بقلم فرحات عثمان
يستعد المجتمع المدني للتظاهر يوم الأحد القادم من أجل حرية الإفطار في رمضان رغم منع وزارة الداخلية للمظاهرة. وإنه لمن المؤسف حقا ألا تستغل جمعيات المجتمع المدني قوّتها في زمن الجماهير الذي نعيشه وسلطة الإعلام فيه للنضال بفاعلية من أجل تطبيق الدستور في بنوده الهامة، ألا وهي المتعلّقة بالحقوق والحريات في المجال الخاص؛ ومنها حق الإفطار العلني في رمضان.
سلاح القانون الذاتي ضد التزمّت:
لقد بيّن المتكلّم الرسمي باسم وزارة الداخلية الموقف الصحيح في هذا الميدان، وهو أن القانون يبقى الفيصل النهائي في دولة تريد أن تصبح دولة قانون؛ لذا من باب العمل الهادف أن يسعى الحقوقيون لهذا عوض االكلام دون الفعل. وذاك يقتضي السعي الجاد لتغيير القوانين؛ فلا فائدة في انتظار مشاريع القوانين من طرف المشرّع ما دام المتزمتّون يهيمنون عليه بكل الخزعبلات التي تتيحها لهم الحياة السياسية، حتى الديمقراطية منها.
ما يعني هذا؟ أن المجتمع المدني لا بد أن يتجرأ على عرض نصوصه الذاتية في ما يمكنه تسميته خدمة تشريعية ذاتية self-service législatif فالقيام بالدفاع عنها حثيثا في الإعلام حتى ينجح في فرضها على أهل السياسة والتشريع. فمن يجهل اليوم قيمة الإعلام ودوره في التأثير على كل ميادين الحياة؟
لنذكّر مثلا أنه، منذ أمد طويل، تم إثبات أن لا تجريم ولا تحريم للواط في الإسلام، وأن تحقيق المساواة من القطعيات في الإسلام لا العكس؛ فأين مشاريع القوانين في الغرض والحملات الإعلامية، بينما الكتب والمقالات متوفّرة؟ فمن يتكلّم في هذا سوى من ينافح حقيقة عن هذه الحقوق؟ هل ننتظره ممن يعاديها؟ أليس أقصى ما يتمنّاه هؤلاء هو أن تبقى القوانين على حالها، وهذا ما يحصل طالما لم يجرؤ الحقوقيون على القول والتذكير أن القوانين التي يطالبون بإبطالها هي مخالفة، لا للدستور لا فقط في جانبه المادي، بل وأيضا في إحالته للدين، إذ هي مخالفة له؟
لقد حان الوقت لأن تتم مقاومة التزمّت والنصوص غير القانونية بصفة فاعلة، وذلك بعرض مشاريع قوانين لا تتجاهل الدين بتاتا، بل تعتمده وتتكلّم باسمه، لتحقيق النقلة النوعية الواجبة من فهمٍ فسد لدين الإسلام إلى فهم أصح وأنقى؛ وهو في أن الإسلام دين الحقوق والحريات، كل الحقوق والحريات، خلافا لما يقوله فقه وجب تغييره بالاجتهاد، وذلك بإعادة فتح بابه، لأن هذا الفقه أصبح مطية للإجرام، كما نراه بشرق غوى.
عيب مشاريع قوانين المجتمع المدني:
لقائل أن يقول أن هناك العديد من النصوص التي تم ويتم عرضها من طرف الجمعيات، فلا تنجح في تغيير الأوضاع؛ وبديهي أن هذا ليس ضرورة للامتناع التي تجابهه هذه النصوص، إذ هو من تحصيل الحاصل. في حقيقة الأمر، إنه في عدم قدرتها الذاتية، في مواصفاتها، على أي تغيير؛ إذ التغلب على الامتناع المعلوم المعروف هو هدفها، والتغلب عليه غايتها. وذلك يفترض النص الحصيف الذي له القدرة على قلب الأوضاع رأسا على عقب بالحصول على أكبر التأييد له من طرف الرأي العام.
إن العيب الأكبر للنصوص المقترحة إلى يومنا هذا في المواضيع الحساسة يتمثّل في أنها غير متجذرة في الواقع المعيش، ما يجعلها دون فاعلية لفرض نفسها على الأذهان. فهي تتجاهل خاصة الدين وقيمته في الحياة التونسية، إذ هي دوما تتكلّم باسم العلمانية والفصول المدنية في الدستور؛ لذا، تتجاهل في نفس الوقت النصوص الدستورية التي تحيل إلى الإسلام وضرورة احترام أخلاقياته.
هنا مربط الخيل وبيت القصيد. فهذه الإحالة للدين هي الحيلة التي لجأ لها أهل التزمت لمنع أي تطوّر للحياة المجتمعية في المسكوت عنه، مثل الإفطار في رمضان أو المساواة في الإرث أو حق المثلية أو الجنس خارج روابط الزوجية، إلخ. إنه بحقه مسمار جحا، أي الحيلة التي يقع فيها العلمانيون، إذ هم، لقصر نظرهم وقلة حيلتهم، يقصرون الإسلام على الدين والشعائر؛ فإذا هم بلا قدرة على تبليغ صوتهم للجماهير ونظرتهم المشرقة لحقوق الناس بالرغم أن فهم المجتمع للدين ليس متزمتا ولا شعائريا البتّة.
المرور بالإسلام من الشعائرية إلى الثقافية:
الإسلام عند أغلبية التونسيين ثقافة قبل أن يكون شعائرا؛ كما أنه معاملات ودنيا إضافة لكونه الدين الذي مسخه الفقه الحالي الذي فسد؛ فهو الذي يعتمده أهل داعش. أليس هذا ما يجب التذكير به؟ ومن يحقّقه سوى العلمانيون، أي من يريد إخراج الدين من المجال العام؟ فهلا وصلوا إلى هذه الغاية بالوسيلة الأفضل، أي بالكلام في الدين والدفاع عن صفاته المدنية، بما أن الإسلام كشعائر لا يهم إلا الحياة الخصوصية، ولا دخل له أبدا في الحياة العموميمة،؛ كما لا دخل لأحد في العلاقة المباشرة بين الله وعبده!
هذا بالطبع ما لا يقوله المتزمتون، رغم أنهم لا ينكرونه ولا حيلة لهم للرد عليه؛ فلم لا يذكّر به الحقوقيون والمجتمع المدني؟ فبذلك ينتصرون للحقوق والحريات بصفة أكثر فاعلية وجدّية، إذ يجدون عندها التأييد من الجماهير التي لا تنتصر ضرورة لأهل التزمّت بقدر ما هي تؤيّد كذبهم في الدفاع عن الإسلام بينما هم يضرّون به في الواقع.
إن الواجب الذي يفرضه المنطق والدستور يتمثّل في الدفاع عن الحقوق والحريات باسم الاحترام الصحيح للدين. فبخصوص الإفطار العلني في شهر الصوم، احترام رمضان والإسلام يكون باحترام حقوق الناس، صاموا أم لم يصوموا، لا في فرض الصوم. بل إن الصوم في محيطٍ لا إفطار فيه ليس صوما، بل هو المسخ السافر لدين الإسلام الذي يقدّس حرية المؤمن في علاقته المباشرة مع ربّه. بذلك، يكون نضال الحقوقيون الفعّال في الدعوة للعودة إلى الإسلام الصحيح وترك حرياتهم للنّاس في الصوم دون التظاهر، وإلا فسد صومهم، وفي الإفطار دون التخفي، وإلا ما كان صوم الآخرين صحيحا.
إنه لأكيد أن الدعوة لحق الإفطار بهذه الصفة من شأنها التسريع بتفعيل هذا الحق، إذ تتمّ مقاومة المتزمّت بسلاحه، فلا نقع في فخه، أي العداء للإسلام. ويمكن قول الشي نفسه بالنسبة للمثلية أو المساواة في الإرث. لذا، عوض الاكتفاء بمظاهرات لا تسمن من جوع، على الجمعيات الداعية للإفطار العلني، بل وكل الجمعيات المنافعة عما تسميّه حقوق الأقليات، في عرض مشاريع قوانين تبيّن فيه أن المانع الحقيقي الذي يعتمده المشرع انتفى، إذ أن الدين الإسلام هو الذي يشجّع على تحقيق هذه الحقوق واحترام هذه الحريات بتمامها وكمالها.
وإنه من المحبّذ أن تتجذر أكثر في واقع البلاد وتطرح جانبا الاسترتيجية التي تستعملها اليوم، هذا الاستنساخ لواقع غربي لا يمت بصلة بالواقع التونسي. فهذا التقليد الأعمى للغرب هو الذي يمنع الحقوقيون النزهاء من النجاح في نضالهم، إذ يستعملون سلاحا لا ينفع! مثلا، ليس من الصحيح الكلام عن حقوق الأقليات في الحقوق الجنسية، فالأقلية المثلية بتونس هي من الأغلبية التي لا حقوق جنسية لها، مثلية كانت أم لا؛ ثم إن من يُعد مثليا ليس أقلية إلا بمقتضى قانون جائر من قوانين الاحتلال جاء ليمنع ويطمس مثلية متجذرة في المجتمع في نطاق جنس تمامي. فالجنس الصحيح بتونس ثنائي، أي هو مثلي وغير مثلي، لا يفرّق بين الذكر والأنثي. فأين الأقلية في شعب كله أقلية، ليس له أي حق جنسي، مع أن عاداته حسّية بالأساس ودينه من الأديان الأكثر حرّية وشبقيّة؟
شارك رأيك