بقلم فرحات عثمان
إنه من المؤسف حقا أن يتجاهل أهل السياسة في البلاد حقيقة الوضع، بما فيهم من لا يمارس الحكم فعلا، وإن كان له سابقا ذلك الشرف؛ بل وخاصة هؤلاء..
ذلك أن لهؤلاء من التجربة والمسافة مع الأحداث ومقضيات السياسة ما يفرض عليهم كلمة الحق. فنحن نراهم في أفضل الحالات يتكلمون خارج الموضوع ملوحين بوصفات لا معنى لها، إذ هي في أفضل الحالات مما لا جدوى فيه نظرا للوضع القانوني بالبلاد وللنظام العالمي الاقتصادي والسياسي الذي يتجاهلونه رغم حتمية الأخذ به.
من ذلك ما نشره يوم 25 جانفي على صحيفة المغرب السيد حكيم بن حمودة، الوزير السابق للمالية، مقترحا حلولا عاجلة وأخرى آجلة للأزمة التي تعيشها البلاد. فما هي يا ترى ؟
مقترحات عاجلة بلا فائدة مباشرة :
قبل التذكير بها، لنشير إلى أن السيد الوزير يقر بأن « من خصائص الديمقراطيات تمكينها للحركات الاجتماعية والحركات المعارضة من التعبير عن آرائها في إطار القانون. وتسعى الدول والحكومات في هذه الديمقراطيات إلى حماية هذه الحقوق وتمكين المواطنين من ممارستها.». كما هو لا ينكر أن «الأزمة الاجتماعية الخانقة والناتجة عن واقع البطالة وتهميش الجهات الداخلية والتي لعبت دورا كبيرا في سقوط النظام السابق لازالت قائمة.» وأن « قضيتا البطالة والتهميش في كنه وقلب التحركات الاجتماعية خلال الخمس سنوات الفارطة واعتبرها الفاعلون الاجتماعيون أحد أهم استحقاقات الثورة التي يجب الإيفاء بها.»
لا شك أن هذا يقتضي الترسانة القانونية اللازمة للتغيير والإرادة السياسية التي بدونها لا شيء يتم؛ فهل هذا مما انتبه إليه السيد الوزير وقد عدد الأسباب والأدلة على مدى عمق الأزمة الاجتماعية؟
لئن اعترف بفشل السياسات الكلاسيكية والتقليدية وبين ضرورة القطع معها، الحقيقة أنه لا يأتي بالجديد المفيد حقا؛ فكيف إعادة إحياء الأمل في نفوس الشباب وفي تفكيرهم وأحلامهم بالاكتفاء بما يقترحه، هذا الذي نلخصه في النقاط التالية :
الأولى تتمثل في عقد وطني من أجل التشغيل مع القطاع الخاص مع معاهد التعليم، مثل ما كنت تحدثت عنه في مقالة بالفرنسية منذ بداية الثورة.* هذا طبعا مما ينفع، إلا أنه لا يؤتى ثمره عاجلا، إذ هو من السياسات التي تتطلب وقتا، ولات وقت انتظار !
الثانية هي الاستثمار، وهو أيضا للمدى الطويل، إذ لا استثمار بدون مناخ سلمي وثقة عند الناس وعزيمة للعمل والتضحية؛ فليس هذا موجودا اليوم نظرا للمنظومة القانونية الظالمة للشعب وخاصة للشباب.
الثالثة تخص التمويل وتتعلق بعقد لتشجيع مشاريع الشباب، وهي أيضا مما لا يمكن أن يتم عاجلا وإن لم تنعدم المشاريع عند الشباب، بل تعددت؛ ومنها ما يمكن أن ينجح بين تونس وفرنسا أو إيطاليا، لو تمكن حامل المشروع من حرية تنقل منعدمة اليوم للأسف.
