لم يعد الفقه كما عرفناه عند الشافعي الذي نظّر له بداية برسالته المشهورة، إذ أصبح لا غنى فيه عن مقاصد الشريعة كما بيّنها الإمام الشاطبي. فكما يقول الشيخ عبد الله دراز في تعريفه لكتاب الموافقات متحدّثا عن الفن الفقهي وعدم أخذه بمقاصد الشارع: «وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عـظيما، هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه، حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي، في القرن الثامن الهجري، لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى، في هذا الفراغ المترامي الأطراف، في نواحي هذا العلم الجليل».
بقلم فرحات عثمان *
الفكر المقاصدي هو أصل الاجتهاد الفقهي
ما من شك أن الفكر المقاصدي لهو أصل الاجتهاد الفقهي الذي لا نهاية له في تجدّده لأخذه المستدام بفتوحات العقل البشري، مما يجعل من الإسلام هذا الدين الأزلي، المتجدّد على الدوام. بذلك لا تتحجّر تعاليمه الصالحة لكل زمان ومكان؛ وكيف تكون كذلك إن لم تكن في تحيينٍ متواصلٍ، مستدامة التناغم مع روح الدين التي لا نجدها ضرورة في حرفه، بل هي في مقاصده.
هذا، ولم تأت النظرية المقاصدية بين ليلة وضحاها بدون مقدّمات، إذ أن «مقصد الشارع» كما بيّن ذلك جورج طرابيشي، «مفهوم تراكمي»، لم يُولد راشدا في موافقات الشاطبي. يقول صاحب خماسية «نقد نقد العقل» في الغرض: «المفهوم قد مرّ بأطوار ثلاثة: فقد كان أول تداول له، على سبيل اللفظ لا المفهوم، في تلك الحلقات المبكّرة التي ضمّت، على ما يؤكد دارس “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي”، أسماء الترمذي الحكيم والماتريدي والشاشي القفال والأبهري والباقلاني. ثم كان تبلوره كمفهوم في حلقات وسيطة كانت القيادة فيها، بلا مراء، للثلاثي الأشعري الجويني/الغزالي/الرازي. وكان تحوّله أخيرا إلى مفهوم مركزي، بله إلى مفهوم/مفتاح في “موافقات” الشاطبي».
فالحرف، ضرورة، هو مما يخص الحالي والآني إذ يتوجه للبشر في حياتهم وكسبهم فيها لآخرتهم، وهو من الخاص لأهله ولا يكون عاما لغير ممن توجّه له الكلام إلا إذا توافق الحرف مع بقيّة ما يميّز كلام الله، خاصة مقاصده. وكما «الكلم: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنًى ليس باسم ولا فعل» كما يقول سيبويه، فكلام الله، أي القرآن، حكم، وهو الأمر والنهي، ومنه الحلال والحرام، وذلك مدار الفقه الذي هو، لغة، فهم غرض المتكلم، واصطلاحا، كما عرّفه الإمام أبو حنيفة، معرفة النفس ما لها وما عليها، وهو بذلك يشمل: العقائد، والأخلاق، والعبادات، والمعاملات.
هذا هو الاجتهاد، وهو السبيل، في الإسلام، للمعرفة الفقهية لهذا الزمن، معرفة متّصلة بالواقع المعيش لمسلم اليوم، بله كل مؤمن. بدون أدنى شك، هي ضرورةً كما عرّفها منظّر ما بعد الحداثة الأول القائل: «المعرفة في طور التشكّل لا بد أن تكون في صلة دائمة مع العالم. ولمن شأن إغفال هذا المعطى اقتراف شرخ محتوم بين الفكر والواقع، شرخ سرعان ما يتحوّل إلي هوة عميقة وسحيقة يستحيل ردمها. وحدوث هذه الشروخ، بين الفينة والأخرى، هي السبب في ظهور وتنامي أحوال نفسية جماعية تتراوح بين المزاج النكد والنزعة الكلبية، بله ومظاهر من الثورة المسترسلة على كل الأوهام في عصرنا».
