه نفسه، من حقنا أن نتساءل إنْ لم تكن كل مظاهر التطور التكنولوجي، من حركية في التواصل مازجة بين نسخ وصوت ومشاهدة ، تعابير عن هذا النزوع الإنساني الجامح، نزوع إلى القرب والاقتراب وتحقيق أشكال من إحتكاكات “بيتية”.
ما هو في حكم المؤكد حتى الآن هو أن حالة التعقد المعجونة من طينتها مجتمعاتنا المعاصرة تتكئ على نماذج عابرة للأزمنة والأمكنة تشمل حالات الإنهمام بالذات وبالغير وبالمحيط والقريب، علما بأنه هو نفسه علة ونتيجة لهذا التطور التكنولوجي الدقيق والتواصل الجماهيري الكثيف اللذين يشهدان فورة غير مسبوقة في هذه المجتمعات.»
الحكمة الشعبية فكر مركّب
أنا أرى أن الفكر المركب pensée complexe هو مما يتواجد بكثرة ولو بصفة غير رسمية وشبه عفوية في مجتمعاتا العربية وخاصة المغاربية. فهو الذي من شأنه التأثير في الفكر السياسي الطاغي لفهمنا للدين، كما يقول صديقي؛ فالتأثير في “السياسي” مستحيل بدون فهمٍ عميقٍ للمجتمعي. لنقرأ له أيضا، مواصلا ترجمته لفكر مافيزولي: « وكما أن تغييب هذين الإصطلاحين، يجعل فهم العمق المجتمعي مستحيلا، فإن عدم استحضار المدار البيتي سيحكم على أي حلم بممارسة تأثير على المجال السياسي بالفشل؛ سيما وأن “السياسي” يحدّه ويؤطّره مدار المدينة. هي ذي الجدلية نفسها التي رصدناها فوق، والتي يتحقق من خلالها مرورٌ من المدار المحدود للجماعة إلى شبكة واسعة من العلاقات، قوامها دوائر متتالية تحوم حول مركز واحد.
يُعلّم هذا النظام الإثيقي المستأنسين به الإستئناس أيضا بروابط عمادها مشاعر صداقة وعطاء وإكرام ضيف ومسلكيات أخرى مثيلة تتحقق من خلالها الأشكال الأساسية للتضامن المجتمعي والتآزر الجماعي. وهو الأمر نفسه في تصور كزينوفان الذي يرى بأن إتيان المُتع البيتية يُمهّد صاحبه للعيش في الجماعة ومعها. فإن كانت الغاية من الرابطة الجامعة بين الزوج وزوجته تنحصر في البيت، فلن تكون بهذه الصفة أكثر من “لحظة جدلية” داخل لحظات الجماعة الأكبر وفي عموم المدينة التي يكون الأزواج مدعوون فيها إلى الإضطلاع بأدوار أخرى أكبر وأكثر انفتاحا على الآخر. وتوخيا لمزيد من الدقة، نضيف بأن الإنهمام الفوكوي بالذات، ذي الحضور الدائم في الثقافتين الإغريقية واللاتينية تحت إسم “إبيميليا هيوتو”، يندرج أصلا في كلٍّ متكامل يضم دفعة واحدة الإمساك بزمام الذات والإنهمام بشؤون البيت، علاوة على المشاركة في الشأن العام أي في شؤون المدينة.»
بعد كل هذا من أجوبة على الطريقة السقراطية، إذ الإجابة هي فينا وتسبق التساؤل الذي يصدر عنا فلا يأتي إلا كرجع صدًى لها، سألت بدوري صديقي: ألست أنت الذي يتحدث في ترجماتك لمافيزولي عن الفرق بين المتشكل قبليا والمتشكل بعديا بالمجتمعات ؟ ألا ينطبق هذا على المجتمعات الإسلامية ؟ فأنا قرأت لك واستمتعت به ككل قرائك وهم كثر ما يلي: « وعلى صورة “مقبض الإناء”، كما استوحاه زيميل ، فإن الخالي ظاهريا من دلالة وجدوى في الحياة اليومية ، لايعدم جدواه الخاصة ودلالته الذاتية اللتان يرفد بهما الروابط الإجتماعية ذات المفاعيل المؤكدة. وبِما أن الأفراد داخل المجتمع ينخرطون في جمهرة من الشبكات الأساسية القائمة على الصلات الوثيقة للقرابة، فإنهم يندمجون فيها حد الإنصهار، وتلك سمة فارقة طابعة أيضا بميسمها لروح ما بعد الحداثة. فالبناء العضوي المرصوص للحلقات الصغيرة تتولد وتتناسل عنها كيانات إجتماعية أكبر وأوسع. وهذا ما أسميته، تحديدا وفي غير ما موضع، “الوحدة العضوية” التي تنسجها روابط مفتوحة، عارضة ووجدانية المنزع، وتتميز بكونها تتشكل بعْديّاً، خلافا للوحدة المغلقة للمؤسسة التي تتطلع للكونية والثبات والاستفراد بصفة “العقلانية”، وبسب ذلك كله يكون تشكُّلها قبْليّاً.
