النفاق في السياسة، لانعدام الأخلاق فيها، من الإرهاب؛ وهو ما نعيشه اليوم بتونس، هذا «البوليتيك» الذي يتم باسمه الحرص على عقد إنتخابات قبل إرساء المحكمة الدستورية مع عدم إعارة الإهتمام الواجب لما ثبت من تورط حزب في قضية جهاز سري إرهابي. فمن الحكمة السياسية والنزاهة الأخلاقية ألا تقع الإنتخابات قبل الإصداع بالعدل في تلك الجرائم.
بقلم فرحات عثمان *
باسم النفاق الإرهابي أيضا يواصل الساسة رفض تخليص البلاد من نير نصوص عهد الإستبداد والشروع دون تأخير في الإصلاح التشريعي لقوانين أصبحت غير شرعية، يطبقّها قضاة غير معترفين بالدستور الجديد، مقدّسين منظومة العهد البائد الجائرة. كل هذا من الإرهاب الذهني فيه خيانة تطلعات الشعب للعدل، علاوة على طموحاته المشروعة في حقوقه وحرياته كاملة، خاصة مع وجود تلك الشبهة الخطيرة في شراكة البعض من الفاعلين السياسيين في جريمة إرهابية وتمسكهم مع ذلك، في رغبة جامحة، لمواصلة حكم البلاد والتهرب من مسؤولياتهم دون محاسبة.
إن من يسعى حثيثا لانعقاد الانتخابات بتونس في خريف هذه السنة قبل الحرص على تداعيات ما ثبت من حقائق إجرامية ليخدم مصلحته لا مصلحة الشعب؛ إذ الواجب القانوني والأخلاقي يفرض إرجاء الانتخابات لأسباب عدة، أولها دستوري، وهو عدم منطقية انعقادها باسم احترام القانون الأعلى قبل استيفاء تطبيق أهم مقتضياته، أي إرساء المحكمة الدستورية، والشروع أو حتّى الفراغ من الإصلاح التشريعي بما أن القوانين التي ألغاها الدستور لا تزال تطبق يوميا. وثانيها، بل وأهمها إطلاقا من الزاوية الأخلاقية القانونية، الجرائم السياسية المرتكبة في حق الأبرياء، وعلى رأسهم شهيدي الحق، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، تقتضي محاكمة مرتكبيها ومن ثبت ضلوعه فيها، بما أنه لم يعد شك في تورط أطراف سياسية.
أولوية الحقيقة حول الجهاز السري:
أول الأولويات، بعد ما ثبت من حقائق بخصوص الجهاز السري لحزب من الأحزاب المهيمن على مفاصل الدولة، أن يقع رفع كل العراقيل لبيان الحقيقة في الغرض قبل أية انتخابات. فلا شك أن هذا الحزب ومن يواليه من مسانديه المعلنين أو المتخفين يسعى يكل قواه لربح الانتخابات، وله الحظ الأوفر لذلك لما في القانون الانتخابي من هنات ترجح كفته. لذلك همّه لا فقط البقاء في الحكم وتوطيد حكمه في البلاد واستغلال الشعب، بل وأيضا التحصن بالسلطة للهروب من أية مساءلة ومن تحمل مسؤولياته كاملة في جريمتين على الأقل ذهبت بروحين من سياسيي الوطن لسعيهما الحثيث لمصلحته.
كيف نستخف بالأهمية القصوى لبيان الحقيقة، كل الحقيقة، في هاتين الجريمتين الفظيعتين والتصرف كأن شيئا لم يكن بينما الأخلاق هي عصب الحياة السياسة بالبلاد: فإما فيها المحاسبة على كل جرم يقترف، أيا كان – وما بالك بجريمة قتل؟ – وإما هي سياسة نفاق، بل إرهاب معنوي، لا نرضاه لا لهذا الشعب ولا لمن يبتغى حكمه. هذا، حتى وإن لم يكن ما قيل عن الجهاز السري صحيح، إذ من الواجب كشف كل الحقيقة لرفع الشك والتشكيك، لأن الأذى حصل بعد ولا بد من إثبات أنه من الإفك لإعادة الاعتبار الذي ضاع في أذهان الناس لحزب من أهم الأحزاب بالبلاد.
هل هي دولة قانون هذه التي يسهر الساسة فيها على عقد انتخابات ولمّا يتم بعد الفصل في جريمتين شنيعيتين، ولا محاسبة المتوورطين فيهما؟ أليست هي بذلك انتخابات صورية، الغاية منها حماية من يقف وراء منع الحقيقة من الانبلاج وحماية من تتوجب محاسبته؟ ثم أي استحقاق انتخابي وأى احتكام للشعب وهو لا يزال تحت نير المنظومة التشريعية للعهد البائد، تُستباح فيه حياة الأبرياء من بين أبنائه البررة دون أن يتم القصاص ممن يطمح للحكم تحصنا من أية محاسبة؟ هذه أسئلة توجّه لمن بقي فيه ذرة من أخلاق وضمير من أهل السياسة؛ فمتى الاستفاقة من غفوة مجرمة في حق شعب يتلاعب به الإجرام الذهني والمادي أي تلاعب؟
وهلاّ سأل الساسة أنفسهم إن كان من المعقول والمقبول أن تتكبد الدولة المصاريف الباهضة والمرهقة لميزانيتها التي تحتمها الانتخابات وحالة البلاد والشعب على ما هي من تعاسة؟ هذه الحال تفرض أيضا تأجيل الانتخابات للسعي للتخفيف على الأقل من تلك الحالة التعيسة، إضافة لإصلاح ما فسد مما ذكرنا. فتلك أولويات لا بد من احترامها وإلا اكتفى ساستنا بالتدليل على مكرهم وانعدامهم من أية أخلاق، ليثبتوا أنهم بلا ضمير ولا دين ولا خُلق، من هواة إرهاب النفاق.