فلا يجب أن ننسى أن المذاهب الفقهية ليست إلا مدارس شرعية أي قانونية، فهي مجرد اجتهاد بشري انطلاقا من الشرع الوحيد الذي هو للناس أجمعين، أي القرآن. حال هذا القانون إذن هي تماما حال القوانين الوضعية التي تتغير حسب الظروف وحاجيات المجتمع للتأقلم معه وإلا فسدت وأصبحت لاغية. فلا معنى للقول بأن ما اجتهدت فيه المذاهب لا يحول، لأنه ليس قرآنا، بل تأويلا للقرآن؛ وليس هناك بالطبع تأويل واحد، نهائي لأن الحكمة الإلهية ليست في متناول البشر، بل هي تقتضي التثوير المستمر حسب مقاصدها السنية التي بنفسها تتطور حسب تطور الذهن البشري وعقليته. لذا، إنه من الظلم للدين سجنه في اجتهاد السلف واعتبار اجتهاد المحدثين من البدعة، إذ أن كل محدث سلف لمن يأتي بعده.
هذه كلمة السواء، الإيمان الصحيح
الاجتهاد اليوم، ميتافيزيقا أخلاق ما بعد الحداثة الإسلامية، هو التعرّف والتعريف بحكمة الإسلام السنيّة في الإيمان الصحيح، والعمل بها، دون غيرها، لتقمّص مكارم أخلاقٍ لا تشوبها شائبة. ولا شك أن كلمة السواء هي مدار مكارم الأخلاق الإسلامية. والسواء، كما يقول الطبري، هو العدل؛ فتعبير كلمة «كلمة سواء» يعني بدون أدنى شك الكلمة العدل.
إن الاجتهاد، لغة، هو أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمّل المشقة، وهذا من الجهاد الأكبر السالف الذكر؛ أما اصطلاحا، فهو حسب الجرجاني: استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي؛ وأيضا: بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال. فهل أفضل من السواء كدليل لظنٍ وجيهٍ عادلٍ في دين العدل؟
وأصل السواء في العربية هو الوسط، ومنه قول العرب: هو في سواء السبيل، أي في مستوى السبيل، فسواء الأرض: مستواها. ولا شك أن سواء السبيل، وهو الإسلام الحنيفي، هو سواء الإيمان في معناه الذي عرّفنا به سابقا في فاتحة هذه السلسلة، أي ببعده الثقافي الإناسي، لا مجرّد الإسلام الشعائري.
وبعد، إن كلامنا اليوم في موضوع حساس جديد مثل القداسة مما فيه تجديد الاجتهاد لأجل العودة بفكرنا ودينا للسبيل السوية، بعد تفكيك الآليات التي كبّلت العقل العربي في الإسلام والعقلية الإسلامية خلافا لمقاصد الشريعة ولروح الإسلام واتساع لغته العربية ونزوع أهلها للحرية. فكما قال جورج طرابيشي، في نهاية المجلد الرابع من نقد لنقد العقل العربي لعابد الجابري، وهو يرد الاعتبار لعقلانية الموروث القديم التي ندّد بها المفكر المغربي، إن مأساة أفول العقلانية العربية الإسلامية هي مأساة داخلية ومحكوم بآليات ذاتية وغير قابلة للتحليل بأي «حصان طروادة» أيديولوجي أو إبستمولوجي متسلل من الخارج، يتحمّل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه بنفسه.
إن مأخذ طرابيشي الأساسي على نقد الجابري «كونه غير نقدي». فالقراءة الجابرية للعقل العربي تمثّل في نـظره «عقبة ابستمولوجية» لأنه أسر العقل في إشكاليات مغلقة، وما لم تفكّك هذه الإشكاليات، فإن أية مناقشة للنتائج والأحكام التي انتهى إليها مؤلف «تكوين العقل العربي» و«بنية العقل العربي» ستظل تدور كما لو على محور فارغ.
وهو مأخذنا على العقلية السائدة اليوم في العالم العربي الإسلامي، إذ هي إما عقلية وضعية مغالية في الوضعية والعلومية، وهي ما هدمت صرحها علوم ما بعد الحداثة، أو سلفية مغالية في الظلامية والتقوية التي ما لها في الإسلام من سلطان في دين يرفض الرهبنة. فعسانا نساعد بعملنا المتواضع هذا على استعادة الإسلام لروحه الثورية وقدره النيـّر الضائع اليوم بتدعدشه أو تدعّشه، إذ يكاد يعود إلى غربته الأولى بينما هو ثقافة الزمن الراهن. وليس هذا الاجتهاد إلا مما حث عليه الإسلام، بل أوجبه وأثاب عليه حتى عند الخطأ، ما دامت النية طيبة.
وهي كذلك في دين عليم لا علم فيه إلا لله، إذ يبقى العالم في الإسلام، كما في العلم الصحيح، جاهلا إلا ما دام في طلب علم لا نهاية له، إذ الحقيقة هي الأفق السرمدي.
وإلى يومية الغد…
* ديبلوماسي سابق و كاتب.
شارك رأيك