بقلم فرحات عثمان
عهدنا السياسة ماكيافيلية حسب فهمها العتيق، أي أنها هذه الحلبة التي يجب أن يلعب السياسي فيها في نفس الوقت دور الأسد باستعراض عضلاته ولو كذبا والثعلب بأن يتحايل أكثر من غيره.
وقد نجح إلى حد الآن حزب النهضة في هذه المخاتلة إلى حد أنه توصل، رغم مرجعيته الدينية، إلى استعمال الخداع كسلاح فتاك معتمدا على مقولتين لهما فقهيا البعض من الصحة في حالات معيّنة، ألا وهما أن الكذب يجوز في المصالح وأن الحرب هي الخدعة.
إلا أننا سنبين هنا بما لا يترك أي مكان للشك أن هذا التفكير والتعليل ممل أكل عليه الدهر وشرب، وأن حزب النهضة اليوم أمام الضرورة القصوى لرفع التحدي الذي تمثله هذه المقالة، وإلا بيّن بجلاء أنه لا يستحق الديمقراطية وأن مكانه خارج الساحة السياسية في بلدنا.
أما إن تجرأ ورفع هذا التحدي، وهذه أمنيتنا بكل صدق ونزاهة، فيكون ذلك منه أكبر الدليل عي أنه بحق المحور الذي ستُنبى حوله تونس الغد والأس الذي تقوم عليه السياسة ببلدنا في تذرها الحيوي أخذا بكلمة السواء التي هي الإسلام.
فهل ترفع النهضة هذا التحدي الأنطولوجي الذي ليس هو إلا التدليل على علة وجودها؟ سنعود للتحدي في آخر المقالة بعد التذكير ببعض البديهيات السياسية والدينية في نفس الآن دحضا لمزاعم المتزمتين من أهل الإسلام السياسي الذين لا يأخذون إلا بالإسرائيليات، لا بالإسلام، في طروحاتهم المتهافتة.
لا يجوز الكذب باسم الدين :
باديء ذي بدئ، لا بد من التذكير أن الإسلام هو دين النية الصافية والصدق وعدم المراءاة؛ وهذا ما لا يفعله حزب النهضة إذ يمارس الكذب كما يتنفس.
طبعا، هو في ذلك يتعلل بأن الكذب من السياسة، خاصة وأن الكل يكذب فيها حاليا؛ ثم هو يقول أن الدين يجيز الكذب للمصالح، أي أنه من الكذب الأبيض. وهذا من الخور الذي ما بعد خور، إذ أن الإسلام هو أولا وقبل كل شيء التأكيد على ضرورة إعطاء المثل وإتمام مكارم الأخلاق؛ ألم يكن الرسول على خلق عظيم؟
فهب أهل السياسة كلهم في تونس من المداهنين؛ هل تكون النهضة مثلهم؟ أي شيء يمّيز عندها الدين عن غيره من الأيديولوجيات؟ وهب الساسة بلا أخلاق، ماذا يميّز أهل الإسلام عندها عن غيرهم ممن لا يحرتم الأخلاق ولا يصدق في قوله، لا يفعل إلا ما يقول ولا يقول إلا ما يفعل؟
لنأخذ هنا مثالا بسيطا لأنه من تلك الأمثلة التي تتعرض لهذا المسكوت عنه الذي نرفض عادة الخوض فيه رغم ما فيه من مضرة وخيمة، لا فقط لضرورة المعيش المشترك، بل وأيضا للدين في أهم ما فيه، ألا وهو العدل إذ الإسلام دين العدل أولا وقبل كل شيء؛ ففي العدل التسسليم لله والإقرار بوحدانيته، بما أن الله هو العادل في تصريف أمور خلقه.