في السياق نفسه، لاضير من الاستعانة من الموروث الفلسفي القديم بمقولتي “المنطق الداخلي” و”اللوغوس سبيرماتيكوس” رغبةً منا في مزيد من توضيح لهذا المعطى السوسيولوجي المعاصر. ثمة بالمنطق البيْتي منطق داخلي (جواني) ينثر بذوره بعْديا فتتفتق وتنضج ويشتد عودها إلى أن تتبرعم باتجاه الخارج مُخصِّبة وملقّحة لمجمل الروابط الاجتماعية. تقديري أن الوحدة العضوية لكل الشبكات الاجتماعية تشتغل وفق هذه الصيرورة، وتقديري أيضا أنه من الأهمية بمكان التأكيد على المنظور إياه في تناول هذه المسألة، إذ هو الكفيل ببيان كيف يغدو المنطق البيتي نموذجا لمنطقٍ متمركز حول بؤرة الملموس الأقصى كما عمّده والتر بنيامين. ومن هذه الناحية، فهكذا “منطق” أبعد ما يكون عن وضع إجتماعي يكون فيه الفرد منغلقا على ذاته ومنزويا على خُويصة نفسه في شرنقته الخاصة، بل مندور للإنفتاح على “خارجه”.
إن هذا “الملموس الأقصى” هو الخلاّق للروابط العضوية التي سعت المفارقة اللافتة أعلاه في المعطى الاجتماعي إلى وضع اليد عليه وبيانه. وفي السياق نفسه، أُقدّر مرة أخرى بأنه من المناسب جدا إستحضار المصطلح اللاتيني دوموس Domus ومعناه ما يضم ويشمل كل الموجودات المتقاربة والمتجاورة، من بشر وحيوان وموروث ثقافي و أواصر أرضية وترابية و بيوتات، ضمن كل متناغم. وللمصطلح نظير في الإغريقية هو واكوس Oikos المشبع بالحُمولة الرمزية ذاتها. وقد بيّن فوكو، بمعرض شروحاته لأحد نصوص كزينوفان، كيف أن هذا المفهوم قادر لوحده على تحديد وتكثيف ملامح “أسلوب العيش والنظام الأخلاقي السائدين في فترة تاريخية وحضارية بعينها”.»
هكذا تكلم صديقي وهكذا دلل بنفسه على أن واجبه يقتضي أن ينير أهل المغارة، شعبنا الغارق في ظلامه الأسود الغربيب، إذ لا يرى من دينه إلا خيال ما يتحرك وراءه، حيث النور خارج مغارته. فمن يهدي العموم إلى ذخائر هذا الفكر وثرائه إذا لم يكن المفكر النابغة والجهبذ العالم به وبفكر من نظر له من العلماء الأفذاذ ؟ إنه دور المثقف المسلم الذي أشرت إليه، بل هو قدره حتى وإن حمله على أن يكون كالشمعة التي تحترق للإضاءة. فليكن شعار كل مفكّر شعار الأديب الشاعر جوته، الذي أحب سماحة الإسلام وروحانيته، وهو الذي بقي يطالب وهو على فراش الموت بهذا : المزيد من النور ! وإنه بلا شك الفكر المركب الذي ينبع من الحكمة؛ فمن، غير المفكرين المتجذرين، وهم قلة قليلة، بإمكانه الإنارة بهذا الفكر في زمننا الحالك ؟
المظاهر وأخلاقية الجماليات
لمزيد الامتاع بهذا المثال الحي للفكر المركب، أختم ردّي على صديقي وعلى كل من صدقت نيته في الخروج بديننا من مصيبته، ولكن اليأس منعه من الكسب لتغيير الأوضاع، بمقتطفات حصرية من دنيا المظاهر، نحو أخلاقيات جمالية Au creux des apparences. Pour une éthique de l’esthétique، وهو كتاب صديقي المترجم الجديد لميشال مافيزولي لما يُنشر بعد، حيث يقول بالحرف الواحد، وأنا طبعا أضم صوتي إلى صوته : « المطلوب اليوم هوالتوقف عن كُره الحاضر، وهو مطلبٌ غير هين على حماة وسدنة “العوالم الخلفية ” التي تستمرءُها وتمتهن ترويجها الأنساق الفكرية والنظرية. نقول ذلك في الوقت الذي يتشكل فيه مجددا على مرآى منا ومسمع عالم ساحر ومسحور في آن. هو ذا التحدي الكبير الذي يواجهنا في نهاية القرن العشرين. وبناء على هذه القناعة الأساسية، جعلنا الأفكار المركزية في الكتاب بين يديك تتمحور حول القضايا الآتية:
– البديهي والحس المشترك بحسبانهما يقينا،
– الظواهر (المظاهر) بحسبانها عمقا،
– وأخيرا، لا آخرا، تجربة القرب والمحايثة بما هي تجربة نوعيّة .
