بقلم فرحات عثمان
ليس العُري أو التعرّي من كل لباس فحشا في الإسلام، كما هو في اليهودية والمسيحية، فلم يصبح مرادفا للعورة إلا باجتهادٍ من الفقهاء كان مخيالهم متأثرا بعادات أهل الكتاب؛ فإذا أصبح العري اليوم ذنبا، فذلك ما نجده في الكتاب المقدّس، بينما لا أثر له في القرآن.
الإثم الأوحد الحقيقي في الإسلام هو الإشراك بالله؛ أما سائر غير ذلك مما اعتبره الفقهاء ذنوبا ففيه الكفارة، وبالتالي ليس إثما. مع العلم أن لله في دين الحنيفية، حتى عند الإشراك به، حق المغفرة لعبده الآثم إن شاء ذلك وأراده، إذ هو العلي القدير على كل شيء، يفعل ما يشاء. ومن يشك في رحمة الله وواسع مغفرته ليجرؤ على التعالى على خالقه والحدّ من قدرته ومن مشيئته؛ وهذا فعل الكافر لا المؤمن!
فلسفة العُري في الأخلاق الإسلامية:
العُري هو خلاف اللُبس، يقال منه عري من ثوبه، فهو عارٍ. ويقال للرجل عار أيضا إذا أخلقت ثيابه. لذا، الذي يخلق العري بانعدامه، لفاقة أو لفقر مثلا، هو اللبس أو اللباس، أي الثياب. فليس العري في ذاته مذمّة، إنما هي في انعدامه عندما يجعل المجتمع من اللباس هويته، كما يجعل العربي مثلا من العمامة تاجا على رأسه.
لذا، لم ير الإسلام الصحيح في العري إثما ما دام لم تكن فيه نزعة معيّنة تخالف الأخلاق التي أتى لإتمامها، كالصلف والخيلاء والتكبر، وهي صفات تأتي من اللباس لا من العري، إذ هذا عادة حال الفقير؛ ولا معرة على الفقير لفقره وتعرّيه في الإسلام.
وبما أن الإسلام لا يرى فرقا بين المؤمنين إلا بالتقوى، إذ هم سواسية أمام الله، لا يفرّق بينهم إلا بكسبهم، فلا شك أن انعدام اللباس، الذي يوحّد مظهر بني آدم، مع المحافظة على أخلاق الإسلام، لهو أفضل من وجود اللباس مع ما يصاحبه من اختلاف في المظهر بين البشر لعل فيه إخلالا بالتساوي بينهم من خلال ملبسهم.
لهذا نقول أن العري أفضل من اللباس من وجهة نظر الفلسفة الأخلاقية الإسلامية لما فيه من نزعة التساوي بين المؤمنين مما يحصر الكسب والتقوى في التمسك بالأخلاق وحدها ولوحدها، لا شيء غيرها يمكن منه وفيه التفريق بين المؤمنين، سواء من خلال المظهر أو النية، إذ في العري ما يحث أيضا على غض النظر والتحلّي بصفات المسلم كلها، بدءا بالنية الصافية وتماسك النفس والنزوات.
العورة ليست العُري، بل هي السوءة:
لقد اعتدنا الخلط بين العري والعورة التي هي سوءة الإنسان أي كل ما يستحيا منه، وذلك ما يستره من جسمه حياء؛ وقد أصبح لذلك يُطلق على العيب؛ ومنه الكلمة القبيحة. وقد ذكر الميداني أن العورة من الرجل هو ما تحت السرة إلى الركبة، وقيل إلى الفخذ، وهو الأصح. أما من المرأة، عند فقهاء الرسم، فبدنها كله إلا وجهها وكفيها، باطنهما وظاهرهما على الأصح.
حقيقة العورة في الإسلام أنها سوءة الإنسان، وذلك كنايةً، إذ أصلها من العار، لما يلحق من ظهورها من العار، أي المذمّة؛ وبذلك سمّى بعضم النساء عورة. والسوءة هي القُبُل وهو الذكر أو الزُبّ في الرجال والكس أو الحَرِ في النساء.
مع العلم أن كلمة زب عربية فصيحة تماما كالحر، وليستا من الكلام الفاحش؛ أما الكس فهي كلمة مولّدة لكن باشتقاق صحيح. ونقيض القُبل هو الدُبر، أي الظهر وعقب الشيء، وهو الاست أي المؤخرة. هذا، ويُعبّر عن الجميع بكلمة الفرج، وهي العورة، اسم لجميع سوآت الرجال والنساء.
وسُمّي القبل والدبر سوءة لأنه يسوء صاحبها أو صاحبتها انكشافها ووقع الأبصار عليها؛ فإن لم تكن الحال تلك، أي لا يسوء انكشاف العورة صاحبها أو صاحبتها، مثلا عند من يتعاطى مثلا الطبيعية naturisme أو مذهب التعرّي، فلا سوءة، وطبعا لا عورة. ولا يٌُمكن هنا الاحتجاج بالغير إذ من واجبه غض النظر حسب أخلاقيات الإسلام الصحيحة؛ فالاستحياء ليس مصدره إلا من ظهر الشيء منه فلم يخفى عن الأعين. هذا، وفي الفقه، يعبّر بالسوءتين عن القبل والدبر.
العُري ليس سوءة ولا عورة:
رأينا أن العري والتعرى هو التجرّد من الثياب، وأن ليس فيه أي عورة ما دام المُتجرّد والمّتجردة من ثيابهما لا يستحي من ذلك؛ فلا فحش في فعلهما إذا لا فحش في الإسلام في التجرّد من الثياب. أليست القاعدة في الحج مثلا التجرّد، بما أن لباس الإحرام فيه الشيء البعض من العري؟ هذا، بلا شك، يذكّر بما كان من حال الحج عند العرب إذ كان يتم والحاج عريانا والحاجة أيضا؛ وكذلك تم حج الإسلام الأول بحضور خليفة الإسلام الأول قبل اعتماد لباس الإحرام بتأثير من العادات اليهودية أو الإسرائيليات.
إن النفور اليوم من العري وتأثيمه لم يكن في الإسلام الأول، إذ كان العري معروفا، مقبولا، وكان شائعا بين عموم الشعب. فنحن لو طالعنا رحلة ابن بطوطة لعجبنا من تفشيه بين المسلمين في العديد من ربوع العالم. كما أنه مما يُحكى عن بعض الأمراء في العهد الأموي أنه كان يُخلى الحمّام لنفسه عندما ينوي الاستحمام مخافة رؤية المستحمّين عراة كما ولدتهم أمهاتم إذ تلك العادة في زمنه.
وبعد، كيف يستحي المسلم اليوم من العري وقد قبل به الله الذي يبعث خلقه يوم القيامة عراة كما خلقتهم أمهاتهم؟ هل يكون العبد أكثر حياء من خالقه؟ إنه بذلك يتطاول على ربّه!
شارك رأيك