الأحداث الأخيرة المتعلّقة بالمدارس القرآنية والخروقات العديدة المسجلة للقانون والأخلاق، بل وللدين أيضا، تفرض على السلط فتح الملف الديني عاجلا تفعيلا لما يقتضيه الدستور بخصوص طبيعة الدولة المدنية.
بقلم فرحات عثمان *
ليست فضيحة المدرسة القرآنية بالرقاب إلا ما ظهر من حقيقةٍ مرّةٍ هي كالجبل الجليدي الكامن في خبايا المجتمع التونسي اليوم، والمتمثل في تغلغل القراءة المتزمتة للدين في بلادنا برعاية مباشرة وغير مباشرة من السلط القائمة. لذا، لم يعد مقبولا مثل هذا التراخي في تحديد ماهية الدين في البلاد التونسية، خاصة وقد وقع تعريفها بأنها دولة مدنية، ولا خاصة هذا التلاعب بالمفاهيم الذي نعاينه والذي لا خير فيه البتة. فها نحن نرى إلى أي حد وصل إنعدام المسؤولية في الخوض جديا في الأمور الدينية.
الأمر يهم جميع ميادين المسؤولية السياسية في البلاد بكل تجلياتها، بما فيها تلك التي تدّعي الحداثة، إذ منها ما ليس همّه إلا المناورة السياسوية، بما من شأنه أن يؤدى إلى القبول بثغرة هامة وخطيرة في المنطق القانوني المدني. ولا شك أن المثال الحي على هذا لهو القبول، في مشروع القانون المعروض على البرلمان بخصوص المساواة في الإرث، بإمكانية التنصل من القانون الوضعي ورفضه لأجل التعلق بمرجعية دينية. فأي ثنائية هذه في المرجعية القانونية وأين علوية القانون؟ أليس هو الخور الذي ما بعده خور والخطر المفزع المهدد لاستقرار القانون المدني بتونس حيث يُقبل بمنطوق القانون نفسه التنصل منه باسم الدين؟
رعاية الدين في فرض مدنية الدولة:
إن مقوّمات هوية تونس العربية الإسلامية وانتمائها الثقافي والحضاري للأمّة العربية والإسلامية الذي تحيل إليه ديباجة الدستور، وكما ينص عليه فصله الأول من أن الإسلام دينها، هو تماما مثل التنصيص على أن لغة البلاد العربية، أي أن كل هذا لا ينفي التفتّح على العالم ولغاته للأخذ بها واستعمالها. أضف إلى ذلك ما يفرضه الفصل الثاني للدستور نفسه الذي ينص صراحة على أن تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون. فمن البديهي أن المواطنة وعلوية القانون يمنعان تغليب تعاليم الدين على ما تفرضه مقتضيات العيش المشترك، إذ هي التي تتجلّى فيها إرادة الشعب.
لذلك، لا بد من فصل الأمور الدينية عن المجال العمومي لحصرها في المجال الشخصي الخاص بالعلاقة المباشرة بين المؤمن وخالقه؛ هذا ما يفرضه الدين والقانون. علما وأن ما ينص عليه الفصل 6 من أن الدولة راعية للدين لا يتعارض مع ما نقول، إذ هي ترعى الدين كحرية شخصية وفي نطاق كفالتها لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية التي من تجلياتها حياد المساجد ودور العبادة عموما عن أي توظيف حزبي. ذلك ما تلتزم به الدولة التونسية مع نشر قيم الاعتدال والتسامح؛ وكذلك هي الحماية الحقيقية المقدّسات ومنع النيل منها؛ أليس الدستور يمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف ويفرض التصدى لها؟
كل هذا، حتى لا يبقى حبرا على ورق ومجرد شاعرات واهية، لا بد أن يمرّ اليوم عبر تفعيل مبدأ الدولة المدنية وتنزيله واقعيا في خانة إلزامية التعليم، بما فيه الديني، إلى سن السادسة عشرة، مناط الفصل 39 من الدستور الذي تضمن الدولة بمقتضاه الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله، مع توفير الإمكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين. على أن يكون هذا من اختصاصات الدولة وحدها.
