بقلم : فرحات عثمان
رسالة مفتوحة إلى سماحة مفتي الجمهورية حول الإرهاب الذهني.
سماحة مفتي الجمهورية،
عرفناكم بنضالكم ضد الإرهاب الديني عندما تحملتم عبء وزارة الشؤون الدينية، فما هدأ حنق المتزمتين عليكم إلا بعد إقالتكم رغم أهمية الإصلاحات التي قمتهم بها من باب ضرورة إنقاذ الإسلام من الفساد والمفسدين.
فهؤلاء، رغم ادعائهم التعلق بالدين القيم، لا هم لهم إلا تشويه تعاليمه السمحة وجعله ملة ظلامية لا هذه الثورة العقلية التنويرية التي أتى بها، فأسس لحضارة علمية عالمية كانت إناسية وحداثية قبل الحداثة الغربية المتهاوية اليوم تحت نير المادية الزاحفة على أرضنا بتواطيء من تجار الدين.
إن الإسلام ثقافة قبل أن يكون شعائر، وهو روحانيات واجتهاد متجدد لا هذا التمسك المتهافت بحرف نص لا يعطي قيمتها السنية للمقاصد، بينما هي الأهم في دين تعاليمه أزلية ورسالته خاتمة للرسالات السماوية. فكيف يكون دين الحنيفية بتلك الصفة وهو هذا التزمت الذي لا يقبل به لا العقل ولا النقل عند كل مؤمن نزيه لا يتاجر بدينه ؟
إعادة فتح باب الاجتهاد :
سماحة المفتي،
لقد حان الوقت لفتح باب الاجتهاد في الإسلام وقد أغلقته السياسة، فعجلت بسقوط دين القيمة إلى الهاوية التي نراه فيها بداعش وببلاد الجاهلية الوهابية؛ فهي لا تأخذ إلا بالإسرائيليات الراسبة في الإسلام، وقد شجعتها ودعمتها في ذلك الإمبريالية العالمية منذ القدم إلى الآن.
لا إسلام حقيقة إلا الإسلام المتصوف، صوفية الجنيد السالك، كما ذكّر بذلك متن ابن عاشر. وهذا يقتضي المجاهدة المستدامة، وهو الاجتهاد في دين لا بد له أن يبقى جديدا متجددا حتى لا يلحقه خور التزمت. فها نحن على رأس مائة سنة جديدة، ليكن إذن تجديد إسلامنا بربوعنا المغاربية، وبتونس بالذات، أرض التصوف، الدين الحق، على أيديكم !
فكيف يبقى الإسلام آخذا باجتهاد من سبقنا من السلف الصالح الذي صلح لزمنهم وما عاد يصلح لزمننا؟ إن التجارة لتكسد إذا لم تتجدد، ولكل شيء بداية ونهاية إلا إذا تجدد. كيف إذن لا يتجدد الإسلام ولنا ما يسمح بذلك، قرآن علمي عالمي وسنة صحيحة في ما اتفق عليه الشيخان علينا تأويلهما حسب مقاصد الشريعة نستلهمها حسب مقتضيات العصر وثوابت الحضارة البشرية. هذا ما يمليه الضمير الحي وتقتضيه النزاهة العلمية والفكرية !
لا جهاد إلا الجهاد الأكبر :
إضافة لفتح باب الاجتهاد، علينا بالقول الفصل في موضوع كثر فيه اللغط إلى حد التهور والجنون، بل الإجرام والقتل، أي موضوع الجهاد المسلح، هذا الجهاد الأصغر الذي يريده البعض أكبر من الأكبر، أي جهاد النفس !
لا جهاد اليوم إلا مجاهدة النفس بإعطاء المثل الأسنى؛ إذ انتهى الجهاد الأصغر كما انتهت الهجرة بقيام دولة الإسلام وتمتن صرحه في القلوب. ألم يأت الرسول متمما لمكارم الأخلاق ؟ كيف يكون ذلك بدون السير على هديه وسنته وقد جعله الله على خلق عظيم ؟
لا يكون هذا إلا بنبذ العنف وكف اليد واللسان على الآخر المختلف، أيا كانت مشاربه، إذ لا كنيسة ولا كهانة في الإسلام.
فإن كان للحاكم الحق في السهر على الأمن المادي والتعايش السلمي بين الناس، ليس له أن يصبح كالصنم بين الله وعباده في أمور الدين إذ هي مما لا يخص إلا الله في علاقة مباشرة بين الخالق وعبده.
لذا، لا دخل للسلط في الحياة الخصوصية للعباد، وليس لها خاصة هتك حرمة الحياة الشخصية بما فيها في احترام أو عدم احترام قواعد العقيدة الإسلامية التي لها الله وحده لحمايتها. أليس هو بالقادر على ذلك أم هل نشك في أنه القدير؟
لنتذكر هنا ما كان من جد النبي الكريم عند هجوم أبرهة الأبرش على الحرم الشريف؟ ألم يغادره أهل مكة تاركين لله وحده حق الدفاع عن حرمة بيته؟ هل نحن أفضل من سلفنا الصالح؟ إلى متى نقيم الأصنام في ديننا وقد هدمها بلا رجعة ؟
الإسلام دين الحريات الخصوصية :
لقد حان الوقت أيضا للتذكير أن الإسلام الصحيح هو بدون أدنى شك دين الحريات الخصوصية لا ما بقي من إسرائيليات في فقه أكل عليه الدهر وشرب.
فلا تحريم في الإسلام الصحيح للخمرة، بل السكر هو المحرم. لذا، كفانا فهما مغلوطا لديننا ومغالطة فيه، وكفانا تشجيعا للتجارة السرية بالخمر وما تنتجه من مصائب وفواجع! ألا يكون من الأفضل دعوة المؤمن عدم الإسراف في شرب الخمرة إن لم يقدر على كبح نفسه عنها ثم، خاصة، عدم قرب الصلاة مخمورا عوض التشجيع بصفة غير مباشرة على ذلك بمنع ما قال به الله ولا رسوله؟
ثم ألم يحن الوقت لأن نكون نزهاء في تعاطينا لموضوع تعاطي القنب الهندي، المعرف بالزطلة، وقد تفشت الظاهرة في صفوف الشبيبة؟ أليس المنع أيضا مما يشجع هنا على تعاطي الممنوع ؟ وبعد، كيف نمنع ما ثبت علميا أنه أقل ضررا من التدخين الذي نقبل به دون أن ننبس ببنت شفة؟
إن الأخلاق الإسلامية تقتضي منا أن نكف عن مثل هذا التصرف الأخرق، فإما أن نمنع التبغ والتدخين، أو نقبل بما هو أقل ضررا على الصحة كا أثبتته أهم الدارسات الجدية. كفانا كذبا في ديننا وهو دين الصدق والنية الحسنى !
هذا، ولا شك أن نفس هذه الأخلاق تقتضي منا اليوم إبطال القوانين الرادعة للحريات الخصوصية في قوانينيا الجائرة باسم الأخذ بالدين، كحرية الزنا، الذي لم يحرّمه الإسلام، وحرية العلاقات بين بشرين من جنس واحد، إذ ليس في دين القيمة أي تحجير للواط خلافا لليهودية والمسيحية. أما ما يُقال عن تأويل العذاب لقوم لوط، فذلك بسبب تعاطيهم للحرابة وقطع الطريق التي جاء فيه الإسلام بأفظع العقوبات، وكان في ذلك على حق، إذ لا أفحش من التعرض إلى سلامة السابلة وهذا في كل العصور إلى يومنا هذا.
أما نعت القوم بفاحشة اللواط، ومعنى الفاحشة هو ما تعدى الحد المعهود لا المعنى الذي نعرفه اليوم، فقد كان ذلك من البديع في العربية التي أنزل القرآن مبينا بها، إذ من عادة العرب صرف ما في البعض على الكل زيادة في البيان والتبيين؛ من ذلك نعت أبا بكر وعمر بالعمرين أو الشمس والقمر بالقمرين أو اللبن والتمر بالأسودين، إلخ من صور البلاغة العربية.
هذا من ناحية؛ ثم هو لا يمنع من إعمال العقل والذكاء إذ يحث ديننا على ذلك؛ فهل كان بإمكان قوم لوط أن يكونا شعبا بتعاطيهم كلهم اللواط؟ أين عقلنا حتى نعتقد هذا؟
سماحة المفتي،
إن واجبكم اليوم هو مواصلة العمل وبسرعة على إنقاذ ديننا من الأخطار التي أحدقت به في هذا البلد الآمن وقد سقط غيره بعد من أرضين الإسلام في الهاوية. فلا تردد في قول الحق ولا سبيل لتعلة المهم والأخم إذ لا أهم من هذه الموايع لتداعياتها في المخيل الشعبي واللاوعي الجماعي/
واإسلاماه ! لقد حان الوقت لإجابة الصريخ، ولات وقت تردد، يا سماحة المفتي !
شارك رأيك