بقلم فرحات عثمان
لا شك أن للإسلام في الحراك السياسي الذي تشهده بلادنا منذ الثورة، أو ما أسميه بالانقلاب الشعبي، حضورا مشهودا إلى حد القول، ولسنا نبعد في ذلك عن الحقيقة، أن الدين هو مدار التنافس على الحكم..
فالحقيقة الثابتة هي أن الإسلام السياسي السبب الفاعل في النقلة النوعية بتونس، إذ كان حصان الرهان للحليف الأمريكي الأسبق للحكم البائد بعد أن غيّر رؤيته للإسلام على أمل أن يسابق زمنا أصبح الدين فيه مطية لكل من هب ودب.
ذلك لأن الروحانيات هي الميزة الأساسية لهذا الزمن المابعد حداثي، وهي ما يختص به الشعب العربي؛ إلا أن خصوصياتها التي تغيب عن الأذهان، ومنها ذهن الأمريكي الحليف الأكبر للتوجه الإسلامي بتونس، هو أن الإسلام التونسي، والمغاربي بصفة أعم، لا كغيره من تجليات الإسلام بالشرق الذي غوى دينيا، فهو إسلام سمح متسامح، لأنه صوفي النزعة.
لذا، ورغم ما قيل عن فشله بعد أحداث مصر، فالإسلام السياسي له حضور في صميم الواقع العربي الإسلامي والتونسي بطبيعة الحال، مما يجعله في قلب المعركة السياسية. فالإسلام دين ودنيا، ولا مناص من العودة إليه بالنسبة للبعض، والانطلاق منه بالنسبة للآخرين.
العودة للإسلام الصحيح :
من تحصيل الحاصل إذن العودة إلى الروحانيات في مجتمعاتنا ما بعد الحداثية التي طغت عليها مادية فاحشة؛ وليس أفضل في مجتمعاتنا االعربية من الإسلام. إلا أن مثل هذه الرجعة لا تكون في المجتمع العربي الأمازيغي ببلاد المغرب إلا إلى الصوفية، صوفية الجنيد السالك. وقد عشنا جزءا من هذه العودة مع التجربة السياسية التي قادتها وتقودها النهضة، والتي بينت فشلها الذريع، هذا الذي تحدث عنه الرئيس خلال زيارته الأخيرة للخلية العربي الفارسي، وذلك لعدم أخذها بالخاصية الصوفية للإسلام التونسي .
رغم ما يتبجح به ساسة النهضة من انصهار في الواقع التونسي، ففي ما يقدمونه من تنظير ديني للعقيدة انسلاخ فظيع عن واقعنا وتقوقع في الماضي السحيق. فكأن الإسلام عند أهل النهضة، وبخاصة الأشد تزمتا منهم، لا حاضر له؛ فإذا فتح مكة عندهم هو الحدث الأهم في التاريخ الإسلامي، لا ما جاء به هذا الدين من فلسفة حياة تعطينا المفتاح الأفضل لفتوحات أكبر وأعظم.
طبعا هذا لا يقلل في شيء من الأحداث الجسيمة الماضية التي تبقى طبعا في الذاكرة؛ ولكن دون العودة إليها بالضرورة لما في ذلك من خطر الانفصام في الشخصية والانفصال عن الواقع المعاش، وتلك من الأمراض، حتى في السياسة؛ عافانا الله منها !
هذا ما لم يفهمه الطرف المقابل الذي يُنعت باللائكي، والذي من شأن الرئيس تزعمه. فبقدر ما يعتقده من أهمية للدين، نراه يخصص له الكلام الوافر، مستشهدا بآياته في كل تظاهرة؛ فإذا الإسلام بذلك مجرد شعارات دينية لا نغيب عن المحفل، كفعل من يريد التدليل على تشبثه أيضا بالدين. هذا، وإن كان صحيحا في المناورة السياسية حسب فهمها القديم المتاكل، فليس هو اليوم إلا من السياسوية المتهافتة، لأن الشعب، كما سبق أن قلنا، يفرّق بين الأصل والفصل، بين المتأصل والدعي.
للأسف، ذاك ما نراه بأم العين وما لا يغيب عن كل ملاحظ فطن للواقع المعيش. ولعل المؤسف أنه يجعل من يتعلق بنظرة حداثية للدين يتغافل بتزمته اللائكي لما يمكن أن يكون لموقفه من تجذر وأصالة وحيوية متفتحة للقيم العالمية، إذ الإسلام اليوم هو المابعد حداثي! يكون ذلك مثلا بالتدليل على أن اللائكية لا تعني حقيقة القطع بين الديني وغير الديني، بل هي الأخذ بما يميّز غالبية الشعب؛ هذا هو مفهوم العلمانية الصحيح كما بيّنت ذلك العديد من المرات (1).
نعم، إن الدين يبقى ببلادنا مدار كل شيء، لأنه في المتخيل الشعبي، ولأنه لا سياسة في بلاد الإسلام بلا موقف واضح ومعتدل من المرجعية الإسلامية. إلا أن هذه المرجعية في بلدنا الذي يؤسس للديمقراطية لا يمكن لها أن تكون كمرجعية الإسلام عند الشيعة مثلا؛ ونظرتنا للدين لا يمكن أن تأتي متزمتة كذلك التزمت الذي نراه في بلدان شقيقة ما نوت يوما اتباع طريق الديمقراطية ولا قامت بثورة لأجل ذلك.
إن المرجعية التي يمكن أن تكون للإسلام في ديمقراطيتنا الناشئة هي مرجعية سلطة أخلاقية لها أن تقوم ببلادنا بدور سلطة خامسة، فيكون لها ما للسلط الأربع المعروفة من حقوق، ولكن عليها أيضا نفس الواجبات التي يفرضها انفصال السلط؛ أي هي تساند وتعاضد أحيانا تلك السلط وتناقضها وتعارضها أحيانا أخرى، إذ هي سلطة منها تكون الخامسة، إلى جانب السلطة التنفيذية والسلطة التشريعة والسلطة القضائية وسلطة الإعلام الحر.
وإن لفي ديننا الزاد الوافر الذي علينا اكتشافه من جديد لإثراء حياتنا السياسية بروحانية هجرت الممارسة التقليدية للديمقراطيات الغربية العريقة وقد امتلكها هاجس المادية، فإذا به يقتل فيها أحيانا البعض من محاسن الديمقراطية؛ فنرى الأخلاق تنعدم من السياسة فتصبح تصرفات الساسة هوجاء، سياسوية لا غير.
الفتوحات الإسلامية التونسية :
قناعتي أنه بإمكاننا حقا بتونس تحقيق فتح جديد عظيم للإسلام، ولكن ليس الإسلام الذي يمثله اليوم حزب الشيخ راشد الغنوشي، بل الفتح الديمقراطي الذي ينتظره الشعب، ومن شأنه أن يكون كفتوحات ابن عربي المكية،(2) فتوحات تونسية إسلامية.
لقد سبق لي أن دعوت إلى قراءة باطنية لما جرى في مصر وقلت أن الإسلام السياسي له أن ينجح بتونس إذا اغترف حكامها من منابعه الفيحاء، لا كما يراها المتزمتون من حزب النهضة، بل كما قرأها المتصوفة وعملوا بها (3). فقد ترك لنا ابن عربي في موسوعته الصوفية العظيمة ما يمكنّنا من قراءة جديدة لديننا من شأنها أن تضمن له المشاركة الفعالة على الساحة السياسية.
إن الفتوحات المكية، وهي أعظم موسوعة في التصوف بلغة الضاد على الإطلاق، لزاخرة بالمصطلاحات الهامة كوحدة الوجود والإنسان الكامل، التي وفّق فيها صوفينا الأندلسي بين كنوز القرآن والسنة وعلم الكلام وذخائر الفلسفة الرواقية والمشائية والأفلاطونية المحدثة والغنوصية اليهودية والمسيحية؛ كل ذلك بصبغة صوفية إسلامية كانت حداثة قبل أوانها ولا تزال حداثة ما بعد الحداثة.
لقد أخذت الروحانيات في العالم أجمع بمصطلحات ابن عربي وفتوحاته الدينية ففاضت وأفاضت بمعاني الوحدة الوجودية الشمولية وبالحب الإلاهي الذي هو أساس كل شيء. فالحق هو أصل الوجود وهو الفاعل على الحقيقة لكل شيء في كل شيء؛ وعالم الممكنات يخلق خلقا جديدا في كل لحظة ويفنى في اللحظة التي تليها، كما يرى العلم ذلك اليوم.
نعم، لم يكن ابن عربي في عمق حسه الروحي وبسطة فكره وخياله ممن اتبع منهجا فلسفيا وتحليلا علميا، إذ أهمل منهج العقل إلى منهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة؛ ولكنه كان في ذلك أيضا سبّاقا لما يسمى اليوم بالعقل الحسي أو الحساس الذي فرض نفسه في علم الإجتماع الفهيم.(4) المهم أن ابن عربي أعطى بفتوحاته وفصوص حكمه أكبر دليل على روعة الإسلام وسماحة تعاليمه في كونيتها وانفتاحها على أفضل ما في الإنسان، أيا كان مشربه ونزعته، بما أنها تنشد الإنسان الكامل. وهي بذلك تتناغم تمام التناغم مع التعاطي الفهيم للسياسة الذي نتمناه لتونس في فتوحاتها الإسلامية الجديدة.(5)
فلا غرو أن لا كمال للإنسان إذا لم تنتف من النفس البشرية كل ما فيها من تكبر واستعلاء وتميّز وتمييز ورفض للآخر، كل آخر. فلإن كانت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، فليس هذا في اعتدادها بنفسها واعتقادها أنها شعب الله المختار، فهذه دعوى يهودية باطلة؛ بل ذلك في تمسكها بالعروة الوثقى التي مدارها الجهاد الأكبر المتواصل للنفس لتزكيتها وتجاوز هناتها، إذ لا مجال لأن تنتهي ما دمنا على هذه البسطية، التي هي تبقى أبدا دنيا.
أما الجهاد الأصيغر، كما يتعاطاه العديد من الشبيبة ممن غُرر بها، فقد انتهى مع قيام الدولة الإسلامية، كما انتهت الهجرة، إذ الشهادة في الإسلام في الحياة لا الموت للإتيان بالدليل القاطع أن الإسلام خاتم الأديان جميعها (6).
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو العمل المتواصل للوصول لأفضل معروف وللنهي عما يمنع ذلك فينكره باعتباره بدعة مثلا أو خروجا عن العادة؛ لأن الإسلام ثورة مستدامة، ولا مناص من أن تكون دوما مستأنفة. فلا يكون ذلك إلا بالأخد بالمعروف من قيم البشرية جمعاء في عالمنا وكما تقرّه الأنظمة المتطورة، وترك ما أصبح من المنكر حتى وإن كان معروفا سابقا، قبل أن يصبح من الهجر المهجور؛ إذ تلك سنة الحياة البشرية ونواميس المجتمعات الحية، لا تبقى على حال، فحسن اليوم هو قبح الغد أوالعكس.
إن للسياسة في حياتنا اليوم تقاليد أصبحت عريقة وعادات معروفة يختزلها النظام الديمقراطي الأخد أساسا بالمنظومة العالمية لحقوق الإنسان؛ ولا مناص للإسلام السياسي من تعاطيها كما هي وإلا تنكّر للمعروف وعمل على الأمر بالمنكر. فالإسلام إذا كان دين عبادات ومعاملات، فجانبه الدنيوي لا يعنى بتاتا خلط الشعائر بالسياسة، بل هو بمعنى تفتح الدين لكل ما ثبتت سلامته في الساحة السياسية العالمية من تصرف حكيم عند الأمم المتقدمة علينا شوطا في هذا الميدان.
ولا شك أن الإسلام بتونس، إذا أخذ بمثل هذا التوجه، له أن يحقق فتوحات كبرى، مثل أن يبتكر نموذجا سياسيا جديدا ينطلق من أفضل ما أفرزه العقل السياسي البشري كما نراه حوالينا ليغذيه بروحانية ديننا وأخلاقياته، فلا ينقص منه شيئا بل يتحفه بما فيه من خير يكون تزكية لكل البشر.
تلك هي الفتوحات المكية الجديدة، فتوحات تونسية مغاربية، التي بإمكان بلدنا أن يريها النور لما يمتاز به شعبه من نضج ووعي؛ فهي سياسية تونسية شعبية، وهي مما يفتح الله به على الخاصة من عباده لأجل العامة منهم لعالمية دينه. وحتى يُقدّر لها أن تُتحف الوجود بكنوزها، لا بد للآخذين بزمام الأمور من حداثيين وحلفائهم بحزب النهضة من الخروج من عقيدة عوام المتزمتين بينهم، المتشبثين بنظرة عقيمة سواء كانت للإسلام أو للحداثة اللائكية وقد أفلست في عقر دارها .
لا يكون ذلك فقط بالمرور إلى عقيدة الخواص منهم، بل وأيضا إلى الخلاصة أو حتى خلاصة الخاصة من حزبهم، التي يمثلها في صفوف النهضة مثلا الشيخ مورو، وإن تنكر للبعض منها باسم الواقعية؛ وذلك لأن هذه الخاصة لها، خلافا لمتزمتي الحزب وغلاته، من العلم الحق والقول الصدق في فهم الإسلام ما ذهب عن العموم في النهضة ومن لف لفها.
فليت هؤلاء، رغم قلتهم، يعظوا عامتهم ليتّعظوا بمرارة التجربة الماضية وقساوة ما يمكن أن يأتي إذا لم يغترفوا من فلسفة صاحب الفتوحات المكية ومن البعض من فصوص حكمه؛ ومنها أن العين الوجودية واحدة فلا تختلف إلا بالأحكام، والصلة بين الحق والخلق أو الله والعالم كالصلة بين الواحد العددي وما ظهر عنه من أعداد؛ والحقيقة الوجودية وحيدة في جوهرها وذاتها متكثرة بصفاتها، لا تعدد فيها إلا بالاعتبارات والنسب والاضافات.
يقول ابن عربي أيضا (7) : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها : فما نظرت عيني إلى غير وجهه / ولا سمعت أذني خلاف كلامه. بذلك، فحتى العلم بالسلب هو علم بالله، كما يقول شيخنا في الفتوحات أيضا.(8) ونحن نعمم هنا مفهوم السلب عمدا، إذ الإسلام محجة الحق، والحق كالأفق لا نصله أبدا، بل نداوم المسير نحوه بعثراتنا وأخطائنا، ولكننا نبقى دائما على السبيل السوي رغم كل ذلك، فلا تكفير ولا تهجير، لأن الأفق دوما أمامنا؛ فالحق دوما نبتغي إن شاء الله وقدّر.
هذا إذا هو الإسلام السياسي الذي نريده لتونس، إسلام التسامح والمحبة، الإــــسلام i-slam الذي هو أمن وسلام؛ وتلك هي الفتوحات المكية الجديدة، الفتوحات السياسية التونسية !
الهوامش :
(1) انظر مثلا مقالتي بالفرنسية :
La Tunisie d’après le 23 octobre : Une alliance nouvelle du sabre et du goupillon !
(2) محي الدين بن عربي : الفتوحات المكية، دار الكتب العلمية، بتحقيق أحمد شمس الدين.
(3) راجع مقالي : قراءة باطنية لتداعيات أحداث مصر أو كيف ينجح الإسلام السياسي في تونس
(4) العقل الحسي Raison sensible هو تعبير لميشيل مافيزولي Michel Maffesoli عالم الإجتماع الفرنسي ومن المنظرين الكبار لمابعد الحداثة. أنظر ترجمة كتابه إلى العربية Éloge de la raison sensible للصديق المغربي عبد الله زارو : مزايا العقل الحساس. دفاعا عن سوسيولوجيا تفاعلية، إفريقيا الشرق، المغرب.
(5) في الدعوة لسياسة فهيمة، راجع مثلا مقالي :
Pour une politique compréhensive : Réflexions sur l’imaginaire de l’actuel et du quotidien tunisiens
http://tunisienouvellerepublique.blogspot.fr/2012/04/reenchantement-du-monde-8_2138.html#more
(6) طالع مثلا بالعربية : الشهادة والشهيد في الإسلام يقتضيان الحياة لا الموت
وبالفرنسية :
Le martyre en islam suppose la vie et non la mort
(7) الفتوحات المكية، ج 2، ص 604.
(8) الفتوحات المكية، ج 1، ص 120.
شارك رأيك