في نطاق المجهود الدؤوب الذي يقوم به على رأس المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، قدّم ناجي جلول مقتراحات في سبيل إنقاذ تونس من أزماتها المتعددة خصّت هذه المرّة الصناديق الاجتماعية، ودلك خلال ندوة عقدها يوم الثلاثاء بعنوان «أي مستقبل للمتقاعدين» .
بقلم فرحات عثمان
ولا شك أن التحية تتوجب هنا لما يقوم به المعهد تحت رئاسته الجديدة، إذ أنتج في ظرف وجيز من الأشهر المعدودات دراسات قيمة لم ينتجها المعهد خلال سنين عدّة تحت رئاسات أخرى.
الفاعل والفعل السياسي:
لئن أشار المعهد إلى الإرادة السياسية، مع الكوابل البيروقراطية وهيمنة لوبيات المصالح والمنافع، من بين العراقيل والصعوبات الهامة التي أدت إلى إفلاس الصناديق المعنية، فالفاعل والفعل السياسي يبقيان السبب الرئيس الذي يتوجب توجيه أصابع الاتهام له للخلاص منه، وإلا لا يتم أي شيء صالح.
نعم، إن الحلول العاجلة التي يقترحها المعهد مهمة، مثل توحيد الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية مع الصندوق الوطني لضمان الاجتماعي، أو إعفاء الصناديق من أجرة محلاتها بتوفيرها لها من طرف الدولة، أو ربط صندوق التأمين على المرض بوزارة الصحة، إلى غير ذلك من الحلول العاجلة ذات المردود الفعلي الأكيد.
إلا أن هذا لا يرتقى لطبيعة أزمة الصنادقي التي هي أساسا سياسية وتتطلب قرارا سياسيا بامتياز، له من الشجاعة والرمزية القدر الكافي لإعادة الثقة التي اهتزت في الدولة وفي عدلها؛ إذ لا سياسة ناجحة دون ثقة الشعب كما هو معلوم، وكما ذكّر بها جلول في الندوة.
فقد وقعت، وتقع إلى اليوم، تجاوزات بالجملة أقرها قانون ليس فيه من العدل ولا نقيرا، ألا وهو قانون العفو التشريعي، الذي سمح بتعويضات لمن عدّهم التشريع التونسي في السابق من أهل الإجرام. فكيف يُحترم القانون اليوم ومن شأنه أن يتلوّن حسب الصبغة السياسية للحاكم؟ أين المصداقية والأخلاق؟
فحتّى لا يكون ذلك الحيف، هلا تمّ التعويض لكل المظلومين، أو على الأقل من طالب ويطالب دون جدوي بحقه، وليس فقط لفئة من الناس؟ وإن توجب المثل الذي يقطع العذر، فأنا له الشاهد الشهيد على ذلك، وعلى انعدام العدل التام لصالح كل من ثبت حقه لا ضرورة في التعويض المادي، بل في التعويض الأدبي، بالاعتراف مثلا بحقه في التمديد له للعمل بالوظيفة العمومية، تماما كما هو الشأن للأقلية المحظوظة من أهل العفر التشريعي.
وأين العدل في تصريف وضعية منخرطين لم يساهموا، لأسباب سياسية، كمن ساهم فيها، فإذا بهم يحصلون على جرايات دون مساهمات ودون أي استحقاق قانوني؟ أين العدل حين يقع إقرار منح عالية المقدار لمن يتحمل مسؤولية سياسية، وكأنه تقلّدها من شأنه نقض التساوي الواجب بين كل المنخرطين، وهم أبناء بلد واحد، متساوون مبدئيا في كل شيء؟
ضرورة العدل والنزاهة :
مثل هذا الخور في النظرة الجائرة للأمور، ولو أنه من المعمول به خارج البلاد التونسية، لا يتناسب مع حالة الفقر المدقع لشعبنا، ولا للاستحقاقات التي حصلت له من الانقلاب الشعبي الذي حصل بتونس؛ ففيها حصلت ثورة للكرامة قبل كل شيء، أحب ذلك حكّام البلاد أم كرهوه؛ وهذا يقتضي طبعا العدل أولا، وخلق ثم رعاية الثقة، ثانيا، بين الشعب وحكامه.
لذا، فإن أوكد القرارات التي على الساسة أخذها لإنقاذ الصناديق الاجتماعية من الفساد الذي تعيشه هي في الكف عن الظلم بصرف الجرايات الاستثنائية التي تم إقرارها من طرف حكومات الترويكا، وأىضا إيقاف العمل بالقوانين التي أقرت جرايات للساسة ممن لعله دخل المجال السياسي فقط للانتفاع بما تأتيه له من امتيازات، لا خدمة للبلاد وشعبها، كما هو المفروض.
إنه من المتحتّم القطع مع تعاطي السياسة ببلادنا من أجل المصالح والامتيازات والتشريفات، لأن العمل السياسي الصحيح لا بد أن يكون نزيها؛ وهذا يبدأ بإبطال كل المنح المعهودة. فلا يمكن أخلاقيا الجمع بين مسؤولية سياسية، أيا كانت، وامتيازات إضافية؛ ذلك أن خدمة الصالح العام هي في حد ذاتها الامتياز الأسنى الذي يجب الاكتفاء به لو حسنت النية. ولا حاجة للشعب التونسي لمن يدّعى خدمته وهو ينتفع بخيرات بلاده على حسابه.
وكما قال فعلا ناجي جلول في ندوته، إن النظرة للمتقاعدين ونظرهم لمسؤولي بلدهم من صميم اهتمامات المجتمع، وهي في قلب الأزمات التي تهز تباعا البلاد؛ فلا مصداقية اليوم للدولة إلا بالعمل على الحد من الظلم القاهر للشعب. وما من شك أن المنظومة القانونية القائمة جائرة إلى أبعد حد في جميع ميادين الحياة، ولعل أهمها ما يلحق شريحة المتقاعدين من حيف وظلم لصالح أقلية. فهذه الشريحة هامة إذ هي، كما قال أيضا رئيس المعهد، واجهة البلاد الحقيقية التي من واجب ساسة البلد رعايتها خير رعاية وصيانة مكاسبها أفضل صيانة حتى تكون مصلحة البلاد هي العليا لكونها في عيون شعبها لا في جيوب البعض منه ممّن همه مصالحه باسم خدمة الشعب.
لذا، إنقاذ الصناديق الاجتماعية يبدأ اليوم بإيقاف صرف كل جرايات التقاعد المزيفة، سواء لمن ساس البلاد بعد الثورة أو من ادعى أنها ظلمته قبلها، فسلب الشعب أمواله جزافا، إذ لم يكن لوحده المظلوم؛ فهل هو أفضل من الشعب كله الذي لم يتوقف ظلمه ولم يطلب رغم ذلك أي تعويض؟ هذا العدل لهو من أوكد ما يجب القيام به دون تأخير للحد من الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد، وهي أخلاقية قبل أن تكون سياسية واقتصادة واجتماعية.
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك