بقلم فرحات عثمان
مما يميّز السياسة، خاصة حين انعدام الأخلاق فيها، صفة الحرب التي يضفيها ممارسوها غالبا عليها ؛ وبالتالي يرون فيها ضرورة اللجوء إلى الخداع. هذا يحتّم الكذب والنفاق واختلاق السيناريوهات المختلفة، لا لأجل تحقيقها ضرورة ، بل خاصة لمجرّد التمويه لإبطال مشاريع الخصوم، أو حتى حلفاء الأمس، إذ لعلّهم يعتمدونها.
من ذلك ما تواترت به الأخبار والأحداث أخيرا عن أن فترة الانتخابات البلدية بتونس لن تمر بسلام كالانتخابات السابقة، إذ العديد من الأيادي والنوايا تعمل في الخفاء لأجل مصالحها باسم مصلحة الشعب والبلاد؛ وطبعا تتمحور الأمور حول التحكم في مقاليد السلطة لتسيير البلاد. لذا، شاعت فكرة مساعي التحضير لعودة الديكتاتور السابق، وذاعت فرضية اللجوء إلى الفصل 80 من الدستور الذي يمكّن من تعطيل الانتخابات لأجل خطر داهم مهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها من شأنه أن يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة.
من حقائق لعبة الانتخابات:
كل هذا يقع في فترة عويصة من تاريخ البلاد، حبلى بالمخاطر التي لا تتهدد أمنها فقط بل نموذج حياة شعبها. فها نحن نرى إلى أي حالت آلت إليه الدولة من ترهّل وقد كثرت فيها الاحتجاجات والتجاوزات حتى من الهيئات التي من واجبها الأوكد احترام القانون؛ لكن أي قانون وهو جائر، إذ هو قانون الديكتاتورية؟ وها نحن نرى كيف أصبح الانتخاب، الذي كان يُعد اسحقاقا، مجرد لعبة في أيدي جن السياسة وقراصنة الاستحواذ على السلطة.
وليس من شك أن الحزب الإسلامي يطمح لإدارة معـظم البلديات والجهات لإحكام قبضته على ما يقي غير خاضع له من أجهزة الدولة؛ فهكذا كانت الحال في الجزائر ما مهّد للياليها وأيامها السوداء. هؤلاء يعتقدون طبعا أن مصلحتهم في استمرار العملية الانتخابية رغم ما شابها من هنات، لعل استعمال الحبر يختزله إذ لا فائدة تُرجى منه إلا ما يجنيه بائع الحبر. وهذا ما حمل هيئة الانتخابات أخيرا على عدم اعتماده لانعدام فائدته المزعومة.
سنبيّن فيما يلي أن التقييم السابق لضرورة انعقاد الانتخابات البلدية ليس بداهة في صالح الحزب الإسلامي خلافا لما يعتقده أغلب الأعضاء فيه، لا كلهم. فحسب بعض ما تسمح به القراءة للشأن الإسلامي بتونس، ليس موقف الشيخ الغنوشي على نفس وتيرة بقية كوادر الحزب، إذ هو أكثر تيقظا للإطار السيوستراتيجي ويعلم مدى تطوره في الفترة الأخيرة وتغير المعطيات ضد مصالح أهل التزمت.
من حقائق اللعبة السياسية:
معلوم أن حزب النهضة بلعب ورقة التفتح لكسب الدعم الغربي الذي همّه مصالحه لا غير، لكن مع الحفاظ على الغطاء القيمي الأخلاقي ولو شكليا. في هذا نجح حزب النهضة أي نجاح، فأسس لصورة خادعة لتنظيم يسعى لتطوير قراءته للإسلام التنويري دون الاتيان بأي فعل، معتمدا فقط على الكلام الأجوف. وهذا نجح حينا وغالط أحيانا القوى الديمقراطية في البلاد التي لم تعرف كيف تجابه تلك المخاتلة، فإذا هي الشريك الموضوعي له في عدم تطوير المنظومة القانونية الجائرة التي تحكم البلد رغم أنها منظومة العهد البائد والتي كان من الواجب إبطالها منذ قيام النظام الجديد.
إلا إن هذه النجاح يبقى رهين أي طارىء، وهذا ما يعلمه الشيخ الغنوشي حق العلم؛ فهو لئن لا يفعّل ما يُبقيه بين يديه من أسلحة تمويهية نظرا لرفض اللجوء إليها من طرف صقور الحزب، مكتفيا مثلا بالتصريحات الجريئة لأقرب مقرّبيه، مثل السيد لطفي زيتون، يعلم اليوم جيّد العلم أن هذا لم يعد يكفي ولا بد أن يمر حزبه للمرحلة الموالية، وهي القبول بمشاريع يرفضها اليوم بكل احتشام، بل وعرضها من باب المناورة ومحاولة التحكم في الأمور ولو رمزيا؛ وهي خاصة تلك االتي تخص المساواة في الميراث وإبطال تجريم المثلية والزطلة وحق شرب الخمر.
لهذا، هناك من يرى أن الشيخ الغنوشي لن يمانع ضرورة، إذ تجرأ رئيس الجمهورية بإستعمال الفصل 80 ، من القبول به كحل أقل خطرا على مصالحه، إذ هو من شأنه أن يمنع تحقّق ما يخشاه أكثر، أي نجاح الجهودات الخفية الساعية لإعادة القوّة المفقودة للنظام في البلاد بالعودة ،لا لنظام الديكتاتورية، بل بأفضل رموزه، أي الديكتاتور السابق لما له من خبرة في إعادة الأمن وهيبة الدولة، إذ لا عدل وتقدّم دون أمن واستقرار.
من حقائق وضع البلاد:
إن تطوّر الوضع بالبلاد رهين موقف الولايات المتحدة الأمريكية وتقييمها للأمور بها؛ ونحن نعلم الدور المفصلي الذي لعبته في سقوط الديكتاتورية، ثم تغيّر موقفها منذ صعود الرئيس ترامب للحكم وفشل السياسة الغربية بسوريا. فإضافة لما يتميّز به الرئيس الجديد من تحرر من ضوابط السياسة الخارجية الأمريكية المعهودة، لا شك أنه يشجّع ما يقوم به ولي العهد السعودي من محاولات لتطوير الأيديولوجة الوهابية للخروج بها من مرحلة الانقراض التي ولجتها. وهذا لا يخص فقط سياسة البلاد الداخلية، بل أيضا ديبلوماسيتها، خاصة بتونس حيث لم تعد تقبل بمساعي دولة قطر الحليف الأكبر للإسلاميين.
هنا يكمن سر شائعات التحضير لعودة بن على لتونس لا كديكتاتور، بل كتونسي من حقه العودة لبلاده ونظرا لما له من تجربة تنظيمية من شأنها إفادة البلاد؛ فليس هدف الشائعات إلا التمهيد لفرض منطق الأهون أفضل من الأسوء، أي إعلان حالة الخطر الداهم للتصدي لكل نشاط إجرامي من شأنه استغلال الانتخابات لتسهيل عودة بن علي، مع العمل على الإصلاح التشريعي الذي لا بد من التعجيل به حتى ينتهى الوضع المزري الحالي الذي نرى فيه القضاء يطبّق قوانين لاغية لم تعد لها صفة قانونية بما أن الدستور أبطلها.
إن وضع البلاد لشائك ويتطلّب وضع حدٍّ للتسيب الذي يتفاقم، وهذا ما لم يعد خافيا على أهم حلفاء تونس وحزبها الديني، إذ لم تعد مصالحه تتناغم مع الفوضى الحالية. ولئن هو لا يزال يراهن على دور الإسلام السياسي، فإنه لم يعد يفعل ذلك بنفس الصفة السابقة بعد أن بيّن حزب النهضة إفلاس مشروعه المتزمت بتونس، وخاصة بعد تبيّن الطرف الأمريكي من وجود نمط آخر من الإسلام بتونس يلائم أكثر مصالح رأس المال العالمي، وإن اقتضى منه أقل توحشا؛ فهو يوفّر له ما لا يمكنه الاستغناء عنه، أي السلام المادي والمعنوي. وهذا ما لم ينجح فيه حزب النهضة الذي بقي يداهن بخصوص الحقوق والحريات ولا يتردد، عند الحاجة، في التهديد بالويل والثبور بينما لا بد من الأمن لتحقيق مزيد الأرباح.
هذا ما لم يعد يخدم مصالح أقرب حلافائه بالغرب، ما يجعل النهضة تقبل ، إن اقتضى الأمر، خاصة بعد أن أقرّت بمبدأ المصالحة الشاملة، بعودة الديكتاتور السابق لخدمة بلاده في ظل النظام الجديد بمثابة كفاءة تونسية. ألم يستقطب حزب النهضة من كل حدب وصوب، ومن ذلك أعضاء حزب الديكتاتور حسب مبدأ أن التوافق مع النهضة يجبّ كل ما سبق، بما فيه الكفر؟
فما يمنع أن يتّفق الغنوشي مع بن علي بعد أن اتفق مع السبسي، عدو الأمس؟ تلك هي السياسة عندما لا نجد فيها غير النفاق؛ فهي عندها لعبة القط الذي يحاكي صولة الأسد وحيلة الثعلب! لذا حُق اليوم التساؤل: هل هو التحضير لعودة بن على لتونس أو لما ميّز حكمه من أمن لا بد منه لإصلاح البلاد وإقامة القانون العادل بها؟ إنه الشغل الشاغل حاليا لكل من يهمّه أمر تونس ومستقبلها، داخليا وخارجيا
شارك رأيك