والهدف من وراء طرح هذه القضايا هو هدف مزدوج. فمن جهة، سنسعى إلى معاينة فروضنا التي تقدّم ذكرها على الأرض. ومن جهة ثانية، سنسعى جاهدين لإبراز ما تنطوي عليه من معان ودلالات. ما عاد ثمة شك في أن اليقينيات الكبرى التي عمَّرت طويلا باتتْ تتهاوى واحدة تلوالأخرى. والأحداث كما التحولات والمُستجدات تدفعنا دفعا إلى التفكير بطرائق جديدة في التفكير والمقاربة. المعرفة في طور التشكل لا بد أن تكون في صلة دائمة مع العالم. لمِنْ شأن إغفالُ هذا المعطى إقتراف شرخ محتوم بين الفكر والواقع، شرخٌ سرعان ما يتحول إلى هوة عميقة وسحيقة يستحيل ردمها. وحدوث هذه الشروخ، بين الفينة والأخرى، هي السبب في ظهور وتنامي أحوال نفسية جماعية تتراوح بين المزاج النكد والنزعة الكلبية، بله ومظاهر من الثورة المسترسلة على كلكل الأوهام في عصرنا .
إن الحاضر ينبوع ثرٌّ للتفكير، التفكير بإطلاق رغم أنه لا يعدو أن يكون نقطة عبور بين ماضٍ متراكم ومستقبل ممتد. الحاضرُ يمدنا بالعناصر والوقائع الكفيلة بفهْم الناشيء، فهمُه بمنأى عن كل الخلفيّات والأحكام الجاهزة. أكيد بأن الأمر يتعلق بمعطى بديهي لاجدال فيه. غير أن المشكلة تكمن في أن هناك من بيننا منْ لازال يصر، وبعد معاينته للوقائع على الأرض، على حذف هذه وتجاهل تلك مقابل انخراطه الجانح في التنظير المعياري والأخلاقوي، التنظير لِمَا كان يجب أن يكون ولِما ينبغي أن تكونه الحياة الاجتماعية بمعزل عن المعاينة الباردة والواقع العنيد.
غالبا ما يُعقِّبُ الفيلسوف المُؤتَمن على هيكل المفاهيم، وعالم الإجتماع الحريص على جدوائيته، والصحافي الوصي على ما ينبغي نشره من عدمه، غالبا مايُعقب هؤلاء جميعا على الباحث الاجتماعي القانع بالملاحظة الوصفية وبإعمال الظواهرية بقولهم وبصوت واحد:
كلُّ هذا “جيد” و”جميل” ، وربما صحيح، لكن ما ذا بعد ؟ كما لو أن المرئي بحد ذاته غيركاف، وكما لوكان بناء النسق من الواجبات المطلقة، وكما لوكان إدخال البديهي والواقعي في قوالب فكرية جاهزة شرطا لازبا لنيل اعتراف. والحال أن الواقع، الواقع بحد ذاته، في غنى عن كل التبريرات النظرية السابقة عليه أو اللاحقة به. الحق أن الأمر يتعلق، في هذا الموقف المتواتر، بتقليد ضارب في القدم، تقليدٌ مارسه كهنة الخدمة الذين ما انفكّوا يتوهمون بأن إنكار الموجود والمتحققق شرط مطلق لاستمرار وهم الكمال المزيف والمصطنع لمنظوماتهم وأنساقهم الفكرية الدوغمائية .»
