ليس الإرهاب اليوم ما نراه فقط من ضحايا أبرياء ودماء أهدرت باسم الإسلام، بل هو أساسا ما لا نراه؛ إذ تسبق كل عملية إرهابية عمليات غسل دماغ. فالإرهاب ذهني قبل كل شيء، هذا الفكر الفاسد والمفهوم الخاطىء للدين الذي لا نعيره اهتماما كبيرا، بينما لا مناص للتعرّض له ومقاومته في أسرع الآجال إذا أردنا حقا مقاومة الإرهاب الحقيقي والتوصل للحد منه ثم القضاء عليه.
بقلم فرحات عثمان *
لا بد من التصدّي للمنبع الأول للارهاب، ألا وهو الجهاد المسلح، أي الجهاد الأصغر باسم الدين، فلا جهاد اليوم في الإسلام إلا الأكبر. لهذا، من الخطأ الفادح المطالبة بالمسارعة في سن قانون جديد يوسّع من الهوّة بين الشعب، وخاصة الشباب، بينما مسؤولية دولة القانون في حفظ حقوق وحريات هـؤلاء قبل حفظ النظام؛ فلا نظام بدون عدل!
من الواجب إذن أن نطرح جانبا المشروع المعروض حاليا على مجلس نواب الشعب للتصويت على مشاريع أخرى من شأنها حقا حفظ سلامة الأمنيين بخلق الثقة المنعدمة اليوم بينهم وبين أطياف واسعة من الشعب، بما أنها تمثل الدولة بقوانينها الجائرة المناهضة لحقوق وحريات الناس. فمثل هذه القوانين المخزية لها الدور الكبير في حمل الشبيبة إلى مزالق الإرهاب، تجعلهم لقمة سائغة للاستقطاب الإرهابي.
سنتحدث في الجزء الثاني من هذا الطرح عن بعض ما يجب للخلاص من تلك القوانين، بعد التوقف في هذا الجزء الافتتاحي عند ما يمثّل حجر الزاوية لكل حرب جدية وصادقة على الإرهاب، ألا وهو اجتثاثه من الأذهان بتبيان أنه لا جهاد في الإسلام إلا الأكبر، إذ الأصغر ليس إلا إرهابا.
يكون هذا بسن قانون في أقرب الأوقات تتفق عليه جميع الأحزاب يمنع الجهاد المسلح على الأفراد في الإسلام حتى تكف بعض الأطراف السياسية عن المتاجرة بالدين، ممتهنة الإرهاب الأخطر، أي الإرهاب الذهني، الذي هو نتيجة لخبطة قيمية لا بد من الخروج منها في أقرب وقت بالجرأة على رفض ما تحجر في فهمنا لديننا وعاداتنا.
اللخبطة القيمية:
إننا اليوم في قعر الانحلال الأخلاقي الذي يتمعش منه دعاة التزمت، إلا أنه لا يتمثل في ما يعتقدون ممّا يسمى غلطا رذيلة وعهرا ودعارة، بل هو في هذه النظرة الفاحشة للأمور التي تجعل من الحرية الشخصية دعارة ومن أحاسيس الحب رذيلة ومن نقاء السريرة وحسن النية عهرا وفسادا.