هذا المثال هو موضوع الاعتراف بالمثلية كفطرة جعلها العلي القدير في البعض من خلقه، ولا راد لقضاء الله؛ فكيف باسم الدين نرفض لهؤلاء ما اختاره الله لهم من طبيعة، فنحكم عليهم بالفساد، بل وبالسجن أو حتى القتل؟ أين العدل الإسلامي؟ (1)
ولنا عودة لهذه المسألة بآخر المقالة مع الدليلين العلمي والشرعي الذي يقتضي إبطال تجريم اللواط في الإسلام، ناهيك في تونس المسلمة؛ إلا أننا الآن ندحض الجانب الثاني من خور أهل الإسلام السياسي الحالي القابل للخدعة غي السياسة، جاعلا منها حربا عقيمة لا ساسة فهيمة.
لا تجوز الخدعة في السياسة :
إذا كنا محقين، وليس لأحد أن يشكك في ذلك، أن الإسلام لا يقبل بالظلم، إذ هو العدل قطعا، فهل نغلط في القول أنه لا يُجيز الخدعة؟
هناك من جن السياسة من يتجرأ على الإسلام بأن يجيز الخدعة انطلاقا من إجازتها فقهيا في الحرب؛ إلا أن السؤال الذ يغض هؤلاء المردة عنه النظر هو الآتي : هل السياسة هي حقا الحرب؟
لنفرض أنها كذلك؛ أفليست هي معنوية لا مادية؟ هل ننزل للشوارع للتقتيل والإفساد؟ متى كان الإسلام يجيز الإفساد في الأرض، أليس هو الصلاح والإصلاح؟
نعم، لعل بعض الخلايا المستعصية كالقروح تتطلب قبل المداواة رفع بعض الإهاب من البدن، أي ما نخر فيه من النسيج الحي؛ ولعل هذا يهم سياسيا من لا يرى مكانا لحزب إسلامي بتونس من اللائكيين المتعجرفين، بينما سوسيولجيا البلاد تقتضي ذلك.
بل حتى الفهم الصحيح للائكية يقتضي وجوب الحزب الإسلامي بتونس، إذ اللائكية، حسب الاشتقاق، هو ما يهم غالبية الشعب، وهذه هي حال الإسلام لتجذره بتونس. إلا أن من الخطأ، انطلاقا لرفض الآخر للإسلام، رفض هذا الطرف مطلقا، إذ بذلك لا نأتي إلا بخوره، بينما تقتضي السياسة الفهيمة الحكيمة أن نقبل ببعضنا البعض رغم اختلافاتنا؛ هذه هي روح الديمقراطية.
ذلك أولا. ثم ثانيا، علينا معرفة أن الإسلام التونسي ليس هو ما عرفناه من تزمت أعرابي لقراءة الدين الحنيف،(2) إذ الدين أولا، وهو كذلك في تونس، ثقافة قبل أن يكون شعائر، خلافا لما شاع من أخذ بفهم غير إسلامي لتعاليم ديننا السمحة جعلت منه دين العسر والكراهة ونبذ الآخر، ملة الرهبوت والنقموت، بينما هو دين المحبة والتسامح والمغفرة والرحمة. أفليس الله الرحمان الرحيم؟
إن الدعدشة الحالية التي نراها تنخز الألباب وتتمكن من الأذهان لهي من رواسب الإسرائيليات في دين القيمة، ولا بد من رفعها، ولا يكون ذلك إلا بالعدل، إذ تعاليم دين العدل إعطاء المسلمين، كل المسلمين، حقوقهم المشروعة أيا كان سلوكهم، خاصة في حياتهم الخاصة.
ولا شك أن هذه يبدأ بالكف عن استعمال الدين كسلاح مشرّع ضد كل من هب ودب، لا فقط من يرفض الإسلام في لائكيته المغلوطة، بل وأيضا من يذب عنه إعلاء لقيمه الصحيحة، مذكرا بها كما نفعل هنا، لا كأعدائه من الطابور الخامس ممن يتاجر بالدين لغايات دنيئة في نفسه ولمصالحه الدنياوية.
فذلك من زخرف الحياة الدنيا الذي أفسد ما سبق الإسلام من رسالة توحيدية. ففي الإسلام، لا ذنب حقا إلا الإشراك بالله؛ أما النفاق والعصيان، مع التستر، فهما مما على المسلم تزكية نفسه عنهما بمجاهدتها، وذلك هو الجهاد الأكبر، وبالأخذ بتعاليم الدين الحنيف والمثل الطيب لأهله الحقيقين الذين يسلم الناس من أيديهم وألسنتهم. بذلك غزا الإسلام القلوب وتمكن منها كثقافة علمية عالمية، لا كمجرد شعائر كما يريده من يبتغي له الشر لإعادته غريبا كما بدأ.
علة وجود النهضة بتونس :
لا أحد يعترض إذا قلنا أن اللائكية المغالية في فهمها للدين السياسي هي التي تغذي اليوم ما نراه من تطرف عند الإسلاميين باسم الدفاع عن النفس؛ إلا أن هذا أصبح حقا التلاعب بالسياسة من جهة وبالدين من جهة أخرى.
فالتلاعب السياسي هو في رفض تجذر التونسي في محيطه الروحاني وهو دينه وفهمه على حقيقته، أي أنه يقر بالتفريق بين الدين والدنيا، إذ الأول للحياة الخصوصية والثاني لا دخل للدين فيها.
وهذه هي المدنية كما أقرها الدستور التونسي؛ (3) فمتى العمل بها من طرف أهل الإسلام وتابعيهم في كل تجليات الدين العمومية التي لا مجال لها للدين إذ مجاله الأوحد الحياة الخصوصية؟ ألم يحن الوقت للترشد والكف عن التلاعب بالدين؟
وألم يحن لرفع ما يشين الدين في قوانيننا وهو لا يمت بصلة إليه، إذ ينقض أساسه، وهو العدل والإنصاف؟ مثال ذلك، كما كنا بيّنا هنا، العدل بين الجنسين في الميراث (4) أو الكف عن التدخل في الحياة الحنسية للمؤمنين .(5)
مثال ذلك أيضا حقيقة اللواط في الدين والدنيا. فقد برهن العلم بما ليس فيه أي شك أن المثلية ليست مرضا، لا أخلاقيا ولا نفسيا ولا عضويا؛ وقد كان هذا موقف الإسلام منذ البداية قبل أن تغير ملامحه تأويلات فقهية اجتهدت لزمن كانت للإسرائيليات فيه التأثير الفاحش على حملة العلم من أهله كما بيّن ذلك العلامة ابن خلبدون.
هذا هو الذي جعل الفقه الإسلامي يقول بتحريم اللواط في الإسلام متجنيا على دين كان سباقا قبل العلم والحضارة الغربية في الاعتراف بحقوق المثلي.فقد بين الباحثون النزهاء أن القرآن والسنة الصحيحة لا يمنعان اللواط. ذلك لأنه ليس في الإسلام أي تحريم إلا بنص صريح، وإلا فالقاعدة هي التحليل؛ فلا وجود في القرآن بخصوص قوم لوط إلا القصص التي تذكر بمنع صريح للواط في الكتاب المقدس، جاء الإسلام فصححه ورفع المنع.
رغم ذلك، تم تأويل تلك القصص التي ليست أحكاما من طرف الفقهاء حسب متخيلهم اليهودي المسيحي وحسب ما كان موجودا ومتعارفا عليه في الكتاب المقدس وفي مجتمعهم، مما لم يثبته العلم عندها أنه من الطبيعة البشرية كما اعترف بها ديننا الحنيف فكان سباقا في ذلك بنظرة علمية عليمة لما في تعاليمه من أزلية.
إن علة وجود النهضة اليوم في هذه الفترة العصيبة من تاريخ تونس ليست في تقليد ما نراه بالشرق من قراءة متهاوية ومتهافتة للدين، بل العودة به إلى منابعه الصحيحة؛ وهذا يقتضي من أهل هذا الحزب الجرأة على القطع مع ما يسمّى جزافا القطعيات في الإسلام والكلام في المسكوت عنه من الظواهر الإجتمعاية.
