بقلم : الدكتور محمد الحداد*
«الثورة المضادة» عبارة مستهلكة استهلاكاً سيئاً من بعض السياسيين، وتحتاج إلى تحديد دقيق كي لا توظّف في غير محلّها وتستعمل في تحريف الواقع.
لنبدأ أوّلاً من تفريغ كلمة «ثورة» ذاتها من الحمولات الرومنسية، ولتقل أنّ ما يعبّر عنه بالثورة هو حالة قصوى واستثنائية من الأزمة تحصل في مجتمعات تنغلق فيها سبل الإصلاح، فهي انفجار لوضع فقد القدرة على التواصل. لكنّها لا تضمن في ذاتها تحوّل الوضع إلى الأحسن أو الأسوأ أو استعادته في أشكال جديدة. فلا توجد في الحقيقة ثورة فاشلة وثورة ناجحة وإنما توجد حالات ثورية تفتح الطريق للإصلاح وأخرى تزيد الأوضاع تعفّناً.
والحاسم في الأحداث ليست الثورة في ذاتها وإنما طريقة إدارتها والاستفادة منها. والثورة مجرد وسيلة بينما الإصلاح هو الغاية، والثورة ليست أفضل السبل للإصلاح لأنها تؤدّي إلى الكثير من المساوئ والعنف لكنها تفرض نفسها كلّما تعطّلت سبل الإصلاح.
وعلى هذا الأساس، فإنّ عبارة «الثورة المضادة» تتضمّن معنيين مختلفين من الخطأ الخلط بينهما. فالمعنى الأوّل يتعلّق بمواقف الفئات الاجتماعية في لحظة الانفجار الاجتماعي المدعوّ بالثورة، إذ من الطبيعي أن الفئات المستفيدة تعارضها والفئات التي ترى ذاتها مهمّشة ومتضررة ترحّب بها. لكن، بما أنّ الثورة إنجاز لا يحدّد في ذاته وجهته المستقبلية، فإنّ التقابل الحادّ بين ما يدعى بالثورة والثورة المضادة هو مجرد حالة عابرة سرعان ما تتجاوزها الأحداث، إذ إنّ العديد من الفئات التي كانت تتخوّف من الثورة على مصالحها تنجح في التكيف مع الأوضاع الجديدة وتصبح مستفيدة منها، بينما قد تنتهي فئات كانت الأكثر دعماً للثورة إلى الخيبة والإحباط عندما تجد ذاتها خارج الحراك وتفقد فيه موقع القيادة والزعامة. ذلك أنّ تصرّفات الأفراد والفئات الاجتماعية لا تتحدّد بالمواقف المجرّدة ولكن أيضاً بالمصالح الفعلية التي يجنونها من تلك المواقف.
وعلى هذا الأساس، فإنّ التقسيم الاجتماعي بين ثورة وثورة مضادة يفقد جدواه حال الانتقال إلى مرحلة إدارة الثورة، وتصبح مقولة الثورة ذاتها مجرد رأسمال رمزي مطروح في سوق المزايدة السياسية ولعبة اقتسام الغنائم. هاهنا يتنزّل المعنى الثاني للثورة المضادة الذي يرتبط بنتائج اقتسام الغنائم. فاستعادة المجتمع نوعاً من الاستقرار بعد انفجار الثورة يحتمل ثلاثة افتراضات: إما أن تجهض الثورة أو أن تتغيّر الفئات المستفيدة من الغنائم من دون تغيير قواعد الاقتسام أو أن تتغيّر مع الثورة قواعد توزيع الغنائم في المجتمع. والحالة الأخيرة هي وحدها الجديرة بتجسيد الإصلاح الحقيقي، بينما يجدر أن تصنّف الحالتان الأولى والثانية في خانة الثورة المضادة.
ولئن كانت الحالة الأولى واضحة فإنّ الثانية هي الأكثر تعقــيداً في فهم آلياتها، فهي تقوم على وسائل معقّدة ومـــاكرة، أهمّها إدماج جزء من المتمرّدين سابقاً فـــي المنظـــومة التي كانوا قد أعلنوا التمرّد عليها، فينضمّ جزء من ثوار الأمس إلى سدنة الهيكل الذي كانـــوا ينـــادون بهدمه، يستفيدون منه ويفيدونه بالحفاظ عليه، وبذلك يقع امتصاص جزء من العوامل التي سهلت الانفجار من دون معالجة أسبابه العميقة. إنها طريقة ماكرة وقليلة التكلفة للإيهام بالنجاح من دون تحقيقه.
ومن وسائلها أيضاً استبدال بناء المؤسسات بتحصين الفئات المتقاسمة للغنائم وتدعيم نفوذها وجعل قواعد اللعبة ضبابية وقابلة على الدوام للتبديل والنقض وفق رغبات المستفيدين. فتتعمّق نتيجة ذلك الهوّة بين طبقة المستفيدين والمجتمع الواسع الذي قامت الثورة باسمه، وتصبح اللعبة السياسية مثل البورصة لا يفهم أحداثها وتقلّباتها إلاّ المضاربون فيها.
ومن الآليات المهمة في نجاح الثورة المضادة إقامة ستار دخاني كثيف يجعل المجتمع الواسع مشغولاً باستمرار بالقضايا الهامشية عن القضايا الكبرى كي يصرف اهتمامه عن متابعة طبقة المستفيدين، فتحاسب الأخطاء الصغيرة كي تحجب الجرائم الكبرى ثم يعدّ ذلك عنواناً لمحاربة الفساد، وتفتح الأبواب واسعة لمناقشة القضايا البسيطة كي تنسى القضايا الكبرى ثم يعدّ ذلك من مفاخر حرية التعبير، ويطغى الاهتمام بالشكليات على حساب المضمون ثم يعدّ ذلك استعادة لهيبة الدولة، ويكثر الحديث عن الفساد السابق كي لا ينظر الناس إلى الفسـاد الجديد ثم يعدّ ذلك وفاء للثوّار وبطولاتهم، وتمنح صكوك الغفران لجزء من الفساد عنواناً لتسامح الثورة وينكّل بجزء آخر تأكيداً لحزم الثوار، ويستمر إلى ما لا نهاية تبرير الفشل في الإصلاح بثقل التركة الموروثة، وتحظى العديد من الأوضاع السابقة بالمقبولية بعد أن أصبحت صادرة عن الثوار ويعتبر الإصرار على إدانتها تشويشاً على الثورة. وفي الحالات الثورية القصوى، تنتهك كل القيم وتنهار أبسط الاعتبارات الإنسانية عندما تصبح صادرة باسم الثورة ومجمّلة بالمساحيق الثورية ويصنّف كلّ معارض لذلك في خانة الثورة المضادة.
*محمد الحداد، أستاذ الديانات القارنة بالجامعة التونسية
نشر المقال بجريدة الحياة -لندن- 3 جانفي 2016
شارك رأيك