متى كان لمؤمن، أيًا كان، الحلول محل الله لمحاسبة غيره ومعاقبته في تصرّفاته؟ ذلك لله وحده، إذ ليس في الإسلام كهنة وأحبار كنيسة، فهو إيمان حقوق وحريات! وما هذه الأصنام المعنوية التي نقيمها في الدين القيّم مما يجعل الاشتمال على قنبلة وحزام ناسف، أو حمل رشاش لقتل أبرياء، أهون من قبلة بريئة، أو لبس تنورة وتبان قصيرين، أو حب مثلي، أو التجاهر بألفاظ نابية، أو حتى تعاطي الزطلة؟ بل متى كان الإفطار علنا في رمضان أو شرب الخمرة أيام الجمعة فسادا وقد أكّد دين الإسلام على حرية العبد وتمام حقه في الصوم وعدم الصوم بأن مكنه من ذلك بإيجاد الكفارات والذرائع الشرعية؛ كما أنه لم يمنع الخمر بل السكر الذي يذهب بالعقل؟
إن مقاومة التزمّت هو أساس التصدّي للإرهاب، إذ الإرهاب اليوم في الأذهان، ولا مجال لمقاومة غسل أذهان الشباب ممن يستغلهم محترفو الإجرام من شيوخ التزمّت إلا بتغيير القوانين الوضعية تنقيتها من كل ما شابها من اعتداءٍ صارخٍ على الحقوق والحريات حتى تساهم في تصفية الأدمغة من كل ما يتغذى به الإرهاب من فساد.
لنتذّكر أن إرهابى سوسة، إحدى ضحايا شيوخ السلفية الجهادية، سيف الدين الرزقي، كتب على صفحته الخاصة على الأنترنت ما يلي: «إذا كان حب الجهاد جريمة، فليشهد العالم إني مجرم!» هذا هو الإرهاب الذهني وهذه هي اللخبطة القيمة التي يتعيّن علينا مقاومتهما بأسرع ما يكون قبل أن تسقط ضحايا أخرى؛ ولعلها ستسقط للأسف لأن الصراع من أجل المبادىء السامية يقتضي العديد من الضحايا الأبرياء؛ فتلك سنة الله في بشره عندما تتهافت قراءتهم لدين الحب والسلام جاعلة منه دين الحقد والحرب ! أولم يحذرنا البعض من أهل الاختصاص من الاستعداد لتكرر العمليات الانتحارية؟ فإلى متى نقبل بكل ما يغذي الإرهاب في الأذهان؟ إننا عندها لشركاء!
الإرهاب الذهني:
رأينا في العملية الأخيرة بشارع الحبيب بورقيبة يوم الإثنين الفائت 29 أكتوبر 2018 كيف أمكن لشابة من حاملي الشهائد العليا، لا تنتمي مبدئيا لتنظيم إرهابي، أن تنتحر عابثة بأرواح بريئة، واضعة حدا لحياتها التي اعتقدتها تعيسة. ما الذي دفع بفتاة مثلها، وفتى شاطىء سوسة قبلها، وغيرهما من فتية البلاد، إلى كراهة الآخر إلى حد قتله إذا لم يكن ذهنه الفاسد قد أُعد لذلك من طرف ما قرأ أو تعلّم على زبانية موت في هيأة شيوخ علم ليسوا إلا شياطين الجهالة الجهلاء والفساد الأعظم؟
لعل هذه الإرهابية، والعديد مثلها من ناشئة البلاد، ما كانت لتقدم على فعلتها الشنيعة تلك إذا لم يكن يشجّعها عليها فكر متزمت متغلغل، لا في النفوس والأدمغة فقط، بل وأيضا في التصرّفات اليومية التي تشين فهم ديننا بالانحراف به عن سماحته وقبوله بالغيرية والحرية البشرية، تامة لا منقوصة.
إننا نرى إلى اليوم الأمنيين، رغم ما أتى به الدستور الجديد بتونس من حقوق وحريات، ورغم أن البلاد في حالة استنفار قصوى ضد الإرهاب، يمنعون الشباب من تعاطي أبسط حرياتهم الشخصية، حتى وهم سلم لغيرهم، لا يمدّون يدهم للإساءة ! كل هذا يتم باسم القانون الذي من واجب الأمنيين تطبيقة ولو في غير صالحهم، إذ هو ينمّي الحقد تجاههم وليس لهم أي ذنب في ذلك. فما تفرضه ثورة الحرية والكرامة، أو كما تُنعت، لم يتمّ بتاتا إلى اليوم، أي إبطال أو تنقيح كل النصوص المشينة، الموروثة من عهد الاحتلال والنظام القديم البغيض، تلك التي تعتدي على الحريات فتخلق في الأذهان التيرب للإرهاب المعنوي، فإذا به لا ينفك يغذي الإرهاب المادي.
