من المعلوم أن القوانين التونسية الحالية جائرة في العديد من نصوصها، بل هي باطلة لتناقضها مع الدستور. رغم ذلك، لا يفتأ القضاة يطبقونها، خارقين الفهم الصحيح للعدالة؛ ولا يجرؤ الساسة لا على الإسراع بإبطال تلك القوانين الهاتكة لهيبة القانون، ولا بمطالبة الأمن والنيابة العمومية عدم اللجوء إليها لصفتها غير الشرعية بمخالفتها للدستور، شرعية البلاد الوحيدة.
بقلم فرحات عثمان
في الحقيقة، يسهر الساسة عندنا على لعبة تتثمل في استعمال الحق لأجل الباطل؛ ويتم هذا، بالنسبة لأهل النفوذ الحاليين، بتواطيء من الغرب الذي همه تثمين برامجه في البلاد، لا خدمة الحقوق والحريات بها، وذلك انطلاقا من نظرة تقزيمية للشعب على أنه غير مؤهل لما هو أفضل. هذا خور لا بد من وضع الحد له للمساهمة حقا في إخراج البلاد من الأزمة التي تعاني منها، وهي أخلاقية بالأساس، إذ باسمها نجعل من السياسة الصحيحة نفاقا، فننسف ما فيها من نبل، كما نفعل بصرح القانون والدين في الوقت نفسه.
الخور القانوني:
لعبة الباطل على هيئة الحق هذه التي يهواها ساستنا فيها من الخور القانوني الكثير؛ وهو يتمثّل في التعرض للفصل دون الاهتمام بالأصل في الإصلاح التشريعي. هكذا كان الحال مثلا مع القانون المجرّم للعنف ضد المرأة الذي تجاهل العنف الأول والأهم، ألا هو عدم المساواة في الإرث، للسهر على فرض قانون لا معنى له مع ترسانة القوانين الجائرة بالبلاد. فضرر انعدام المساواة أفدح في الحياة اليومية من العنف المادي المسلط على المرأة؛ فهو الذي يغذيه، إذ يحمل العقليات على التجنّي على المرأة وتعنيفها.
وها هو الأمر يتكرر اليوم مع قانون تجريم الميز العنصري الذي، رغم أهمتيه، لا يرتقي إلى الأهمية القصوى لقوانين في مواضيع مسكوت عنها، يتجاهلها ساستنا رغم أنها التيرب الخصب لهذا النوع الشائن من الميز، بل إن لها التداعيات الجمّة على كل مظاهر التمييز في حياتنا اليومية؛ مثل القوانين المتعدية على الحقوق الشخصية الأساسية، ومنها الحق في الجنس، بما فيه المثلي.
هذه القوانين الجائرة باطلة منذ دخول الدستور الجديد حيز التنفيذ، إلا أنها هي المعمول بها إلى اليوم من طرف القضاة والأمنيين. والخور هنا مأتاه قاعدة بالية للقانون تربط اعتماد النص الدستوري الأعلى بوجود نصوص أدنى تطبقها؛ ولئن كان هذا الفهم من المنطق في دولة مؤسسات جدّية وفاعلة، فذلك لأجل أن هذه الأخيرة تسهر في الحال على إيقاف العمل بالنصوص التي أبطلها النص الأعلى والإسراع بسن ما يعوّضها متناغما مع الشرعية الأعلى بالبلاد. وليس هذا ما يحدث عندنا، حيث ليس هناك لا إرادة سياسية في تطبيق الدستور ولا امتثال من القضاة لمقتضياته المحتّمة عليهم عدم تطبيق النصوص اللاغية باسم احترام القانون وعلويته حتى لا يصيبها أي ابتذال. فكيف نحفظ للقانون هيبة وهو باطل بطلانا لا شك فيه؟
لا أدل على هذا الخور القانوني في عدم احترام الدستور الصارخ التأخر في تنصيب المحكمة الدستورية التي يهابها الرافضة للحقوق والحريات في البلاد؛ فهي تعمل على عرقلة تنصيبها حتى لا تلغي القوانين الجائرة الحالية بدعوى المنافحة عن الدين، بينما هذه القوانين هي الدليل الأفضل على فسادها الأخلاقي والديني وفساد من يتعلّق بها، خاصة أن العديد منها من مخلفات الديكتاتورة وعهد الاحتلال، كتجريم المثلية الذي لم يأت به القرآن ولا السنة الصحيحة.