إن ما ثبت في الإسلام من نصوص تحجّرت ليس بالثابت حقيقة إلا إذا أردناه كذلك؛ فنحن نعلم أن كل شيء يتحول في كل لحظة، فلا ساكن يسكن سكون الموت، بل هو في حركة دائمة، ولا ثبوت للجلمود بما أنه دائم التحول. ولا شك أن في الإسلام المغربي الوفير من عوامل تبين مثل هذا التحول الدائب وهذه الحركية الأبدية أو المستدامة كما يحلو القول اليوم. ولعل الأمازيعية من نواته كما أن الأرضية الصوفية هي تيربه. فليتمعن، كل مفكّرٍ نزيه، في ما يقول ويكتب، فهو مفتاح فرجه وفرج أهل بجدته إذا طبقه على ما يعيشه، فإنه لن يشاهد عندها ما نرى عند أهالينا من ازدواجية في الشخصية.
ولتكن حيرة صديقي وحزنه، بل وحيرة كل مسلم وحزنه على ما نعيشه من فترات الشك اليقيني، وهو اليوم من العقل الحسي أو الحساس كما نعلم؛ وذلك هو الاصغاء إلى ذبذبات المجتمع التي هي اليوم على إيقاع إسلام ما بعد الحداثة، الإ-سلام، لا على ما تحدّث عنه صدقيق المفكر المغربي من إسلام الشريعة.
إن إسلام الشريعة نغمة قديمة متقادمة، عرفناها وعركناها، فلم تعد مستساغة إلا لمن انعدم الطاقة على استباط الجديد من القديم حتى لا يرضى بالقديم الذي أكل عليه الدهو وشرب. فالإسلام ثورة مستدامة، وعلينا التدليل على ذلك بقراءة ثورية صالحة لزمن ما بعد الحداثة. فليكن كل صاحب فكر حر من صانعيه بما له من الزاد الوفير في المعرفة الفهيمة، سلاحه الفتاك الأوحد الأخلاقيات الجمالية التي يزخر بها ديننا كما عرّف به أهل التصوف الأوائل وكما نجده أثره في مغاور شخصية التونسي تحت تراكمات دنيا المظاهر الخداعة.
حركية الإسلام المهرجانية
أنا أفهم وأتفهّم أن تدفع قناعاتُ البعض منّا إلى التحسّر على المآل الذي آلتْ إليه أحوال الناس وأوضاعهم في بلاد الإسلام اليوم؛ لكني لهؤلاء أقول مستعملا حرف صديقي في إحدى ترجماته الأنيقة لمافيزولي، الأب بلا منارغ لما بعد الحداثة اليوم: لا جدوى من رفض الواقع طالما أن “الواقع لا يرتفع”، ومن العبث نكران الموجود مادام موجودا. الأجدى والأفضل، بل وعين العقل، هو الإعتراف به ثم النظر، مليّا، في ما إذا كان نتاجا طبيعيا وسلسا لأنموذج عابر للأزمنة والأمكنة أعمق وأشد رسوخا من كل تمظهراته وتجلياته. أُنموذج هادي تتدثّر به الجِبلّة البشرية مجبول على الإعلاء من شأن التداخل والتلاحم بين النص وروحه، بين حرف القرآن ومقاصده، وعلى اجتراح قيم الخلطة والرغبة الجامحة في إتيان الإنصهار والتوحد في الآخرين باعتماد الرابطة العضوية بينهم، رابطة الروحانيات لا رسومها الظاهرة.
من الوارد جدا أن نكون إزاء تناوبٍ للأدوار بين ثقافة كبيرة “عالِمة” ذات الغلبة والسطوة إلى يوم الناس هذا، سادرة في تكريس التمايز والفردانية المشكوك فيها ومعيار الطبقة السوسيو- اقتصادية من جهة – وتلك مثلا حضارج الإسلام المنقرضة -، وثقافة مغايرة ونوعية لاتدعي ضرورة العالِمية وموسومة بـ “القاصرة” منجهة أخرى ، إلا أنها تحسن التعبير عن الأوضاع الإجتماعية التي تنحو منحى الإنصهار والفناء والذوبان في الآخر. وبإمكانها الانقلاب إلى ثقافة عالمة عالمية إذا تعدد من آمن بها. فالفكر هو محرك الثقافات.