العملية الأخيرة، ككل ما سبقها تماما، هي بدون أدنى شك تبعة منطقية للّخبطة القيمية التي نعيشها بتونس وسائر البلاد العربية المسلمة في فهمنا لديننا الذي نجعل منه دين النقمة بينما ليس هو إلا دين الرحمة. لهذا، ليس من الحكمة اليوم الإبقاء على مثل تلك القوانين المخزية المشجعة على الإجرام بالنقمة على الدولة ومن يمثلها؛ بل من الخور دعمها بقانون جديد على شاكلتها.
الأكيد المتأكّد هو في استغلال هذه الفاجعة الجديدة لعودة الضمير واليقظة من سباتنا عن الأخلاق الصحيحة بدعوة مجلس نواب الشعب للانعقاد، لا للتصويت لقانون جديد ضد حريات الناس، بل لإبطال كل ما في تشريعنا من نصوص إرهابية معنوية، بدءًا بسن قانون في بطلان الجهاد المسلح على المسلم الفرد باسم الدين، إذ لا جهاد في الإسلام اليوم إلا الأكبر، جهاد النفس.
قانون في بطلان الجهاد الأصغر:
نحن اليوم نرى كيف يستغل شيوخ الإرهاب نظرتنا الخاطئة لديننا وفهمنا المغلوط لسماحته لإرسال أحداث يفسدون في الأرض باسم الإصلاح ومقاومة المنكر بينما لا تطالهم يد القانون رغم مسؤوليتهم في ما يحدث.فالإرهابي يهب نفسه إلى ما يعتقده أفضل الجهاد في الإسلام بينما هو الأقلّ قيمة، بما أنه جهاد أصغر، بل أصيغر، لأن زمانه ولّى وانقضى؛ فالجهاد المسلح في الإسلام الحقيقي انتهى مع انتهاء فترة الفتح.لذا يجب منعه اليوم والإفتاء قانونا بانتهائه! ألم يتمّ منع الهجرة إلى المدينة بعد الفتح والتأكيد على انتهائها؟
الجهاد في سبيل الله هو اليوم مجاهدة النفس والاتيان بالمثل الأفضل في التصرف قولا وفعلا، لا في حمل السلاح الذي لا حق له فيه إلا الجندي في خدمة نظام قائم حسب قوانين عادلة، ساهرة على الدعة والسكينة للجميع.الجهاد الصحيح في التقوى؛ وتقوى القلب هي أعلى وأهم من مجرد تقوى الجوارح.
ولا مجال للعودة لآيات الذكر الحكيم في الجهاد التي أتت، حسب مقاصد الشريعة السنية، خدمةً الدين الجديد لتوطيده في النفوس. أما بعد قيام الدولة الإسلامية وانتهاء عهد الفتوحات، الذي تم باسم الدولة لا باسم جماعات مسلحة، فليس هناك لتوطيد الإسلام إلا الجهاد الأكبر. هذا، وقد قاومت الدولة الإسلامية، أيا كانت، كل الأفراد والجماعات المسلحة الذين تصدّوا لها باسم الدين في فهم فاسد؛ تمّ ذلك باسم الدين أيضا، إلا أنه كان في فهم أصحّ، أي المنطق السياسي للإسلام، وهو منطق الدولة المسؤولة على الأمن،التي تنفرد بحق استعمال السلاح.هذا هو الإسلام في بعده السياسي المؤسساتي؛ أما البعد السياسي الآخر ففي المدينة الآمنة. ثم إن الإسلام اجتهاد مستمر؛ ولا مناص لتجديد فهمنا له، وإلا تحجّر وغدا ظلاميا كما هو الحال بعد. فالإسلام ثورة عقلية مستدامة وإلا ليس هو بدين القيّمة، خاتم الأديان.