الخور الديني:
التصرف الذي نراه، سواء من أهل السياسة أو القانون، هو من باب التلاعب الفاضح لا بالنصوص القانونية فحسب، بل وأيضا بالدين الصحيح. فالخور القانوني، إضافة لكونه الاعتداء الصارخ على دولة القانون بالبلاد، هو المسخ لدينها الذي جاء في مقاصده بحقوق وحريات نبذناها بنصٍ فهمناه في حرفه دون روحه. فنحن لا نحترم فيه العديد من المكاسب الإناسية التي يضمنها، إذا فهمناه فهما صحيحا خلافا لما وصل إليه فقه بار؛ ولا شك أن أكبر دليل على بوار هذا الفقه أنه المعتمد من طرف أهل الإجرام الداعشي.
إن في ساستنا، وليس فقط أهل التزمت الديني، من يسعى إلى تفسير الوضعية المخزية التي عليها منظومتنا القانونية بربطها بمسألة تأويل النص القانوني الأعلى، أي الدستور، فيقول – وقد ساءت نيته – إن موضوع الحريات الشخصية التي أقرها الدستور محدودة بما أقره الإسلام، في إشارة إلى الفقه السابق الذكر. وهذا، بدون أدنى شك، من سوء النية بمكان، إذ هؤلاء يخلطون بين الإسلام وهو القرآن والسنة الصحيحة اللذان يؤكدان على حقوق المؤمن وحرياته كما تبيّنه مقاصد الشريعة، وبين ما حصل من فهم انتهت صلوحيته من طرف فقهاء اجتهدوا لزمانهم. فما يُسمّى بالفقه الإسلامي أو الشريعة الإسلامية ليسا إلا مجرد اجتهاد بشري، ناقص بالضرورة، لا يمنع الاجتهاد اعتمادا على النص القرآني وحده في مقاصده. هذا علاوة على أنه مفعم بما رسب في الإسلام من إسرائيليات جعلتنا نطبق الكتاب المقدس لا الفرقان في العديد من المسائل، مثل اللواط أو المثلية التي لم يحرمها دين القيمة بل من فهمه خطأ من أهله. وقد تم التدليل بالدليل القاطع على ذلك، تماما كما تم بيان أن من قطعيات الإسلام تحقيق المساواة في الإرث بين الذكر والأنثي، التي كاد أن يجعل لها مثل حظ الذكرين لإعلائه من شأنها أي إعلاء.
هذا الخور الديني يجعل العديد من أهل الإسلام المتزمت يموّه على حسن نيته المفقودة بالتصويت على نصوص ثانوية مثل القانون الذي ذكرنا بخصوص مناهضة العنف ضد المرأة. وهاهم اليوم يتباهون بالتصويت على قانون يجرم التمييز العنصري!
لنقلها بداية حتى نتفادى اللخبطة القيمية التي يسهر على تغذيتها من يسعي، من باب المراوغة السياسية، لصرف الانتباه لمثل هذه القوانين الهامة، بينما هي الحق الذي يُراد به باطلا. ما من شك أن القانون الجديد من الحق الذي يجب تثمينه؛ إلا أنه يتنزل في خانة التلاعب بالأخلاق الذي اعتدناه، والذي يلجأ له الساسة عندنا دون هوادة لتمرير باطلهم؛ هو إذن الحق كمطية للباطل. فكما لم نبطل إلى اليوم التمييز الأعظم الذي تعاني منه المرأة لرفض حقها في المساواة في الإرث، لا يزال الشعب التونسي يعاني من شتى أنواع التمييز في حياته اليومية، خاصة في حقوقه العاطفية، والجنسية، ومنها حقه في عدم الصوم في رمضان أو حرية شرب الخمرة، التي ما حرّمها قط الإسلام بما أنه لم يمنع إلا السكر.
إننا لئن أكدنا ونؤكد مجددا على هذه الحريرات، خاصة المثلية، فذلك لأنها الموضوع الرئيس المسكوت عنه؛ فالمثلي اليوم، في بلاد الإسلام، هو الرمز الحي لرفض الآخر المختلف. لذا نسأل: ألم يكن من الأجدر السعي أولا للتصويت على قانون يحقق تلك الحريات، ما من شأنه تأهيل العقليات للقبول بكل مختلف، مثل مشروع القانون الذي عرضناه هنا، والذي يمكن به تحقيق قفزة نوعية هامة لاختزاله ثلاثة حقوق في مشروع قانون واحد؟* إن مثل هذا القانون المقترح ليخدم أكثر بكثير مناهضة التمييز من القانون الأخير الذي لم يكن همه إلا استنساخ ما يُوجد في الغرب حيث الحقوق الأساسية مضمونة بخلاف الحال عندنا.
الخور السياسي:
القانون الأخير في تجريم الميز العنصري، رغم أهميته، ليس إلا من باب ذر الرماد في الأعين، لأنه يتجاهل الأهم لأجل المهم، وهذا ما يجب التنديد به. إنه ببلادنا من الأمور الثانوية، مثل الاتجار بالبشر أو العنف ضد المرأة، وغيرها من النصوص؛ وهو خاصة الذريعة للظلاميين للقول : ها نحن نعمل، بينما هم لا يعملون إلا على الثانوي من الأمور لخطورة حال الحريات ببلادنا. فهل التمييز العنصري بتونس أقسى وأفضع من التمييز الجنسي؟ كفانا نفاقا ولندد بمثل هذه السياسة التي لا تخدم إلا مصالح الظلاميين بتشجيع من غربٍ لا يرى، في نظرة استعلائية تقزيمية، بل واستعمارية للبلاد، أنه بالإمكان أفضل من هذا.
الحقيقة التي لا بد أن تقال هنا هي أن الغرب، من خلال منظماته غير الحكومية، يسعي جاهدا لفرض نموذجه على البلاد، فلا يهمه ألا يكون متناغما مع ما تقتضيه حاله من انعدامٍ تام للحقوق والحريات القاعدية ؛ فهو ينطلق من الاعتقاد الخاطئ أنه لا مجال للمس بما يراه من مقومات الشخصية، هذا الفهم الغالط للدين الذي يروّج له حلفاؤه من الإسلام المتزمّت؛ لذا، يسعى للعمل على المواضيع الثانوية. وهذا غير مقبول لأنه في الوقت نفسه يتنزل في خانة الظلاميين، سواء كانوا من الإسلاميين أو السلفيين المدنيين، العاملين على المحافظة على أفظع القوانين المتواجدة في تشريعنا باسم الدين رغم مناقضتها له في روحه ونصه كما قلنا.
إن القوانين الأخيرة المصوت عليها بتونس في مجال الحقوق والحريات، بالرغم من قيمتها المبدئية الواجب تثمينها، تفرض علينا ضروريا الانتباه إلى أنها تتنزل في نطاق استراتيجية معينة؛ فهي تأخد مكان المشاريع الأخرى التي هي أهم منها دون أدنى شك إذ هي أعم، لا تخص منع التمييز العنصري فقط بل كل تمييز، ما من شأنه اجتثاث التمييز عموما بمنعه في الحالات المستشرية في العقليات باسم الفهم الفاسد للدين. فالقانون الذي تم تمريره يأتي بديلا لمثل هذه القوانين رغم تداعيتها الأهم والأشمل، إضافة لخدمة حرص أهل التزمت الكاذب على التظاهر بتنقية القانون التونسي مما فسد فيه، بينما هو لا يرفع من الفساد أي شيء. ثم إن التمييز العنصري يبقى شاذا بتونس أيا كانت خطورة تجلياته، بما أن أية حالة منه، ولو وحيدة، هي من الفظاعة بمكان؛ إلا أن هذا القانون هو اليوم سلاح يستعمله أعداء الإناسة لمنع الإسراع في تنقية قوانيننا مما يشينها من نصوص لا شك أنها أهم وأخطر من القانون الأخير.
وكما رأينا بعد، كان هذا النص الفرصة للتغني جزافا بالاستثناء التونسي ودولة القانون بها. فأين هو من هذا وليس إلا قطرة ماء في مستنقع تشريعنا؟ خاصة وأنه، في أفضل الحالات، يؤجل اعتماد القوانين الهامة المنتظرة بالبلاد، وقد علمنا ما يجب من وقت لصياغة قانون ولتمريره والتصويت عليه. بل هو الفرصة السانحة لأعداء الإناسة بالبلاد للحمل على تناسي واقع حال قوانينا المخزية للكلام فقط على هذا النصرالمزعوم وعلى الفردانية التونسية في العالم العربي؛ فهل نقارن أنفسنا بمن يتقدمنا أو من يتأخر عنا في الحقوق والحريات؟ يا له من خور!
ما دامت قوانيننا مخزية في أغلبها، هلا انتهينا أخيرا من الضحك على الذقون بقوانين ليست تمر إلا لأن الغرب يفرضها لتزكية مشاريعه بتونس؟ فهو يفرض رؤيا لا معنى لها إلا في مجتمع فيه الحقوق الفردية مضمونة، ويعمل حسب روزنامة من النقاط همه الاتيان عليها رغم أنها إفراز قراءة خاطئة للمجتمع التونسي؛ فلا يعنيه ما يهم الشعب التونسي أساسا، أي تحقيق الفتوحات في ميدان الحريات والحقوق في حياته اليومية ومعيشه الآني.
* حديث الجمعة: مشروع قانون للتصدّي لخوارج الإسلام الجدد
شارك رأيك