فالدستور ينص على أن الدولة تعمل في هذا الميدان على تأصيل الناشئة في هويتها العربية الإسلامية وانتمائها الوطني، وعلى ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها، على أن هذا يتم عبر الإنفتاح على اللغات الأجنبية والحضارات الإنسانية ونشر ثقافة حقوق الإنسان؛ فلا يجب تناسي هذا الشرط الأساسي. كما أنه لا يجب نسيان حقوق الطفل على أبويه وعلى الدولة، كما ذكّر بها الفصل 47 من الدستور، وهي ضمان الكرامة والصحة والرعاية والتربية والتعليم. ومن واجب الدولة بالأخص توفير جميع أنواع الحماية لكلّ الأطفال دون تمييز وفق المصالح الفضلى للطفل. وكل هذا لا يتم اليوم لانعدام الأخذ الصريح الصادق الصدوق بمقتضيات الدولة المدنية.
مدنية الدولة في فصل العام عن الخاص:
إن فهم الدين السيء كما نراه في قضية التعليم بالمدارس القرآنية يتجاوزه إلى العديد من الممارسات الحالية بالبلاد والتي فيها الكثير من اللخبطة التي لا تساعد على احترام المفهوم الصحيح للدولة المدنية؛ ومنها بلا شك وجود وزارة للشؤون الدينية علاوة على دار الإفتاء، أو تزعّم السلط المدنية للأعياد الدينية. فالدولة المدنية تفرض التفريق بين الدين والدنيا بالإعتماد على الفهم الصحيح للدين وللنصوص الدستورية المحيلة إليه، والقاضية بواجب الدولة في رعاية مصالحه والدفاع عنه بالجمهورية. هذا لا يكون كما نفعله اليوم، بل بالتحييد الكامل للدين عن المجال العام، إذ الإيمان من الأمور الخاصة في علاقة حميمية بين المؤمن وخالقه خارج المجال العام.
الدولة الإسلامية المدنية إذًا تعني الإعتراف بمجالين متساويين، هما صنوان : المجال الديني والمجال المدني، الأول يختص بالدين ويخصه وحده؛ فيه العلاقة مباشرة بين الله وعبده، لا دخل لأحد بينهما، إذ لا كنيسة ولا كهانة في الإسلام؛ ولا حتى مرجعية إمامية كما نراه عند الشيعة، وهو من الخطأ التشريعي الفاحش.
أما المجال الثاني، فهو المجال المدني، أي العام، مجال المعاملات، وهو الذي يخص شؤون الحياة العمومية حسب ظروفها الآنية وتطوراتها وتداول النواميس والأعراف بها؛ ولا دخل للدين فيها وإلا فقد قداسته فمسّه ما يمس أمور الحياة الدنيا من خساسة وفساد.
ولا شك أن ذلك ما رأيناه طوال التاريخ الإسلامي حين أصبحت ذمم البعض من رجال الد ين، بما فيهم عددا من كبار الصحابة، كأبي هريرة، تُشترى بمضيرة، أي تلك الأكلة الشهيرة في زمن المؤسس الأول للدولة الأموية. وهذا ما نشاهده أيضا اليوم، زمن الدعدشة لدين القيمة.
إن خلط الخاص والعام مفسدة للدين؛ لذا، يقتضي الواجب الأكيد لحماية الدين المفاصلة بين المدني والديني، خاصة عند صعود سدة الحكم أحزاب لها مرجعية دينية؛ فالدين للجميع، مؤمنا كان المواطن أو غير مؤمن، تماما مثل الدولة، وذلك لا يتم إلا بتعايش وتناغم تامّين. فلا ميزة في هذا المؤتلف الإسلامي بين مجالين مستقلين عن بعضهما، لا للمجال الخاص، أي الديني، ولا للمجال العام، أي المدني، فهما في نفس الدرجة والأهمية؛ كما لا خلط بينهما ولا تداخل، وإلا انفصلت حبات عقد الإسلام. فبعدم الخلط بين العام والخاص كوّن الإسلام هذا العقد الفريد الذي واسطته هي التسليم بالله ومشيئته، أي أنه الواحد الأحد العارف بمصالح عباده في أمورهم الخصوصية وحرياتهم الذاتية، فلا لمخلوق أن يخلفه في ذلك. وفي احترام هذه اللائكية الإسلامية يكون خلاص الدين من أزمته الحالية. ومنه قصر تعليم القرآن على المنشآت التعليمية العمومية.