وبمقتضى جماليّات التلقي، يجوز القول بأن الإنخراط المكثّف في الإبداعات الاشهارية وفنون الطبخ المتكاثرة ، وفي انتعاش الأغاني التصويرية – بل وحتى في التعلق بمظاهر طريفة للإسلام تنقض ظاهريا ما أجمع عليه أهله وتأتي بما يحايث روحه لما ليس فيه رئاء الناس من مراءاة -، ما هو في العمق سوى تعبير عن ممارسات تتولى تجسيد هذه الوظيفة الوجدانية أو الحركية الإنفعالية في حلّتها الاجتماعية. إنها تعبير نافذ عن الأشياء الصغيرة المؤتّثة للحياة، والتي رغم شدة بداهتها وفرط بساطتها واعتياديتها إلا أنها لا تني تذكّر بأن الثقافة ما هي إلا جُماع أشياء بلا مترتبات ، كما أنها نواة صلبة لكل وجود إجتماعي نظامي. وكذلك حال إسلام ما بعد الحداثة إذ هو مجموع تصفات متحررة من مل رسم معتاد ولكنها متجذرة في روح الإسلام لأنه كلام الله الحقيقي الذي لم يعد يسمعه أهله. وذاك هو التجذر الحيوي للإ-سلام، الإسلام ما بعد الحداثي.
لقد نجحت الأعمال المتميّزة لـ أبراهام مولز في لفْت الانتباه إلى النفسي المتناهي بالصّغر في اليومي من خلال التركيز على عنصر التكرار فيه، تكرار الأفعال البشرية العادية جدا في مجرى الحياة اليومية. وهذه الأشياء التي درجنا على اختزالها في الصيغة الأثيرة لـ “لاشيء تقريبا” أو “أشياء بالكاد” هي التي تُؤطِّر المناخ الغامر لمكان أو فضاء مديني، وبالتالي هي المؤهَّلة لمساعدتنا على فهْم التواصل الإجتماعي بتعبيراته المتعددة وتجلياته الوافرة.
كذلك الشأن تماما لإسلام هذه الحقبة الزمنية الذي هو في نمو مطرد بمثل هذه التصرفات التي يعدها البعض خروقات خرقاء لرسمه بينما هي إحياء للدين الحق كرفض الصوم كرها أو مناقشة حقية اعتقاد أن عيد الأضحى من السلام بينما هو من العادات اليهودية مما يجعل الأضحية خارج الحج من غير السلام بما أن ذيبح الله ليس إسماعيل بل هو إسحاق. وبالمناسبة، لابد من الإشارة، ودائما في سياق المعاينة الإمبيريقية، إلى أن أشكال التواصل الإجتماعي قلّما تكون حمّالة لمضامين دقيقة ومحتويات مضبوطة إلا في الحالات التي تحصل فيها بين آحاد. بل حتى في هذه الحالات، لا يكون التواصل حمّالا ناقلا لمضمون دقيق إلا على نحو عابر و عارض. لذا، يتوجب أن يكون الفكر النير كقطرة الماء، يدوم انهمارها على جلمود الصخر حتى يفتته.
فليس للتواصل الاجتماعي للمفكرين الذين لهم القدرة على الإبداع أن يكون كالتواصل المعتاد للعامة وللغوغاء منهم وإلا كان منهم. فالتواصل الإجتماعي اليومي لا يكترث للانشغالات النظرية والمجردة، بل وحتى للأحاسيس العميقة جدا بقدر ما هو جُماع “أطراف حديث مُتجاذب” ليس له ما بعده ، يدور في معظمه حول أحوال الصحة والزمن الهارب والمُسرع الخُطى وأحوال الطقس والبرامج التلفزيونية والمواعيد الرياضية وما شاكل و شابه. هذا فضلا عن كونه تواصل شفاهي يتوسّل طقوسيات عفويّة وحركات تلقائية وصيغا مكرورة في المسلك والملبس، وكلُّها دالة، أيما دلالة، على أن معشر المتواصلين تجمعهم أحاسيس انتماء متضاربة ناسجة، بالمُحصّلة، لوشائج و أواصر يتشكل المجتمع برمته من نسيجها وتشبيكاتها.
هذه أحاسيس بالانتماء الحضاري لثقافة أفلت تحمل تحت رمادها من وميض البرق ما يكفي أن يكون له ضرام، أمثال الفكر الصوفي والأمازيغي بالمغرب الأمازيغي العربي. كل ذلك لا يكون الوشائج والأواصر التي تشكل نسيج المجتمع برمته مع وافر تشبيكاته إلا بما يضيفه الفكر النير من لمسات سحرية، وليس هذا يتوفر إلا عند المثقف العضوي إذا قبل أن يكون فكره كالتيرب، لا فعل ولا مفعول له في الحاضر، إلا أن نتاجه لا مفر منه في الآجل.
