بقلم فرحات عثمان
التشوية الذي جعل الإسلام اليوم ظلاميا داعشيا، بعد أن كان تنويويا ثوريا، مردّه لخبطة في القيم الإسلامية التي قلبها التزمت رأسا على عقب؛ ومنها مفهوم الشهادة والشهيد، إذ هما يقتضيان الحياة لا الموت.
إن المفهوم الحالي للشهادة والشهيد لا يمت بصلة لا لنص القرآن ولا لروحه ومقاصده؛ فالفهم الصحيح فيهما يناقض تماما صناعة الموت التي أصبح يحملها الفهم المغلوط الذي يُروّج له تجّار الدين.
حقيقة الشهادة
يعرّف الجوهوي الشهادة، في اللغة، بالإعلام والحضور؛ فهي الخبر القاطع الذي يأتي من المشاهدة والمعاينة. أما فقها، فهي الإخبار عن أمر حضره الشاهد وشاهده. لذا، فالشهادة الصحيحة تقتضي الحياة لا الموت والحضور لا التغيب، إذ لا معنى لأن يشهد العبد إذا مات، عدا يوم القيامة.
الموت إذن لأجل الشهادة خور ما بعده خور، فلا شهادة عندها. ذلك أنه لأجل إعلاء الحق، لا بد من الشهادة، وهي في البقاء على قيد الحياة للإدلاء بالشهادة والإتيان بالخبر القاطع اليقين. وكما نعلم، ما ضاع حق وراءه طالب؛ لكن أين الطالب إن قتل نفسه؟
بالتالي، خلافا لما يروّج له من يتاجر بدينه قرب من يُغرر به من الشباب، لا شهادة اليوم في الإسلام إلا في مجاهدة النفس، أي الجهاد الأكبر، بما أن الجهاد الأصغر انتهى بقيام الدولة الإسلامية واستقرارها. فمن يبتغى الشهادة عليه العيش والبقاء حيا للجهاد الأكبر. أما من يختار الموت، فيقتل نفسه وهو يعتقد الحصول على مرتبة الشهيد، فليس هو إلا المخالف لدينه وقد حرّم قتل النفس.
حقيقة الشهيد
الشهيد في لغتنا هو الشاهد، أي المُخبر، بمعنى العالم، الذي يبيّن ما وصله من علم فعلِمه؛ وهو فعيل من أبنية المبالغة في فاعل. بهذا المعنى نجد الشاهد من أسماء الله الحسنى، لأنه لا يغيب عن علمه شيء.
وللشهيد أيضا عند الفقهاء معنى القتيل في سبيل الله. إلا أن هذا ليس بالمعنى الذي يُروّج له دعاة الشبيبة للموت؛ فهو يحافظ عموما على المعنى الأصلي المذكور أعلاه، أي الإتيان بالخبر القاطع. وقد وقع الاختلاف في سبب تسمية الشهيد، فقيل لأن الملائكة تشهده أو لأن الله وملائكته شهود له أو لأنه ممن يُستشهد يوم القيامة على الأمم الخالية. وقيل أيضا لسقوطه على الأرض، وهي الشاهدة، أو لأنه حي لم يمت كأنه عند ربه شاهد أي حاضر.
بهذا، الشهيد الحقيقي في الإسلام هو الشاهد، أي الذي يقول الحق ويخبر به دون لومة لائم؛ فهو الضمير الحي والفكر العامل جاهدا على إعلاء كلمة الحق. هكذا يكون الشهيد، فهو أفضل من يخدم الإسلام ويرعى قيمه بالعمل على إعلاء رسالة الدين بالكلم الطيب والمثل السنية ومكارم الأخلاق. أما من يعتقد بلوغ الشهادة بالموت، فليس هو إلا المنتحر.
الانتحار في الإسلام
هو من كبائر الذنوب؛ وفيه يُورد البخاري ومسلم عدة أحاديث تبيّن أنه لا ثواب للمنتحر، بل العقاب بمثل ما فعل بنفسه. ولقد امتنع الرسول عن الصلاة على المنتحر زجرا للناس عن مثل هذا الفعل الشنيع؛ فما أدراك بمن يقتل نفسه لقتل الناس؟ إن عقابه كعقاب من أزهق نفسا، بل وأقسى.
وطبعا، لا يمكن القول أن الانتحاري يجاهد، بما أنه لا جهاد إلا جهاد النفس. أما من يدّعي مقصد العدل في الدين، فهذا من مشمولات أولي الأمر، لا من واجبات المؤمن. فإن لم يقم المسؤول بواجبه، على المؤمن العمل بالحسنى على هدايته، لا الحلول محله.
إنه لحري بالفقهاء التذكير بهذه الحقيقة. فأقصى ما لهم من اجتهاد السلف هو أن الشهيد على ثلاثة أقسام : شهيد الدنيا والآخرة، وشهيد الدنيا وشهيد الآخرة، على أن يكون الأول هو الذي يُقتل في قتال لتكون كلمة الله العليا دون غرض من أغراض الدنيا.
هذا ما بقي من اجتهاد لزمن ولّى قبل أن تستقر دولة الإسلام ويغزو الدين القلوب. وهو اجتهاد بشري لا يعتمد ولا على آية واحدة في القرآن في معنى الموت، لأن كل الآيات به في المعنى الذي قلنا، أي الذي يقتضي الحضور والحياة للشهادة، لا الموت. لا شيء في القرآن فعلا يدل على أن الشهيد هو الذي يموت لأجل الدين أو أن الشهادة تقتضي القتال.
ولا حديث في مسلم أىضا يخص الموضوع؛ أما البخاري فيورد حديثا واحدا يبيّن أنه لا فرق بين من يموت في سبيل الله ومن يموت لإصابته بالطاعون أو لغرقٍ مثلا. أي امتياز إذن لمن يموت في سبيل الله دون أن يقوم بواجب أعلى وأسمى هو الشهادة بالكلمة والحجة الدامغتين؟ أليس الإسلام القرآن، وهو البلاغ المبين؟
*المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .
شارك رأيك