الرابعة تهم تأهيل المرافق العمومية في داخل البلاد، ولا يأتي هذا بسهولة وبيد سحرية، كما لا حظ له للنجاح مع انعدام الحس الوطني لدي عموم الشعب؛ وطبعا، لا سبيل للوصول إليه إلا بتغيير العقليات، إذ لا بد من الحوافز النفسية، ولا شك أن القانون من أهم ما يخلقها.
الخامسة هي أيضا من الضروريات، إلا أنها كذلك من المدى الطويل بما أنها تُعنى بالتكوين وتأهيل العاطلين؛ فهل هذا يتم بسهولة وفي وقت قصير ؟
كلها هذه النقاط الخمسة مهمة وضروية، على أنها لا تفيد حالا إلا إذا وفّرنا لها المناخ اللازم بالعمل على تهيأة الأدمغة لها حتى تكون كالنبتة التي نزرعها بأرض خصبة، ذاك التيرب الذي يقتضي الثقة في حكام البلاد وقوانينها، وإلا كان كالحبة التي نرميها على أرض لا تنبت شيئا؛ وليس هذا موجودا بعد بتونس الرازحة تحت قوانين الاحتلال والديكتاتورية.
مقترحات آجلة بلا نفع لوحدها :
هذا حال المقترحات العاجلة للسيد الوزير الأسبق؛ فكيف حال المقترحات الآجلة ؟
إن البرنامج الذي يقترحه على المدى المتوسط في خمس نقط أيضا وهو للخمس سنوات القادمة، متمثلا في برنامج أشغال كبرى، وبرنامج إصلاحات سياسية، واقتصادية ومالية، وضرورة الاهتمام بالقطاعات الواعدة، خاصة منها تلك التي لها كثافة تكنولوجيا عالية، والعمل على الاندماج الاجتماعي والتواصل بين الأجيال وأخيرا التنمية المستدامة.
كما نرى، إن كل هذه المقترحات من نفس نوع المقترحات الأولى، أي تلك التي لا نتائج لها عاجلة، بل لعل منها ما يقتضي أن يكون من التوجهات الأولى، أي العاجلة، كتلك التي تخص إصلاح المنظومة القانونية والاندماج الاجتماعي والتنمية البشرية.
وكل هذه تقتضي تبديل القوانين الحالية؛ وما من أدنى شك أن هذا هو الذي يجب القيام به حالا دون أي تأخير، إذ كل المقترحات المعروضة هنا مرتهنة بالأساس القانوني. فإما أن يصلح فتصلح وإما أن يبقى جائرا كما هو اليوم، فلا نتيجة لأي إصلاح، لأنه تماما كالزراعة في الأرض البور.
ضرورة الإصلاح القانوني العاجل :
ما من عاقل يشك بدولة القانون في ضرورة الإصلاح العاجل لمنظومة العهد البائد، فهي التي تبني لعقلية جديدة متفتحة للديقراطية. وبديهي أن ذلك يجب أن يتم، أولا وقبل كل شيء، بإبطال كل ما له مساس بالحياة اليومية، حتى تلك القواني التي لا نراها من المتأكد الملح، بينما توابعها وتداعياتها على المتخيل واللاوعي الجماعي لجد كبيرة وأضرارها بهما فاحشة.
إن أهم وأسهل ما يمكن للحكومة القيام به اليوم دون عناء لهو إبطال القوانين المخالفة للدستور الموروثة عن العهد القديم لأنها هي التي تمنع من إحياء الثقة في النفوس. ذلك لأن الشعب، كما رأيناه يتعلق بوطنه ولا يريد له إلا الخير في فترة أراد له البعض فيها الشر، لا يثق حقيقية في ساسته إذ هي تعمل بمنظومة قانونية تظلم أبناء الشعب ولا تخدمهم؛ فكيف نطلب مثلا من الشعب احترام القانون وهو جائر، مخالف للدستور؟
وبعد، إن العديد من هذه القوانين، باسم الأخلاق والدين، تسعى للتفرقة بين أبناد الوطن عوض العمل على إشاعة التسامح وقيم العيش المشترك؛ لهذا، المطلوب العاجل، المتأكد الأكيد هو التصويت في مجلس نواب الشعب على قانون يوقف حالا تنفيذ كل النصوص المخالفة للدستور في ميداني الحقوق والحريات مما من شأنه إثبات نية الدولة في إفشاء مباديء دولة القانون ومجتمع الحقوق والحريات والكرامة.
هذا هو الممكن حقا، لا ما يقترحه السيد حكيم بن حمودة من أفكار مهمة، لكن لا نفع لها إلا في مناخ بحق ديمقاطي؛ فلا يكون ذلك إلا بالقطع أولا مع عقلية النظام السابق وتعلق البعض من الساسة بها، بينما هي متسلطة على حقوق الشعب وحرياته.
ضرورة تغيير النظام العالمي الجائر :
هذا من ناحية، وهو من المستعجل والممكن حقا إذا خلصت النية عند أهل السياسة. وطبعا، لا بد أيضا، من ناحية أخرى، من بيان الرغبة في القطع مع كل ما يمنع من تحقيق مقترحات السيد الوزير السابق التي لا مجال لتطبيقها في الوضع الراهن الذي عليه علاقات تونس بالغرب، إذ المصالح الرأسمالية عديدة، وهي تمنع منعا باتا أي تغيير يمس بها؛ وبديهي أن البعض مما اقترحه السيد بن حمودة يؤدي إلى ذلك.
لهذا، لا بد من المطالبة، أولا بصفة رسمية، بما يمكن أن يرمز لهذه النية والقبول بها، لا فقط من طرف ساستنا، بل وأيضا من طرف حلفائنا الغربيين، الشيء الذي من شأنه خلق ردة فعل إيجابية عند الشعب، وخاصة الشباب.
يكون ذلك أولا بالقطع مع الظلم الحالي المتمثل في منع حرية التنقل، وهي من حقوق الإنسان المشروعة، والمطالبة بها حالا بعرض في تعويض التأشيرة الحالية بتأشيرة مرور تُسلّم للتونسيين مجانا ولمدة سنة قابلة للتجديد آليا.
هذا هو المفتاح السحري للخروج من الأزمة الحالية التي هي أزمة نظام عالمي قبل أن تكون تونسية؛ مع العلم أن تأشيرة المرور تضمن حرية التقل مع احترام كل الضروريات الأمنية المشروعة.
في نفس هذا النطاق، وكتوجه مستقبلي، لا بد لتونس أيضا من المطالبة بالانضمام للاتحاد الأوربي، إذ لا يمكن أن يتواصل وضعها الحالي المتمثل في تبعية بنيوية لاشكلية ستزيدها تفاقما الاتفاقيات المعروضة حاليا على تونس؛ أليس الأفضل للجميع المرور إلى تبعية رسمية تكون فيها المنفعة للجميع، ألا وهي الانضمام للاتحاد الأوروبي؟
لقد انتهـى عهد التبعية للغرب وسياسة الشحذ والتسول ولم يعد من المقبول أن تواصل جارتنا أوروبا السياسة الأنانية الحالية، كما رأيناه مؤخرا، متمثلة في قروض وهبات لا تغني من جوع. إن الوضع الخطير الذي عليه بلدنا يقتضي من الغرب فسخ ديون العهد البائد، بل وكل الديون التونسية، والقبول بتونس كشريك حقيقي لأوروبا، أي كعضو بالاتحاد.
هذا هو اتجاه التاريخ وتلك هي مصلحة الغرب نفسه إذا أراد حقا حماية مصالحه الجمة ببلدنا، وإلا خسرها إذا سقطت تونس بين فكي الإرهاب الفاتح فاه بها؛ وليس هذا بالمستحيل للأسف اليوم. إنها سياسة إنقاذ وطني ليس فيها القرار بتونس وحدها، بل في بروكسيل أيضا ولربما أولا!
* راجع :
Pour la création d’un diplôme universitaire professionnel comme solution au chômage des diplômés
شارك رأيك