الفتوحات التونسية
في الحراك السياسي الذي يشهده العالم، وعلى رأسه مغربنا، وتونس بالذات، لاحظنا كيف أن الإسلام كان حاضرا بصفة مشهودة، وكأن الدين هو مدار التنافس على الحكم. والحقيقة هي أن الإسلام السياسي، رغم ما قيل عن فشله بعد أحداث مصر، وما هو عليه من حالة عفن بدولة الإسلام المزعومة، لهو في صميم الواقع العربي الإسلامي مما يجعله في قلب المعركة السياسية. ذلك لأن الإسلام دين ودنيا، ولا مناص من العودة إليه بالنسبة للبعض، والانطلاق منه بالنسبة للآخرين.
أما العودة إليه، فقد عشناها مع التجربة السياسية التي قادها ويقودها الإسلام الحاكم بتونس والذي بيّن فشله. لا أدل على ذلك ما نشاهده يوميا من انسلاخ أهم قادة هذا الإسلام الحاكم عن واقعنا وتقوقعهم في الماضي السحيق، فكأن الإسلام لا حاضر له، وكأن العودة إلى الأيام الأولى بمكة والمدينة هي النسق الأهم في التاريخ الإسلامي الذي يجب أن نعيش على وقعه، لا ما جاء به هذا الدين من فلسفة حياة تعطينا المفتاح الأفضل لفتوحات أكبر وأعظم مما تحقق في الماضي السحيق. طبعا هذا لا يقلل في شيء من الأحداث الجسيمة الغابرة التي تبقى طبعا في الذاكرة؛ ولكن دون العودة إليها بالضرورة لما في ذلك من خطر الانفصام في الشخصية والانفصال عن الواقع المعاش، وهي من الأمراض، حتى في السياسة؛ عافانا الله منها !
لقد فهم بتونس الطرف الذي يُنعت باللائكي أهمية الدور السياسي للدين فنراه يخصص له الكلام الوافر في التظاهرات التي يقيمها ردا على تظاهرات الإسلامين. فإذا الإسلام والشعارات الدينية غير غائبة في المحفل، وكأنه أراد التدليل على أن اللائكية لا تعني حقيقة القطع بين الديني وغير الديني، بل هي الأخذ بما يميز غالبية الشعب؛ وهذا هو مفهوم العلمانية الصحيح كما سبق أن بينت ذلك في يومية من هذه اليوميات.
نعم، إن الدين يبقى بتونسنا مدار كل شيء، لأنه في المتخيل الشعبي، ولأنه لا سياسة في بلاد الإسلام بلا موقف واضح ومعتدل من المرجعية الإسلامية. إلا أن هذه المرجعية في بلداننا التي تؤسس للديمقراطية لا يمكن لها أن تكون كمرجعية الإسلام عند الشيعة مثلا؛ نظرتنا للدين لا يمكن أن تأتي متزمتة كذلك التزمت الذي نراه في بلدان شقيقة ما نوت يوما اتباع طريق الديمقراطية ولا قامت بثورة لأجل ذلك. وبديهي أنه لا يمكن البتة أن نهوي إلى تلك الحال التي عليها اليوم حالة الطاغوت المتسمي بهتانا بالخلافة الإسلامية وليست هي إلا خلافة إبليس في الأرض.
إن المرجعية التي يمكن أن تكون للإسلام في ديمقراطيتنا الناشئة هي مرجعية سلطة أخلاقية لها أن تقوم ببلداننا بدور سلطة خامسة، فيكون لها ما للسلط الأربع المعروفة من حقوق، ولكن عليها أيضا نفس الواجبات التي يفرضها انفصال السلط؛ أي هي تساند وتعاضد أحيانا تلك السلط وتناقضها وتعارضها أحيانا أخرى، إذ هي سلطة منها تكون الخامسة، إلى جانب السلطة التنفيذية والسلطة التشريعة والسلطة القضائية وسلطة الإعلام الحر. ذلك لأن في ديننا الزاد الكافي الذي علينا اكتشافه من جديد لإثراء حياتنا السياسية بروحانية هجرت الممارسة التقليدية للديمقراطيات الغربية العريقة وقد امتلكها هاجس المادية، فإذا به يقتل فيها أحيانا البعض من محاسن الديمقراطية؛ فإذا بنا نرى الأخلاق تنعدم من السياسة فتصبح تصرفات الساسة سياسوية.
لذا، بإمكاننا بتونس فعلا تحقيق الفتح الجديد المنتظر، ولكن لا ذلك الذي يتكلم عنه عادة زعيم الحزب الإسلامي بتونس أو بالمغرب، بل الفتح الحقوقي والحرياتي الذي ينتظره الشعب، ومن شأنه أن يكون كفتوحات ابن عربي المكية. وقد سبق لي أن دعوت إلى قراءة باطنية لما جرى في مصر وقلت أن الإسلام السياسي له أن ينجح بتونس بدون أدنى إذا اغترف حكامها من منابعه الفيحاء، لا كما يراها المتزمتون من حزب النهضة الحاكم اليوم بتونس، بل كما قرأها المتصوفة وعملوا بها.
لقد ترك لنا ابن عربي في موسوعته الصوفية العظيمة ما يمكنّنا من قراءة جديدة لديننا من شأنها أن تضمن له المشاركة الفعالة على الساحة السياسية كما سبق أن بينت. إن الفتوحات المكية، وهي أعظم موسوعة في التصوف بلغة الضاد على الإطلاق، زاخرة بالمصطلاحات الهامة كوحدة الوجود والإنسان الكامل، التي وفّق فيها صوفينا الأندلسي بين كنوز القرآن والسنة وعلم الكلام وذخائر الفلسفة الرواقية والمشائية والأفلاطونية المحدثة والغنوصية اليهودية والمسيحية؛ كل ذلك بصبغة صوفية إسلامية كانت حداثة قبل أوانها ولا تزال حداثة ما بعد الحداثة.
لقد أخذت الروحانيات في العالم أجمع بمصطلحات ابن عربي وفتوحاته الدينية ففاضت وأفاضت بمعاني الوحدة الوجودية الشمولية وبالحب الإلاهي الذي هو أساس كل شيء. فالحق هو أصل الوجود وهو الفاعل على الحقيقة لكل شيء في كل شيء؛ وعالم الممكنات يخلق خلقا جديدا في كل لحظة ويفنى في اللحظة التي تليها، كما يرى العلم ذلك اليوم.
نعم، لم يكن ابن عربي في عمق حسه الروحي وبسطة فكره وخياله ممن اتبع منهجا فلسفيا وتحليلا علميا، إذ أهمل منهج العقل إلى منطق الذوق ومنهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة؛ فكان بذلك سبّاقا لما يسمّى اليوم بالعقل الحسي أو الحساس الذي فرض نفسه في علم الإجتماع الفهيم.
المهم أن ابن عربي أعطى بفتوحاته وفصوص حكمه أكبر دليل على روعة الإسلام وسماحة تعاليمه في كونيتها وانفتاحها على أفضل ما في الإنسان، أيا كان مشربه ونزعته، بما أنها تنشد الإنسان الكامل. وهي بذلك تتناغم تماما مع التعاطي الفهيم للسياسة الذي نتمناه لتونس. ولا غرو أن لا كمال للإنسان إذا لا ينتفي من النفس البشرية كل ما فيها من تكبر واستعلاء وتميّز وتمييز ورفضٍ للآخر، كل آخر.
فلإن كانت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، فليس هذا في اعتدادها بنفسها واعتقادها أنها شعب الله المختار؛ بل ذلك في تمسكها بالعروة الوثقى التي مدارها الجهاد الأكبر المتواصل للنفس لتزكيتها وتجاوز هناتها، إذ لا مجال لأن تنتهي ما دمنا على هذه البسطية، التي هي تبقى أبدا دنيا.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العمل المتواصل للوصول لأفضل معروف وللنهي عما يمنع ذلك فينكره باعتباره بدعة مثلا أو خروجا عن العادة؛ لأن الإسلام ثورة مستدامة، ولا مناص من أن تكون دوما مستأنفة. ولا يكون ذلك إلا بالأخذ بالمعروف من قيم البشرية جمعاء في عالمنا وكما تقرّه الأنظمة المتطورة، وترك ما أصبح من المنكر حتى وإن كان معروفا سابقا، قبل أن يصبح من الهجر المهجور؛ إذ تلك سنة الحياة البشرية ونواميس المجتمعات الحية، لا تبقى على حال، فحُسن اليوم هو قُبح الغد أوالعكس.
إن للسياسة في حياتنا اليوم من التقاليد التي أصبحت عريقة والعادات المعروفة التي يختزلها النظام الديمقراطي الآخد أساسا بالمنظومة العالمية لحقوق الإنسان؛ ولا مناص للإسلام السياسي من تعاطيها كما هي وإلا تنكّر للمعروف وعمل على الأمر بالمنكر. فالإسلام دين عبادات ومعاملات، جانبه الدنيوي لا يعنى بتاتا خلط الشعائر بالسياسة، بل هو بمعنى تفتح الدين لكل ما ثبتت سلامته في الساحة السياسية العالمية من تصرفٍ حكيمٍ عند الأمم المتقدمة علينا شوطا في هذا الميدان. فلا شك أن الإسلام إذا أخذ بمثل هذا التوجه له أن يحقق فتوحات كبرى، مثل أن يبتكر نموذجا سياسيا جديدا ينطلق من أفضل ما أفرزه العقل السياسي البشري كما نراه حوالينا ليغذيه بروحانية ديننا وأخلاقياته، فلا ينقص منه شيئا بل يتحفه بما فيه من خيرٍ يكون تزكية لكل البشر.