لذا، من أوكد واجبات ساسة البلاد ورجال الدين أن يعلنوها صراحة في موقف جريء تقتضيه خدمة الإسلام الحق: إن الجهاد الوحيد في الإسلام، بعد أن قامت دولته وتمتّن في القلوب، هو الجهاد الأكبر، جهاد النفس في كل نزواتها، خاصة تلك التي تعتدي على الآخر، أيا كان وأي تصرف أتى؛ وليس الجهاد الأصغر، أي مد اليد على الآخر المختلف، إلا من الإفساد في الأرض. هذا ما يجب فعله بأقصى سرعة لتجفيف منابع المد الداعشي الذي يجعل من شبيبة بريئة حُرمت من حقها في الحياة والتمتع بها ضحية لشيوخ دمويين يحوّلونها إلى إرهابيين يتوهمون قتلهم لغيرهم من التقوى والورع بينا هو من الحرابة والإفساد في الأرض.
إن الإرهابي اليوم ليس فقط الذي يقتل غيره! الإرهابي الحقيقي هو كل من يختفي وراءه، ممن يلبس البدلة، برباط عنق أو بلا رباط، ممن لا يجرّم حمل السلام ولو سمّاه جهادا، وممن يدّعي خدمة الإسلام وهو يقوّض صرحه من الأساس. هؤلاء هم المجرمون، ومن الضروري التصدّي لهم بكل سرعة؛ ولا يكون ذلك إلا بالجرأة على إعلان انتهاء صلوحية الجهاد الأكبر وإغلاق بابه، والتأكيد على أنه لا جهاد في الإسلام الصحيح إلا جهاد النفس، الجهاد الأكبر الذي يحمل المسلم على السهر على تزكية نفسه وغض النظر عن مساوىء غيره والقبول به كما هو في اختلافه؛ لأن الحنيفية المسلمة تمجّد الحرية البشرية والغيرية أن من قتل نفسا، أيا كان فعلها، ليقتل البشرية جمعاء؛ ولا شك أن القتل المعنوي أشد من القتل المادي لأنه يخلق القاتل ويعيد خلقه على الدوام! ولنطالب، عوض القانون الحالي المعروض على مجلس النواب لحمايةٍ نظريةٍ للأمنيين، بمشروع يحميهم حقا من الإرهاب والإرهابيين بالجرأة على تجريم الجهاد المسلّح، أي الأصغر وقد أصبح مطية للإرهاب؟
لنسن قانونا يبيّن أنه ليس في إسلام زمننا، بعد تمكّنه من ضمائر وقلوب الناس، إلا الجهاد الأكبر، مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء لإعطاء المثل الأسنى، وهو في سلامة يد وفكر المسلم، وسلامة الناس من أي بلاء ربما يعتريه لوسوسة الشيطان له وتبليسه عليه. هذا ما علينا تقديمه دون تأخير كمشروع قانونٍ للنواب لحماية الأمنيين وكل سكان هذا البلد الذي كان آمنا قبل أن يحتله الإرهاب الذهني للإسلام المتزمت.
بمثل هذا القانون نبيّن ما هو الإسلام الصحيح، الإسلام الذي انتهى فيه الجهاد المسلح عند الأفراد، الجهاد الأصغر، تماما كما انتهت من قبله الهجرة؛ فلم يبق اليوم إسلاميا إلا الجهاد الأكبر، محاربة النفس. ذاك ما يجب التذكير به بقانون تدعمه كل القوى السياسية المسؤولة مع الالتزام به في كل أنشطتها إذا أرادت حقا المساهمة بسلامة نية ونزاهة في مواجهة خطر الإرهاب المهدد لبلادنا.
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
حديث الجمعة: مقتل الخليفة عثمان، جناية الإسلام السياسي الأولى
شارك رأيك