تعليم القرآن من مشمولات الدولة في البرنامج المدرسي:
في مجال تنظيم قطاع تعليم القرآن من طرف الجمعيات الدينية، هناك من تكلّم عن فراغ قانوني، بينما ليس هو إلا هذا الفراغ في الإرادة السياسية؛ ذلك لأنه لو توفرت الإرادة لكان في الحال النص والفعل قبله، إذ لا مانع من التصرف بالآليات التشريعية الحالية وبقرارات تحفظية باسم الأمن العام. إلا أن هذا ليس متوفرا الآن؛ فالتلاعب السياسوي هو الذي يمنع من الجرأة على الفصل المتحتّم بين الدين والسياسة طالما هناك من يجعل من الإسلام مطية لوجوده السياسي ذاته في المجتمع التونسي.
وهذا جوهو القضية! فلئن كانت الدولة مسؤولة على حماية المعتقد بالبلاد، فهي مسؤولة خاصة على عدم استغلاله في أغراض منافية لمقتضيات العيش المشترك ومبادىء الجمهورية. الشيء الذي يحتّم عليها عدم ترك الدين، ومنه تعليم القرآن، بين الأيدي غير المسؤولة العابثة به، بل والمجرمة في حقه وحق الشعب، وبالأخص الناشئة البريئة. لكن ترى، هل هذا بمقدور الحكومة التي لم تجرؤ على منع نشاط حزب متطاول على القانون، يسعى لإبطال الدستور ومبادئه لأجل فرض خلافة مزعومة بالبلاد؟ فكيف لها بعد ذلك منع جمعيات تحتمي بقانون الحريات في الغرض رغم أنها تسعى ضد روح القانون نفسه لنسف لب لباب هذه الحريات بالمجتمع؟
إن الدين من الأمور الاستراتيجية في الدولة، تلك التي تتعلق بالأمن العمومي، وهو من أولويات الحكومة في حفظ النظام العام، ومن واجباتها في ضمان أمن العيش المشترك. فبقدر ما هو خاص في شكله الشعائري، بقدر ما هو عام في الإستغلال المتزايد لتجلياته العمومية، ومنها تعليم القرآن. ولنذكّر هنا أن الإسلام السياسي، تحت النظام البائد، نما وترعرع في ظل جمعيات المحافظة على القرآن الكريم. لذا، تعليم القرآن لا يجب أن يُترك بين أيدي الساعين لاستغلاله الأيديولوجي؛ إنه من مشمولات الدولة الأساسية في هذا البلد الذي دينه الإسلام.
فليس إذًا للجمعيات امتهان تدرسيه، بل الأكيد المؤكد أن يكون هذا حكرا على الدولة ومؤسساتها العمومية في نطاق تدعيمٍ جدّي لتدريس العلوم الدينية في البرامج الرسمية المعتمدة حسب المناهج العلمية الحديثة وما حصل ويحصل فيها من تطورات في فهم الخطاب الديني. أما إن رأت الدولة إمكانية أن يتعهد التعليم الخاص به أيضا، وليس هذا من المحبّذ، فليكن حسب البرنامج العمومي الرسمي بالمدارس والمعاهد المعترف بها مع الخضوع للمراقبة المستمرة في الغرض.
* ديبلوماسي سابق و كاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
حديث الجمعة: مسمار جحا الدستوري أو المانع لإبطال تجريم المثلية بتونس
حديث الجمعة: تونس بين مطرقة الإرهاب الذهني وسندان الغضب الشعبي
شارك رأيك