تلك هي الفتوحات المكية الجديدة، وهي اليوم تونسية، إن قدّر لها أن ترى النور، سياسية ودينية، أخلاقية وعلمية عالمية؛ وهي مما يفتح الله به على الخاصة من عباده لأجل العامة منهم لكونية دينه. وحتى يقدّر لهذه الفتوحات أن تُتحف الوجود بكنوزها، لا بد للآخذين بزمام الأمور بأحزاب الإسلام الحاكم من الخروج من عقيدة عوام المتزمتين بينهم، المتشبثين بنظرة عقيمة للإسلام. ولا يكون ذلك فقط بالمرور إلى عقيدة الخواص منهم، بل وأيضا إلى الخلاصة أو حتى خلاصة الخاصة من حزبهم؛ وذلك لأن هذه الخاصة لها، خلافا لمتزمتي الحزب وغلاته، من العلم الحق والقول الصدق في فهم الإسلام ما ذهب عن العموم في النهضة ومن لف لفها.
فليت هؤلاء، رغم قلتهم، يعظوا عامتهم ليتّعظوا بمرارة التجربة الماضية وقساوة ما يمكن أن يأتي إذ لم يغترفوا من فلسفة صاحب الفتوحات المكية ومن البعض من فصوص حكمه؛ ومنها أن العين الوجودية واحدة فلا تختلف إلا بالأحكام، والصلة بين الحق والخلق أو الله والعالم كالصلة بين الواحد العددي وما ظهر عنه من أعداد؛ والحقيقة الوجودية وحيدة في جوهرها وذاتها متكثرة بصفاتها، لا تعدد فيها إلا بالاعتبارات والنسب والاضافات. وكما قال ابن عربي:
سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها : فما نظرت عيني إلى غير وجهه/ ولا سمعت أذني خلاف كلامه.
وبذلك، فحتى العلم بالسلب هو علم بالله، كما يقول شيخنا في الفتوحات أيضا. ونحن نعمم هنا مفهوم السلب عمدا، إذ الإسلام محجة الحق، والحق كالأفق لا نصله أبدا، بل نداوم المسير نحوه بعثراتنا وأخطائنا، ولكننا نبقى دائما على السبيل السوي رغم كل ذلك، فلا تكفير ولا تهجير، لأن الأفق دوما أمامنا؛ فالحق دوما نبتغي إن شاء الله وقدّر. هذا إذن هو الإسلام السياسي الذي نريده لمغربنا، إسلام التسامح والمحبة، الإ-سلام الذي هو أمن وسلام؛ وتلك هي الفتوحات المكية الجديدة، الفتوحات السياسية المغربية !
فليكن أخذ الجميع بالدين في تونس بعد رمضان هذه السنة أخذ الحب بقلب المتيم، عندها يخطر حتما بباله بيت ابن حمّويه، هذا الأديب والقائد العسكري لقي حتفه سنة 1250 ميلادية مستشهدا على رأس جيش آخر الملوك الأيوبيين بمصر خلال الحرب ضد الصليبيين في مدن مصب النيل :
أنتم سكنتم فؤادي وهو منزلكم | وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
فصاحب البيت ليس الفقيه ولا السياسي، إنما هو المواطن، إذ البيت هو الوطن، وهو للجميع تماما كالدين. لنعمل إذن حتى يسكن الإسلام فؤاد المؤمن كما يسكن المؤمن الوطن، عزيزا مكرما، متعلقا به إذ هو أدرى بالذي في قلبه من غيره. بهذا نسعد حقا بديننا وفي ديننا. والله الأقدر على كل شيء والأعلم في كل شيء؛ جعل الله عيدنا سعيدا وأعاده علينا باليمن والبركة.
…………………………………………………………………………..
للمزيد
*محي الدين بن عربي : الفتوحات المكية، دار الكتب العلمية، بتحقيق أحمد شمس الدين.
*عبد الله زارو : مزايا العقل الحساس. دفاعا عن سوسيولوجيا تفاعلية، إفريقيا الشرق، المغرب. ترجمة لكتاب Éloge de la raison sensible لعالم الإجتماع الفرنسي ميشال مافيزولي Michel Maffesoli، منظر مابعد الحداثة.
شارك رأيك