بقلم الكتور محمد الحداد *
لم تكن الغارة الجوية التي شنّها الطيران الأميركي على مخيم إرهابي بمدينة صبراته الليبية، في 19 شباط (فبراير) الماضي، بداية التدخّل العسكري في ليبيا، كما ظنّ البعض آنذاك. وإنما كان الهدف من الغارة منع عملية إرهابية وصفت بأنها خطيرة على تونس، لكنّ العملية نفّذت مع ذلك في بداية هذا الأسبوع، وفي الموقع الذي كان مقرّراً لها، أي مدينة بنقردان التي تمثل المعبر الرئيس بين تونس وليبيا.
كانت الغارة الأميركية قضت على حوالى أربعين من المجموعة التي كانت تستعدّ للعملية، ومكّنت من العثور على وثائق مهمة تكشف مخططاتهم، لكن ذلك لم يكن كافياً، إذ إنّ جزءاً من المجموعة كان دخل تونس قبل فترة، والأسلحة والمعدّات خُبّئت في مخازن سرية داخل المدينة، والخلايا النائمة متوثبة لاستقبال المجاهدين وإعلان الإمارة الإسلامية الأولى على الأراضي التونسية. واصطدمت القوى الأمنية التونسية ببعض العناصر في 2 آذار (مارس) وقضت على خمسة منهم واكتشفت مخابئ للأسلحة، لكن ذلك لم يكن كافيا أيضاً، إذ يقدّر أن أفراد المجموعة يتجاوز عددهم المئتي عنصر، إضافة إلى المكلّفين الإسناد.
السؤال المطروح هو الآتي: كيف تمكّنت المجموعة الإرهابية من إطلاق عملية الاستيلاء على المدينة على رغم انكشاف أمرها؟ هل هذا دليل قوّة أم دليل تهوّر من الإرهابيين؟ وهل هو مؤشر عجز من السلطات التونسية ومن الجهة الأميركية الداعمة؟
الجواب عن هذا السؤال يتطلب مراعاة أربعة جوانب أساسية في المسألة:
أوّلاً، إن الطريقة التي اعتمدتها المجموعة لمحاولة السيطرة على المدينة وإعلانها إمارة إسلامية أضحت معروفة منذ ظهور «داعش»، وحققت نجاحات مذهلة في العراق وسورية، لكنّها لم تنجح حتى الآن في أي بلد يتمتع بالقدر الأدنى من استقرار أجهزة الدولة، وأساساً الجيش والأمن. لذلك، لم تكن عملية بنقردان تستهدف تونس وحدها وإنما مثلت أيضاً اختباراً للوصفة «الداعشية» لإقامة الإمارات الإسلامية في بيئات يمكن وصفها بأنها نصف مستقرّة، كما حال الجنوب التونسي، حيث حضور الدولة مستمر وإن كان ضعيفاً ومرتبكاً. وثبت مجدّداً أن وصفات «داعش» القتالية لا تنجح إلا في ظلّ انهيار الدولة.
ثانياً، تمثل عملية بنقردان محاولة الاستيلاء الثانية على مدينة تونسية في الفترة المعاصرة، وتعود المحاولة الأولى إلى 1980، عندما قامت مجموعة من التونسيين، متسللة من ليبيا أيضاً، بالسيطرة على مدينة قفصة الجنوبية، ونجحت في احتلال أجزاء منها لأيام عدّة، وتطلّب القضاء على هذه المحاولة أسابيع، على رغم أنّ الدولة آنذاك، في عهد الرئيس بورقيبة، كانت أقوى مما هي عليه الآن. ومن هنا، فإنّ دحر محاولة الاستيلاء على بنقردان، في ظرف أصعب، وبالنظر إلى أنها مدينة أصغر حجماً وأقرب إلى ليبيا، يعتبر إنجازاً ضخماً للجيش والأمن التونسيين، إذ تمّ إفشال المحاولة منذ اللحظات الأولى وتمت السيطرة على الأوضاع في أقلّ من يومين.
ثالثاً، كان مخطّط الاستيلاء على المدينة قائماً على اغتيال المسؤولين الأمنيين الرئيسيين والسيطرة على ثكنة الجيش وثكنة الحرس الوطني، وأصرّت المجموعة على المضيّ قدماً في العملية على رغم انكشاف أمرها، لأنها أدركت أن خط الرجعة إلى قواعدها في ليبيا مقطوع، والاختفاء طويلاً داخل المدينة غير ممكن، فلم يبق لها إلا الهروب إلى الأمام، وكان ذلك أحد أسباب خيبتها. لكن في الأثناء، يتبيّن من خلال الأحداث حجم الاختراق الحاصل في المدينة، فقد اغتيل كبار المسؤولين الأمنيين في منازلهم فجراً، وهُيّئ الكثير من المنازل المحيطة بالثكنتين لتخزين الأسلحة واختفاء الإرهابيين، واستعمل أحد المساجد ليكون نقطة انطلاق، كلّ ذلك في مدينة صغيرة ذات عمران بسيط يسكنها بضعة آلاف من السكان يعرف بعضهم بعضاً.
ومدينة بنقردان مدينة حدودية عاشت على مدى قرون على هامش الدولة، مستفيدة فقط من حركة العبور بين تونـس وليبيا، ودفــع ذلك بعض أبنائها إلى الانخراط في الجماعات الإرهابية، إلّا أنّ الالتحام البارز بين الجزء الأكبر من سكانها وقوات الجيش أثناء المواجهات كان له دور كبير في صدّ محاولة الاستيلاء. وهذا المعطى يطرح على الدولة مهمة وطنية وأخلاقية ويحتم عليها التعجيل بمساعدة المدن الفقيرة والمهمشة وتأكيد ارتباط سكّان هذه المدن بالوطن.
رابعاً، لم يكن الأداء السياسي في مستوى الحدث وفي قيمة الانتصار العسكري نفسه، لا سيما من أحزاب الائتلاف الحاكم التي اجتمعت لإصدار بيان سخيف كان محلّ سخرية من التونسيّين. كما أنّ القرار السيادي التونسي في المجال الأمني أصبح مرهوناً بالمساعدة العسكرية والاستخباراتية الأميركية، مثلما أصبح القرار السيادي الاقتصادي تابعاً لإملاءات صندوق النقد الدولي. فمن الواضح أن الطبقة السياسية لا تحسن غير الكلام، وأنها منغمسة في تحصيل المغانم من السلطة أكثر من السعي لمواجهة التحديات المطروحة برؤى واستراتيجيات واضحة المعالم. ويبقى استبسال أفراد الشعب وقوات الجيش للمحافظة على وطنهم خطّ دفاع رئيسياً، فقد كان معبّراً أن يرفض بعض أبناء المدينة استقبال وفود الأحزاب إلى مدينتهم بعد نهاية الأحداث، وأن تتم الجنائز من دون حضور رسمي، وأن لا تطلب أُسر الضحايا مساعدات أو تعويضات مقابل تضحياتها.
لا يمكن الإرهاب أن يبلغ مرحلة التمكين أمام وجود دولة، ولو كانت في حالة ضعف. لكن وجود الدولة يقتضي أيضاً دمج كلّ مواطنيها في صلبها. إنها معادلة بسيطة ينبغي أن تتحقّق على أرض الواقع. وكثيراً ما يكون المواطنون أحرص على تحقيقها من الذين عهد إليهم بإدارة الدولة، لا سيما إذا ما قدّموا أرواحهم ثمناً لهذه المطالبة.
شارك رأيك