طالما لم يتسم التعاطي للسياسة بالالتزام الأخلاقي، خلافا للقاعدة التي تفرض اللاأخلاق في السياسة كحتمية لا غنى عنها، لا تكون الانتخابات عندها إلا نفاقا ليس فيه إلا الحرص على المظاهر الكاذبة وزخرف الكلام الزائف.
بقلم فرحات عثمان *
هذه حال الانتخابات حتى في البلاد الديمقراطية، تلك التي تقوم على قوانين غير جائرة تضبط نواميس العيش المشترك؛ فكيف للأمور ألا تكون أتعس ببلاد تدّعي فقط الأخذ بالديمقراطية بينما قوانينها كلّها، بما فيها تلك التي يطبّقها القضاة يوميا، تظلم الشعب بما أنها نفس قوانين الديكتاتورية ورغم أنها أصبحت باطلة بمقتضى الدستور الذي أتى بإلغائها؟
هذا واقع بلادنا، فكيف لا تكون الأمور فيه فاحشة في الزيف والنفاق، والانتخابات التي نعيش على وقعها تنعقد، إضافة للقوانين الظالمة، في غياب أهم مؤسسة يفرضها الدستور، ألا وهي المحكمة الدستورية؟
النفاق في استقلالية هيئة الانتخابات:
هوذا النفاق الأول، متمثلا في ادعاء احترام الدستور بالاكتفاء بما فيه ثانويا، أي انعقاد الانتخابات في أجلها، وعدم احترامه في أهم ما فيه: إرساء المحكمة القانونية العليا الضابطة لا لاحترام الدستور فحسب، بل لنزاهة الحياة السياسية وعدالة القوانين أيضا.
ليس مثل هذا النفاق السافر بالهيّن من طرف كل من رفض تأجيل الانتخابات بتعلة احترام مخادع للدستور، إذ الاحترام الصادق كان في تأجيلها إلى ما بعد الفراغ من إقامة المحكمة الدستورية.
وإنه لأشد خطورة بالأخص على روح المسؤولية عند الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إذ دلّلت بذلك عن عدم استقلاليتها الفعلية بما أنها سعت لمصلحة من تعلّق بالانتخابات في موعدها لا لصالح البلاد ودولة القانون الذي كان يفرض الفراغ أولا من الانتهاء من تأسيس دولة القانون بوضع اللبنة الأساسية فيها بإرساء المحكمة الدستورية. فأي استقلالية حقيقية في محيط قانوني فاقد الشرعية؟
لعل الأمر لا يُستغرب من الهيئة التي لم تكن لها القدرة للتصدّي للضغوطات التي مُورست عليها لأجل استعمال الحبر الانتخابي، وهو مجرد خدعة بتونس إذ، خلافا لما يدّعيه مروّجوها، لا ضرورة للالتجاء إليها لنزاهة الانتخابات عند وجود قائمات انتخابية شفافة ومحيّنة؛ وتلك حال القائمات التونسية حسب ادعاء الهيئة نفسها.
هذا، وقد أقرّت الهيئة، قبل الانتخابات البلدية، بعدم الفائدة من استعمال الحبر في الانتخابات التونسية قبل أن تتراجع أمام استنكار المستفيدين منه، وهم التجار الذين يروجونه عالميا والأحزاب التي تشتري أصوات الناخبين معتمدة على اللطخة على الإصبع كدليل على إنجاز العملية واستحقاق الخلاص للناخب البائع لذمته.
لنبيّن هنا أن القانون لا يفرض اللجوء للحبر، وأن غمس الإصبع فيه غير وجوبي لممارسة حق التصويت؛ لذا، للناخب حق رفض هذه الوصمة الدالة على تخلفه، بما أنه لا تخص إلا البلاد المتخلفة؛ فهي بحق وصمة عار للتونسي الذي بيّن مرارا على نضجه السياسي. على هذا، نهيب بالهيئة العليا للانتخابات البرهنة على استقلاليتها بالتذكير بما سبق والتصريح علنا من الآن، قبل الانتخاب، أن الحبر ليس إلا وسيلة إضافية غير وجوبية للتثبت من صفة الناخب وهويته؛ فإن ثبت ذلك بالقائمة الانتخابية وحسب وثيقة الهوية المقدمة، فلا داعي للحبر، ومن شأن الناخب وحقه رفض استعماله. هذا ما تفرضه النزاهة على الهيئة لإبراء ذمتها وبيان أنها لا تنتمي لمن يتعاطى النفاق في هذه الانتخابات.
