بقلم فرحات عثمان
الإسلام اليوم واحد ومتعدّد في نفس الوقت. واحد في أنه لا دين سوى ما أتى به القرآن، ولا إيمان إلا بتعاليم الفرقان وما فسّرته السنة الصحيحة، لا حسب منطوق النص الديني فقط، بل وأيضا حسب روح الحرف القرآني ومقاصده.
الخلط بين الإسلام والشريعة الإسلامية:
ليست هذه حال الإسلام وما أصبح عليه من غربة وفساد رغم أن ذلك ليس جديدا، بما أن الصدع بدأ منذ وفاة الرسول الكريم، إذ لم يتوقف الوحي فقط بموته، بل وأيضا الفهم الصحيح للدين القيّم، ما جعل أهل الإسلام يمرّون من ملّة لا كنسية فيها ولا معبد، وخاصة دون طقوس جامدة كالأصنام، إلى دين كنسي شعائري هو نتاج اجتهاد بشري لا يأخذ ضرورة بمقاصد الشريعة. هذا ما عجّل بغربة الإسلام التي تحدّث عنها الرسرل الأكرم والتي بدأت بفعل من يدّعي أنه من المنافحين البررة عن هذا الدين بينما هو من ألد أعدائه، يهدم صرحه من أساسة ومن الداخل.
بدأ ذلك المسخ حال وفاة الرسول والنزاع في خلافته الذي أتى بالشيعة، فكانت معها نشأة كنيسة غريبة عن نص وروح دين محمّد؛ فإذ نحن حيال ولاية الفقيه حسب فهمه المنقوص ضرورة للحكمة اللدينة، لا ولاية الله في عصمة مقاصد تعاليمه بالفرقان! ثم تواصل هذا التشويه للدين الصحيح مع الإسلام الغالب، المنعوت بالسنّي، الذ ي ابتدع أيضا مرجعيته الكنسية عبر الفقه الذي أقامه دينا عوض الدين الأصلي، فإذا في الإسلام كهنوت أحباره وقساوسته الشيوخ والفقهاء الذين يدّعون لأنفسهم واجتهادهم البشري الولاية على أذهان المسلمين، بينما لا ولاية إلا للّه على المسلم الذي لا يسلم نفسه إلا له.
نحن اليوم نعيش حسب تعاليم إسلام مسخته الإسرائيليات في العديد مما جاء به من ثورية في إناسة تعاليمه؛ فكان الفهم الغريب الهجين لتعاليم دين محمد السمحة ولمقاصدها عبر ما يُسمّى بالشريعة الإسلامية، بينما ليست هي إلا استنباطا بشريا يحتمل الصحة والخطأ، والخطأ فيه أكثر للنقص الثابت للعقل البشري إزاء الحكمة الإلهية.
رغم هذه الصفة، يدّعي الفقه والشريعة الحق وعين الحق، لا خلاص دونه، في حين أنه أصبح لا يبعد عن الباطل أحيانا في عديد القضايا، منها ما يمنع مجرد مشاعر الحب والإحساس النبيل، كتحريم القبلات بين الناس أو تعاطي الجنس خارج أطرٍ ما قال بها الله، الذي لم يمنع المتعة حتى في الحج. هذا هو الذي أسّس لداعش التي يجب الانتباه إلى اعتمادها على فقهاء من خيرة – أو قل شر – أهل الفقه السلفي، أي ممن لا يفهم الإسلام إلا حسب تزمت أصحاب البرانس، وهم هؤلاء الغوغاء الذين تزعموا الفتنة الأولى في الإسلام، فقتلوا الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، ثم خرجوا على الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب وكل الخلفاء بعده.
إنه لمن أوكد الواجبات على كل مسلم نزيه الانتباه إلى الحال المزورية التي عليها دينه اليوم والسعي لتخليص إبريزه من خور السلفية الداعشية وكل من يسعى في ركابها من دعاة الإسلام الوسطي؛ فلا وسطيه في دين القيمة، بل ثورية إناسية! يكون هذا بالعمل على التفريق بين الإسلام كإيمان منبعه ومقصده الله، والشريعة الإسلامية التي ليس منبعها إلا العقل البشري ومقصدها معيش البشر. فليس الإسلام شريعة الفقهاء ومذاهبهم، وإلا فهو بمثابة اليهودية التي أصبحت لا تعتمد على التوراة بقدر اعتمادها على المشنة والتلمود، وهذا ما يُوازى عندنا الفقه الذي يدّعي أنه شريعة الله بينما ليس هو إلا حكم البشر المعزو لله، وهو برييء منه في العديد مما ذهب إليه بعضهم في تصريف تعاليمه السمحة إلى أحكام إجرامية.
ليس الإسلام الصحيح في المذاهب الفقهية :
إن الشرع الموصوف بالإسلامي ليس إلا صورة بشرية من الإسلام الصحيح؛ وهذه الصورة أصبحت قديمة لا توافقه في جدته نظرا لأزليته، فهي كالصورة الصفراء التي عهدناها قبل توفر التقنيات الحديثة. لهذا أتت هذه الصورة بأفحش ما يكون وأفظع ما يهدم صرح هذا دين القيمة، داعش وتوابعها التي هي في كل مكان، لا فقط بالشرق الذي غوى وحده، إذ تعشعش في أدمغة أهل التزمت، أعداء الإسلام.
فالشرع، وهو الشريعة، هو البيان والإظهار، ومنه الشريعة التي أصلها مورد الإبل الشاربة للماء. بذلك يعني تعبير «شرَع الله الإسلام»: جعله طريقا ومذهبا. هذا، وقد أصبح المراد بالشرع والشريعة عند الفقهاء تبيان الأحكام الدينية، وليس هذا التبيان إلا اجتهادا من البشر لا يلزم إلا صاحبه، فليس هو من الدين، إذ ليس هو ضرورة من الصحة الكافية لاعتباره ملزما. لهذا، من الخور اعتماد الشرع البشري لتجويز الشيء وتحريمه بينما لا يفعل ذلك إلا القرآن بصريح العبارة. فكم من محرمات أتى بها الفقهاء وما قال بها الله مثل تحريم المساواة في الإرث أو تجريم اللواط أو شرب الخمرة دون إسراف وخارج الصلاة!
بيّنا في أحاديث سبقت معنى الفقه الذي هو، كما يقول أبو حنيفة النعمان، معرفة النفس ما لها وما عليها. ولعل هذا أفضل التعاريف للاصطلاح الفقهي للشرع والشريعة. فهذا التعريف يجعل المعرفة الذاتية في نطاق الاجتهاد الأكبر، للعقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات؛ وهو اجتهاد شخصي حر، لأنه معرفة، أي علم، والعلم بالأحكام الشرعية العلمية لا يكون إلا حسب فهمنا للعلم اليوم، وهو الذي يقتضي التطور وإمكانية الخطأ والإصلاح للخطأ، إذ هو متحتّم للتغيّر المميّز للظروف في هذه الدنيا؛ فلا مجال لأحكامٍ متحجرة في الأمور الدنيوية إذا اعتمدنا على الدين الإسلامي الصحيح وطبقنا الآلية التي أتى بها لذلك وهي الاجتهاد المستدام في كل الأمور، دينية كانت أو دنيوية؛ وخاصة أمور الحياة الدنيا.
ليس هذا ما نفعل للأسف، فلا نأخذ بما فرضه الدين الصحيح، بل بمذاهب من اجتهد فأصاب لزمنه لكنه لم يصب لزمننا؛ وكيف يكون ذلك وهو غير زمانه؟ مع العلم أن المذهب، لغة، ليس هو إلا محلّ الذهاب وزمانه، وهو المصدر والاعتقاد والطريقة المتسقة. رغم هذا التعريف الصحيح للمذهب الذي يترك الباب مفتوحا على مصراعيه للاجتهاد ودوامه في ديننا، أصبح المذهب عندنا يعني ما يُصار إليه من الأحكام، كما قاله المناوي، صاحب التوقيف على مهام التعريف؛ أو كما يقول اللكنوي في الكليات الذي يعرّف المذهب بأنه المعتقد الذي يُذهب إليه والطريقة والأصل. فهل هناك من أصل غير القرآن؟
شارك رأيك