بقلم فرحات عثمان
مباهج العيد اليوم لا يجب أن تنسينا أن التقوى فيه، تماما مثل شهر الصيام المنقضي، لا يجب أن تكون مجرّد ذكرى للأحداث المفرحة، إذ المنفعة هي أيضا وخاصة بالأحداث المحزنة التي فيها العبرة أوفر.
من ذلك، في يوم العيد هذا، فاجعة مقتل الخليفة الراشد الثالث، عثمان بن عفان، الذي لقي مصرعه، ليلة عيد أيضا، إلا إنه عيد الأضحى، وله من السن 84 سنة، وذلك بعد حصارٍ لداره دام أربعين يوما، في السابع عشر من جوان سنة 656، الموافقة للعام الخامس والثلاثين للهجرة.
أوّل جريمة سياسية في الإسلام:
لئن نذكّر بهذه الحادثة، فلأن مقتل عثمان كان فيه التصدّع الأول لصرح الإسلام، إذ هو أوّل جناية سياسية جرّت على الإسلام الوبال الذي نقاسي منه إلى اليوم. فمن الممكن اعتبار ظهور الإسلام السياسي مع حادثة قتل عثمان؛ ففيها نشأة الفرق السياسية بدءا بالإسلام الشيعي والخوارج وخاصة الإسلام الرسمي الذي ستفرضه السلالة الأموية ثم تدّعمه السلالة العبّاسية. وطبعا كان كل ذلك نتيجةً لما سُمّي بالفتنة الكبرى.
هذا يبيّن أن الإسلام الذي يعتقد فيه الناس، أي دين السلام والرحمة، لم يمثّله التاريخ الرسمي للبلاد الإسلامية من خلال تجلّيات الإسلام السياسي. فهو لم يكن إلا سلسلة من الحروب، داخلية وخارجية، ومن جرائم سياسية باسم الدين، مستغلّة لا مبادئه فقط، بل وطقوسه وأماكنه المقدّسة. فكم من جريمة وقعت في المساجد وفي الأعياد؛ بل في المدينة ومكّة إذ وقع رمي الكعبة بالمنجنيق!
لقد هلك عثمان مظلوما من طرف أهل التزمّت في الدين، هؤلاء الذين سُمّوا أصحاب البرانس والجباه السود لكثرة سجودهم؛ وهم القرّاء العبّاد الزهّاد الذي كانوا من أهل التعصّب والتزمّت. لا محالة، كانت لعثمان عيوب ومحاباة لعشيرته الأموية؛ إلا أن هذا ما كان يسمح بقتله حسب مبادىء الإسلام الصحيح. لقد وقع حصاره ببيته ثم قُتل وهو يقرأ القرآن؛ بل وقطعت يده التي كتب بها الفصّل وهو يدافع بها عن المصحف الذي داسه قتلته بأقدامهم رغم أنهم ممن يدّعي التقوى، وهم ممن سيصبح أهم أنصار علي، ابن عمّ النبي. مع العلم أن من قتلة الخليفة المظلوم محمّد بن أبي بكر، الخليفة الأول.
الإسلام السياسي ليس الإسلام الأصلي:
من الممكن القول أننا اليوم لا نأخذ إلا بإسلامٍ هجينٍ، نشأ مع فاجعة قتل عثمان؛ إذ هي أتت، قبل حرب صفّين ومهزلة التحكيم، بثورة زوجة النبي ضد علي ووقعة الجمل. فهذا الذي جعل الناس يشكّون في براءة علي من دم عثمان الذي كان يطالب بثأره والي الشام معاوية بن أبي سفيان لإبقاء الخلافة في السلالة الأموية. وبما أنه نجح، فقد بدأت في الإسلام فترة الملك العضوض التي لا نزال نعيشها اليوم، ولو أن الوراثة أصبحت في التسلّط والتجبّر، لا في التوريث السلالي.
لهذا، لا نبعد عن الحق إذ قلنا أن الإسلام الصحيح انتهى مع موت الرسول، صاحب الرسالة التي أتى بها، إذ بقي بين دفّتي المصحف، أو حسب ما فهمته قلّة من زهّاد المسلمين غير المتعصّبين، هؤلاء الذين كانوا من أهل الصفّة ثم أنتجوا الصوفية، متصوفة الحقائق. أما ما نعمل به، فهو نتاج صراعاتٍ وحروبٍ، أي الإسلام السياسي الذي لا علاقة له بإسلام الدعوة المحمّدية، دعوة الحبّ والتآخي في مقاصدها. وقل نفس الشيء بالنسبة للفقه، أي هذا الاجتهاد البشري الذي قام به فقهاء كانوا في خدمة الحكّام، سواء السلالة الأموية أو العباّسية التي خلفتها. هذا بالنسبة لأهل السنّة، ولا يختلف الأمر لبقية الملل والنحل، خاصة منها الشيعة، إذ الوازع السياسي كان منبتها وتيربها.
إن ما حدث لعثمان ليبيّن صحة رأي عمر في العرب، أي أنهم يُساسون بالقوّة، إذ أقلّ تسامحٍ هو من باب الضعف عندهم. هذا لا يعني طبعا ما آلت إليه الأحوال ببلداننا، من تسلّط الساسة بالقهر والظلم والقوانين الجائرة، بل ضرورة أن تكون القوانين نزيهة وعادلة؛ فهي التي تمنع تسلّط العباد على العباد، إذ لا بد من تسلّط القانون، على شرط أن يكون عادلا بحقّ، لا كما هو في بلدان الإسلام وبتونس.
الإسلام الصحيح حقوق وحريات:
بغض النظر عن الروايات المختلقة بخصوص موت النبي وأبي بكر ضحيّة تسمّمٍ من طرف يهودي، قتل عثمان هو الجناية الثانية في تاريخ الإسلام المتعلّقة بأول شخصية سياسية فيه، وذلك بعد عمر. إلا أنه كان الأوّل الذي تزهق روحه بأيدي مسلمة. هذه الجريمة السياسية فتحت بالأخص الباب لما سيصبح عادة في الحكم؛ بذلك، وكما ارتآه حكماء الثقافات القديمة، يكون للنفوذ السياسي التعريف الذي وصفه بأنه الاستعمال للحسام والحيلة في اتحادٍ وثيقٍ بين طبيعتي الأسد والثعلب.
فليس التاريخ الإسلامي إلا التأكيد لهذا القاعدة خلافا لما أتى به الدين من أنه علاقة تسليمٍ من المسلم لخالقه، إذ له في دينه كل الحقوق والحريات التي يراها صالحة له ما دامت هي أيضا حقوق غيره؛ فلا خضوع من العباد إلا لخالقهم ما داموا يحترمون حقوق وحريات بعضهم بعضا. هذا هو معني غياب الكنيسة والمعبد في الإسلام، خلافا للمسيحية ولليهودية؛ وهذا ليس في الإسلام اليوم، الإسلام الدعيّ المخالف للدين الصحيح، بما أن الفقهاء أصبحوا أحبارا ودار الإفتاء كنيسة في الإسلام.
متى نعود للإسلام الصحيح بنبذ كل الترّهات والأكاذيث التي شابته؟ هذا يبدأ بالاعتراف بحقوق وحرّيات المسلم كاملة في تسيير حياته وإبعاد السياسة عن الدين، إذ هي التي أفسدته وتفسده. فلنبطل وزارة الشؤون الدينية ودار الإفتاء، لأنهما لا يمتّان بصلة للدين الصحيح! وليمتنع الساسة ورموز الدولة من التدخّل في شؤون الدين، إذ حماية الإسلام ورعايته المثلى هي في منع تدخّل السياسة فيه؛ فالإسلام إيمان لا يهم إلا الحياة الخاصة والعبد وربّه في علاقة مباشرة لا دخل لأحد فيها.
هذا يفرض الإسراع في تونس بإبطال كل ما فسد في قوانيننا، إذ هي من مخلّفات العهد البائد وعهد الاحتلال المسيحي، إذ نحن بها نطبّق فهما خاطئا للدين، ذاك الذي أنتج داعش. لا بد إذن، دون أي تأخير، التعجيل بإبطال ما فسد في قوانينا باسم الدين، لا فقط الدستور، لأن المانع الحقيقي هو فهمنا الفاسد لديينا. فهلاّ نعود للإسلام الصحيح أو نبقيه مواتا ونسعى في ركاب داعش وتوابعها؟
شارك رأيك