النفاق في الطبيعة المشهدية للانتخابات:
استعمال الحبر الذي فرضه رأس المال الغربي على كل البلاد المتخلفة ديمقراطيا لأجل المنفعة التجارية يبيّن مدى حرص أهل المصالح السياسية والتجارية على هذه الانتخابات؛ وليس ذلك طبعا لتوطيد إرساء الديمقراطية بها، فهي آخر ما يهمّ هؤلاء التجّار. وهذه حال المشاركين في الدور الأول الذين يعلمون حق العلم أن لا حظوظ لهم للمرور إلى الدور الثاني، بل يساهمون في تشتيت الأصوات وإضعاف حظوظ من بإمكانه الإتيان ببعض االإضافة للانتقال الديمقراطي بالبلاد. فعلاوة على خدمة ذاتهم والأنا المتضخمة بها، هم يسعون لصالح من همّهم إنجاح السيناريو المقرر سلفا لهذه الانتخابات والمتمثّل في إحداث مجرّد تغيير طفيف على الوضع السياسي الحالي دون المساس بأهم ما فيه، أي تواصل التمشّي الحالي لخدمة مصالح رأس المال العالمي الذي سهر على صعود الإسلام السياسي إلى الحكم بتونس والضامن لبقائه بها.
فبما أن هذا الأخير نجح إلى الآن في إثبات صفته كالدعم الأفضل لمصالح رأس المال العالمي في غياب من يعوّضه، لن تغيّر الانتخابات جوهويا في بنود الحلف الرأسمالي الإسلاموي المتوحش Capitalislamisme sauvage المفروض على الشعب التونسي. ففي النظام العالمي المعولم، ليس الانتخاب سلطة الشعب، بل هو من قبيل العرض المسرحي، مجرد سلطة مشهدية théâtrocratie حسب عبارة أفلاطون. لذا، فالنتيجة المنتظرة لهذا العرض الانتخابي تتمثل في أنه لئن سيتقلص شيئا ما النفوذ الإخواني بالبلاد لحلحلة الوضع التشريعي بخصوص البعض من الحقوق والحريات، وذلك بعدم الدخول للقصر الرئاسي بقرطاج أولا ثم بتقليص عدد نوابه، فلن يكون ذا بصفة جذرية، بل يبقى أقرب من المراءاة.
وكما نعلم، إضافة للنفاق، للسياسة غير الأخلاقية قواعدها؛ ومنها أن لا تأتي الانتخابات بمفاجأة لمن يحرص ويسهر على عقدها؛ فلا يكون ذلك، في أقصى الحالات، إلا حسب مخطط بديل Plan B، مما لا ينعدم التفكير فيه أبدا، خاصة عند توقّع مشاركة غير منتظرة أو حادث طارىء لصالح مترشح بعينه. وليس هذا مما يمكن توقعه في الوقت الراهن لما نراه من العزوف عند المترشحين عن الكلمة النزيهة الصادقة بالتزام الحديث في الشعارات الجوفاء التي لم تعد تغالط أحدا من أبسط بسطاء هذا الشعب، كالسيادة الوطنية، ومنها الاقتصادية اليوم، أو النمو وتوفير الشغل مع انعدام الحقوق والحريات للشعب في حياته الخاصة، ومن أهمّها حرية التنقل، ناهيك من استبلاه الشعب بالمعسول من الكلام الشعبوي.
ومن ذلك المسكوت عنه عموما، أو مما تخادع بها نخبة بائسة الأخلاق جماهير عائمة في لخبطة قيمية في دينها فظيعة، مواضيع مثل: المثلية التي ما حرّمها القرآن قط، خلافا لليهودية والمسيحية الذين يعمل بهما المسلمون الآخذون بتحريمها؛ وأيضا المساواة في الميراث بين الجنسين التي تحقيقها من القطعيات الحقيقية في الإسلام الصحيح لاستيفاء مقاصد الشريعة في الغرض، إذ التوجه القرآني السليم هو تحقيق العدل في هذا الباب مثل غيره؛ أليس الإسلام دين العدل؟ فكيف رفضه لمن شذ في تعاطيه لجنس هو فطرة طبيعية عند البعص أو في إحقاق قيمة المرأة كمساوية تماما للرجل، بما إنه لا فرق بين المسلم والمسلمة إلا بالتقوى؟ أين نحن من التقوى الصحيحة، تقوى القلب وسلامة السريرة وصدق النية في انتخابات النفاق التي نعيشها؟
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك