بقلم محمد الحداد*
بدأت طبول الحرب تُقرع في ليبيا بصخب، مؤذنة بفتح مستنقع جديد للاضطراب والفوضى في الجزء الغربي مما كان يُدعى بالعالم العربي، وفق سيناريو أصبح معروفاً مسبقاً.
ويتمثّل فصل السيناريو الأوّل في التخلّص من الديكتاتورية التي كانت تقوم مقام الدولة وترك الناس في فوضى من أمرهم إلى أن يعمّ الدمار والعنف وينمو سرطان الدواعش، ثم يبدأ الفصل الثاني بالتدخّل العسكري لمحاربة «داعش» وأخواته، فيتحوّل عدد الإرهابيين من بضع مئات إلى عشرات الآلاف بسبب تعقّد عمليات التدخّل الأجنبي واستحكام عقلية الثأر وقوّة رفض المجتمعات المحلية الحضور الأجنبي والحلول التي يأتي بها. وأخيراً، يبرز الفصل الثالث في شكل إعادة توزيع للخرائط تحقيقاً لنظام جديد من الاستقرار في الشرق الأوسط الكبير، لا سيما مناطقه النفطية.
يمكن لأصحاب المواقف الطوباوية أن يبدأوا بدورهم في قرع طبول التنديد والإدانة للتدخل الأجنبي والاستعمار الجديد والمؤامرات المزمنة، وغير ذلك من الخطابات الوجدانية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وأنا أفضّل أن اقتبس من الشاعر العظيم أبي الطيب المتنبّي بيتاً أحرّفه ليفي بالغرض. فكفى بك داء أن ترى التدخّل شافياً، وحسبك من التدخّل أن يصبح من الأماني.
ذلك أنّ ليبيا لو تركت على حالها الراهنة لانتهت بالضرورة إلى كارثتين على الأقلّ:
أولاهما، تأسيس إمارة داعشية تمتدّ نحو المناطق النفطية وتسيطر على بعض المنشآت الليبية وتصبح قوّة ضاربة لا في ليبيا وحدها بل في المنطقة كلها، تهدّد جيران ليبيا العرب وجيرانها الأفارقة من الجنوب، وتهدّد أيضاً السواحل المالطية والإيطالية القريبة، وهي سواحل مفتوحة على كلّ القارة الأوروبية بمقتضى معاهدة «شنغن» الأمنية.
وثانيتهما، تعميم البؤس والفقر على كلّ الليبيّين، إذ يوجد حالياً حوالى مليونين منهم من دون موارد، أما البقية فيتسلّمون رواتب شهرية من المصرف المركزي، وهذه الرواتب متأتية من بيع النفط الليبي. بيد أنّ إنتاج هذا النفط ما فتئ يتراجع إلى أن بلغ حالياً أقلّ من الربع بالمقارنة بفترة حكم القذافي، بينما نزل السعر العالمي لبرميل النفط الى أقلّ من الثلث بالمقارنة مع الفترة نفسها، وهذا يعني أنّ الجزء المتبقّي من الليبيين مهدّد بدوره بفقدان موارد رزقه في القريب، علماً أنّ النفط يمثلّ المورد شبه الوحيد للاقتصاد الليبي.
ويمكن أيضاً لأصحاب المواقف الطوباوية أن يردّدوا الخطاب المشهور بضرورة ترك الليبيين يحلّون مشاكلهم بأنفسهم، وهو خطاب جميل وجذاب على المستوى العاطفي، لكنّه لو كان قابلاً للتحقيق لوجد سبيله للتنفيذ أثناء السنوات الخمس الماضية، وقد فشلت فيها الأطراف السياسية الليبية فشلاً ذريعاً في التوافق، ودفع الشعب الليبي ثمناً باهظاً لصراعاتها ومزايداتها على بعضها البعض، لا سيما مزايدات الإسلاميين الذين أفرغوا ليبيا من كفاءاتها، وقد كانت محدودة أصلاً، بقانون العزل السياسي الذي فرضوه سنة 2013.
وقد نشأت في ليبيا ثلاث حكومات، واحدة في طبرق والأخرى في طرابلس والأخيرة في المنفى، وثلاثتها لا تكاد تسيطر مجتمعة على أكثر من نصف مساحة البلاد، أما الباقي فيخضع لسيطرة القوى المحلية والميليشيات التي لا تعدّ ولا تحصى. سيناريوات التدخّل محاطة بتكتّم شديد، والسيناريو الذي قد يكون الأرحم لليبيين ولجيرانهم هو الذي يقوم على مجموعة من العمليات المحدودة تتمثل في القصف الجوّي المكثف لتجمعات «داعش» لمنعه من تكوين إمارة متماسكة وإبعاده من المناطق النفطية، ثم إقامة نوع من «المنطقة الخضراء» في طرابلس تؤمّنها القوات الدولية لتحتضن حكومة السرّاج التي تشكلت برعاية الأمم المتحدة وحدّاً أدنى مما يمكن تسميته دولة ليبية. وهذا السيناريو لن يحلّ مشاكل البلاد، لكنه قد يساهم في تحقيق حدّ أدنى من الاستقرار يمكّن بعد سنوات طويلة من إعادة تشكيل البلاد وفق نظام شبه فيديرالي أو ربما تقسيمه بأقلّ ما يمكن من العنف. لكن ثمة أيضاً سيناريوات أخرى ممكنة قد تؤدّي إلى أوضاع كارثية في ليبيا وفي دول الجوار.
تنظر دول الجوار هذه بفزع الى ما يحدث في ليبيا. فمصر تعاني من الضغط الإرهابي شرقاً، وتتّهم «حماس» بدعمه، وقد تصبح حدودها الغربية معرّضة لضغط من القبيل نفسه بدعم من «الإخوان المسلمين» في ليبيا وبقية فصائل الإسلام السياسي، فضلاً عن «داعش» و «القاعدة». لكنّ حظوظ مصر في حماية حدودها الغربية وافرة، بسبب الطبيعة الجغرافية لهذه الحدود ومراهنة مصر منذ سنوات على دعم العقيد خليفة حفتر وقواته التي تمثل نوعاً من المنطقة العازلة على هذه الحدود.
أما الجارة الثانية تونس فستواجه حركة مكثفة للجوء، على غرار ما حصل سنة 2011، مع فارق أنّ القادمين هذه المرّة تغيّرت أوضاعهم المادية والنفسية بعد سنوات من العنف والتطرف الديني والبؤس الاجتماعي. ويضاف إلى ذلك، إمكان استغلال الوضع من الإرهابيين التونسيين المقيمين في ليبيا أو العائدين إليها من سورية للدخول إلى تونس واستعادة نشاطاتهم الإرهابية فيها. وستؤدّي موجات اللاجئين إلى ارتفاع الأسعار وتوجيه الضربة القاضية الى النشاط السياسي المحتضر، بما يعمّق الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها البلد حالياً. كما أنّ «داعش» سيوجّه عملياته الانتقامية نحو تونس التي تتهمه بالضلوع في الإعداد للتدخل العسكري.
وتتمتع الجزائر بجيش قويّ ومتدرب على مواجهة هذا النوع من الأزمات، لكن ذلك يتطلب أوّلاً وضعاً سياسياً مستقرّاً ومنسجماً يسمح للجيش بالتفرّغ لمهمة حراسة الحدود، ويفترض ثانياً أن لا توجد نوايا مبيتة للنيل من استقرار الجزائر عبر البوابة الليبية. وهذه من العوامل التي لا يمكن التنبّؤ بها أو استقراء معلومات ذات مصداقية حولها.
ومن المستبعد أن يبدأ التدخل العسكري في القريب العاجل، لأسباب ليس أقلها توافر العوامل المناخية الملائمة للقيام بضربات جوية دقيقة. ولو نجح الفرقاء الليبيون في الوصول إلى حدّ أدنى من الوفاق، فسيكونون أقدر على التحكم في مسارات الأحداث والتأثير في قرارات الدول الغربية، بل ربما الاستفادة من التدخل العسكري للتخلص من تهديدات «داعش» وتأمين المنشآت النفطية الليبية. وإذا ما عجزوا عن تحقيق ذلك، وهذا المرجّح، فسيتحمّلون المسؤولية الأخلاقية والتاريخية للتدويل العسكري للأزمة الليبية والإضرار بمصالح الشعب الليبي وشعوب الجوار، والدخول بالمنطقة في وضعية معقّدة ومفتوحة على كلّ أنواع الاحتمالات والأخطار. فكأنها آنذاك مأساة العراق تستعاد من الجانب الغربي مما كان يُدعى العالم العربي.
- الدكتور محمد الحداد، استاذ الديانات المقارنة بالجامعة التونسية.
شارك رأيك