بقلم محمد النفطي
النقل والتقليد علة و لا يرتقيان الى الحسن ولو كان الأصل إبداعا بعينه. ونرى أنه يسري على السلع والبضاعة السياسية التي تعرض في أسواق تونس هذه الأيام.
كان معبد من أحسن الناس غناء وأجودهم صنعة. غنى في أول دولة بني أمية وأدرك دولة العباسيين وهو من فحول المغنين وإمام أهل المدينة في الغناء كما ورد في كتاب الأغاني. وكان معبد قد علم جارية حجازية أصول الغناء فاشتراها رجل من الأهواز فأعجب بها وذهبت به كل مذهب ثم توفيت وأخذت جواريه أكثر غنائها عنها. وتأسف سيدها عليها وسأل عن أخبار معلمها معبد. ولما علم هذا الأخير خبره خرج اليه حتى أتى البصرة. ومن حسن الصدف أنهما التقيا بسفينة دون أن يكون أحد منهما على علم بذلك. وسارت السفينة في النهر و أمر الرجل جواريه بالغناء حتى غنت إحداهن :
بانت سعاد وأمسى حبلها انصرما — واحتلت الغور فالأجراع من إضما
فلم تجد أداءه فصاح بها معبد إن غناءك هذا ليس بمستقيم. فغضب مولاها وقال له ما يدريك الغناء ما هو؟ ألزم شأنك. ثم غنت :
إنما أبلى عظامي وجسمي — حبها والحب شئ عجيب
فقال معبد يا جارية قد أخللت بهذا الصوت إخلالا شديدا, فغضب مولاها وقال ألا تكف عن هذا الفضول. ثم غنت إحداهن :
وقولا لقلب قد سلا راجع الهوى — وللعين أذري من دموعك أودعى.
فلم تجد أداءه. فاندفع معبد في غناء الصوت الأول حتى فرغ منه فصاح الجواري أحسنت. ثم انفع يعني الصوت الثاتي فابهرن وقلن لسيدهن هذا والله أحسن التاس غناء. ثم غنى الصوت الثالث فزلزل عليهم الأرض فوثب الرجل عليه فقبل رأسه واعتذر له وسأله أن ينزل اليه ليكرمه. وسأل معبد من أين أخذ الجواري الغناء؟ أجيب من جارية لمعبد.
ولعل العبرة من ما تقدم ذكره أن في النقل والتقليد علة و لا يرتقيان الى الحسن ولو كان الأصل إبداعا بعينه. ونرى أنه يسري على السلع والبضاعة السياسية التي تعرض في أسواق تونس هذه الأيام. ولن يفلح الأحزاب في أي منوال منقول أو منسوخ أو مستورد مهما كان مأتاه. والأصل أن بلادنا تحتاج الى فحل جديد ومنوال حديث ينهض بها قبل فوات الأوان.
كان بورقيبة زعيما تونسيا وسيظل في قلوب التاس زعيما. و له الفضل الكبير في تربية نشء وطني بعد الاستقلال عمل جاهدا لتطوير تونس. وبقدر ما كان عمله كبيرا في أول حكمه لكن يؤاخذ عليه تردي أوضاع البلاد في الشطر الأخير من عهده. وقد لا يفلح من يريد أن ينقل أفكاره وسياسته و”صنعته” في هذا العصر الجديد.
كان جمال عبد الناصر زعيما مصريا وسيظل زعيما في قلوب الكثير. طور المجتمع المصري وأنشأ دواليب الاقتصاد ولكنه جر الجيش المصري العتيد الى هزيمة شنيعة تسببت في احتلال جزء كبير من وطنه. ولا يوجد الا النزر القليل من يؤمن بدوام سياسة عبد الناصر ونجاعتها في القرن الواحد والعشرين.
أنشأ حسن البنا تيار الإخوان المسلمين في مصر وصدره الى عديد الأوطان. ولئن التف حوله الكثير من الناس بحثا عن طريق جديد ينهض بالفقير والمسكين إلا أن محبيه خارج مصر عجزوا عن بناء نمط سياسي يعتز بانتمائه للوطن.
كما أن الشيوعية الماركسية اللينينية قد ذاع صيتها في أول القرن الماضي ولكن أصبحت اليوم نسيا منسيا.
رحل عبد الناصر وحسن البنا و لينين. ورحل بورقيبة ولكن ابن خلدون وابن عاشور والطاهر الحداد لن تمح أفكارهم ومازالت كباقي الوشم في ظاهر اليد. بقي المفكرون ورحل السياسيون ولن يبعثوا. ولا سبيل لتونس في نسخ تجارب الآفلين والأجدى أن نعتصم بأفكار المبدعين الذين سبقوا والذين ما زالوا على قيد الحياة وهم كثيرون وصامتون. ومن مصلحة تونس أن تعتني بالشباب المتميز وتنتخب من بينهم زعيما قويا أمينا وتهيئ منوالا تونسيا يصنع بأفكار تونسية وسواعد وطنية.
شارك رأيك