من ذلك حتما موضوع رفع تجريم المثلية لرمزيتها في القبرل بالآخر المختلف، مما سيبرهن بدون أدنى شك عن نضج النهضة لحتمية مرحلة الإسلام السياسي الديمقراطي؛ فلم لا يكون لتونس حزبها الإسلامي الديمقراطي كما للغرب أحزابه المسيحية الديمقراطية؟
هذا سيكون بدون منازع محور المؤتمر القادم للنهضة؛ إلا أنه يكون أيضا الدليل الكبار على صدق نيتها أن تعرض اليوم وبدون تأخير المشروع الموالي لقانون يبطل الفصل 230 جنائى، وهم من قوانين الاحتلال الفرنسي؛ وقد كنت عرضته عى كل السلط التونسية وعلى جميع النواب بالبرلمان منذ مدة بما فيهم نواب النهضة. (6)
فهل أفضل رمزية من تبني عشرة نواب من حزب النهضة هذا المشروع الذي نذكر هنا بنصه فيسعون للتصويت عليه بالمجلس كدليل على حسن نيته في العمل على تكريس الديمراطية بتونس أخذا بتعاليم الإسلام الصحيحة وبروح نصوصه وعدله؟ فرغم عرض المشرع على الرزي العام منذ مدة. لم يتجرأ على العمل به أيا ممن يدعون الديمقواطية والنافحة عن حقوق المثلية نظرا لما فيه من إشارة للإسلام؛ وهذا مما يفعاب على المنافحين عن حقوق الإنسان ؤذ هم يعتلون بها للتهجم على الإسلام وهو الدين الذي شـّرع لحقوق الآنسان في زمن لا حقوق للإنسان فيه. (7)
هذا، ولنختم بالتذكير أن الشيخ الغنوشي كان صرح للإعلام الغربي أنه لا يرى مانعا في إبطال الفصل 230 من القانون الجنائي لما فيه من مخالفة لروح الإسلام الذي يؤكد على احترام الحياة الخصوصية. فهذا ما يبّينه هذا المشروع المتزن الذي رفض اللائكينن تقديمه. فهل تفعل النهضة ذلك للبرهنة على حقيقة علة وجودها بتونس وتكف عنا المراوغة والإضرا بالدين والسياسة طرا؟ وهي بذلك تخدم الدين الإسلامي أخذا بمقاصدة السنية فتبين الفهم الصحيح الذي على المسلم اليوم تأويل قصص قوم لوط كما ثبت ذلك عند أهل الكتاب اليوم. (8)
مشروع قانون في إبطال تجريم المثلية
حيث أن كراهة المثلية مخالفة لحقوق الإنسان في حياة مجتمعية آمنة، وهي أساس الديمقراطية؛
وحيث أن التوجه الجنسي للبشر من حياتهم الخصوصية التي تضمن حريتها دولة القانون والإسلام؛
وحيث أن الفصل 230 من القانون الجنائي يخرق الإسلام وينتهك تسامحه، إذ لا كراهة فيه للمثلية لاحترامه لحرمة الحياة الخاصة للمؤمن وضمانه التام لها؛
فإن مجلس نواب الشعب يقرر ما يلي :
فصل وحيد
نظرا لأن الحياة الخصوصية محترمة ومضمونة دستوريا بالجمهورية التونسية، لذا، أُبطل الفصل 230 من القانون الجنائى.
هوامش :
(1) و(2) فصل الكلام في المثلية عند العرب والأمازيغ وحلّيتها في الإسلام
(3) مفهوم الدولة المدنية بتونس
(4) ضرورة التعجيل بالمساواة في الإرث بين الجنسين
(6) رسالتي لمجلس نواب الشعب بخصوص مشروع قانون في إبطال تجريم المثلية
(7) حرب المثلية ببلاد الإسلام… كيف تؤكل الكتف
شارك رأيك