أولوية إرساء المحكمة الدستورية:
إن ما يجري حاليا بمجلس النواب لعبة مخزية، لا يمكن أن تتواصل إلا بموقف رادع وجريء، وإلا فلن تنتهي؛ هذا الموقف يقتضي تعطيل المسار الانتخابى وتأجيله إلى ما بعد إرساء المحكمة كخطوة أساسية على درب استكمال البناء الدستوري وإنجاح المسار الديمقراطي. فيجب الكف نهائيا عن لعبة الانتظار مرّة بعد مرة لحصول اتفاق على من يمثل أفضل تمثيل أهل الاختصاص في ميدان هو تقني وأخلاقي بالأساس علاوة على أنه قانوني.
أما من يشترط النص القانوني لصحة اجراء الانتخابات، فحاله كمن يتمسك بحرف القرآن متجاهلا مقاصده لتأويل نصه. لئن الانتخابات مما يفرضه الدستور، فإنه يفرض أولا وقبل كل شيء أن يدخل حيز التفيذ كاملا، وليست الحال كذلك؛ لذا، من الخور الحرص على احترام الدستور في الثانوي مما يفرضه وتجاهل الأساسي؛ وإلا أصبح من التلاعب وقلة الأخلاق والأدب، ما يفتح الباب على مصراعيه لكل الألاعيب والخزغبلات.
الموقف الحازم المتحتّم إذن هو في عدم انعقاد هذه الانتخابات قبل الفراغ من تنصيب المحكمة الدستورية؛ بل والشروع فعليا في الاصلاح التشريعي، بما أن القضاء يطبق قوانين لاغية؛ فأي دولة قانون هذه؟ إن القضية قضية إرادة سياسية بالأساس، إضافة للجانب القانوني، وهي في إيقاف ما يشكل العائق الأهم لحلحلة الوضع، أي الانتخابات والرغبة في الحكم؛ وإلا لا خروج من المأزق. بذلك، وقبل كل شيء، هي قضية انعدام الأخلاق.
أولوية الشروع في الإصلاح التشريعي:
ليست المحكمة الدستورية المعنية فقط، ولو أن إرسائها بالغ الأهمية والأولوية القصوى لاحترام مقضتيات الدستور. إضافة لهذه المحكمة، ولتفعيل الحقوق والحريات التي أقرها الدستور، لا بد من الشروع في إصلاح القوانين التي كانت الضمان لتسلط الديكتاتورية، وها هي على حالها رغم انهيارها المزعوم. بقاء المنظومة التشريعية للعهد البائد يعني دوام استمررارية نظام الديكتاتورية في أفسد ملامحه: التسلط على رقاب الشعب والحد من حرياته؛ فأين الحقوق التي أقرها الدستور، والقضاة يحكمون باعتماد قوانين العهد البائد، بل وقوانين الاحتلال، يظلمون شعبا ثار على تلك المنظومة الجائرة واعتقد زوالها مع زوال نظام الديكتاتورية؟ وأين القطع مع الماضي البغيض؟
إن ما يثبت كذب الساسة في ذلك هو حرصهم المحموم لعقد الانتخابات باسم الدستور بينما يسعون في نفس الوقت لبقائه مجرد حبر على ورق. لئن سقط الديكتاتور، فإن قوانينه لا تزال قائمة؛ ولا شك أنها هي التي كانت تمكنه من الحكم والتسلط على الناس؛ فأين الثورة بتونس؟ هي مجرد انقلاب في صالح من كان يسعى لإسقاط نظام جائر، لا لتحرير الشعب، بل للتحكم فيه بواسطة قوانين النظام السابق وفهم خاطيء للدين الذي من أسسه الأخلاق؛ فأين هي والنظام في نفس جور الديكتاتورية، يستعمل قوانينها؟ بل هو أعتى جورا لما أتى به من تحديدٍ متزايدٍ للحريات وللحقوق باسم دين براء من ذلك!
لا شك أن الإصلاح التشريعي يتطلب بعض الوقت، ممّا يحتم الابتداء فيه بدون مزيد من التأخير؛ بل والشروع على الأقل في إبطال تطبيق أهم القوانين المخزية؛ وهذا ممكن بمجرد تعليمات تُعطى لمن يحرص على تطبيقها رغم عدم شرعيتها؛ فلا بد من أوامر سياسية من الوزراء المختصين تمنع اعتماد النصوص الباطلة من طرف منظوريهم احتراما للدستور. ومن هذا الإصلاح أيضا تصفية الوضع المرزي بالبلاد فيما يخص المال الفاسد، إذ الأدلة متوفرة على تفشيه بين بعض الأحزاب، ومنها الحزب المعني بقضية الجرائم والجهاز السري، بما أنه يتمتع بمساندة مالية هامة من أطراف خارجية حسب عديد الشهادات، بما فيها ممن لا يبعد عن الإنتماء للحزب أو انتمى له سابقا.
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك