بقلم الدكتور الطاهر لبيب*
1- الخوف لازَم الإنسان دائماً. ولو لم يَخَف الإنسانُ لانقرض. الخوف كحالة نفسية فردية أو جماعية ناتجة عن مواجهةِ أو تهديدِ خطرٍ حقيقي أو مُتخيَّل هو من غريزة البقاء.
إنه، من هذه الوجهة، ظاهرة كونية قديمة قدم الإنسان. الأدبيات الكلاسيكية تناولته، بهذا المعنى، من الفلسفة إلى التحليل النفسي الحديث، مروراً بالميتولوجيا وبالأديان وبأصناف الإبداع الأدبي والفنّي. وهو له في نصوص التاريخ وفي التراث الشعبي “مِحَنٌ” كثيرة.
ما جدَّ من حديث عن ثقافة الخوف يشير إلى نقلة نوعيّة، غير مسبوقة، يمكن وصفها، إجمالاً، بأنها انتقالٌ من الخوف إلى التخويف. هذا الانتقال وازاه، في العلوم الاجتماعية، انتقال من موضوع المخاطر (risques) إلى ثقافة الخوف (والخوف من الخوف). حدث هذا، تحديداً، مع اتخاذ الإرهاب بعداً عالمياً في الخطاب السياسي وفي المخيال الجماعي.
المخاطر كان منظوراً إليها على أنها من قبيل ما يُحتمل وقوعُه بصورة منتظرة أو غير منتظرة. لذلك كان الخوف منها قابلاً للتخطيط، إن صح التعبير، إذ هي موضوع حمايةٍ مطلوبة. قطاعات كثيرة من الحياة الاجتماعية تم رصد مخاطرها، من زوايا مختلفة: اجتماعية، ثقافية، اقتصادية، بيئية، الخ… لكن أبرز المخاطر التي تم تحليلها بعمق كانت تلك المتأتّية من التحوّلات التكنولوجية. كان ذلك، مثلاً، في كتاب عالم الاجتماع الألماني ألريش باك “مجتمع المخاطر” (1986)[1] الذي رأى فيه أن المجتمعات الغربية، بعد أن بَنت حداثتها وصاغت المفاهيم والقيم المرتبطة بها – ومنها التقدم – أصبحت تعيش خوفاً من مخاطر التقدم. إنها مفارقة التقدم الذي يواجه المخاطر بإنتاج مخاطر أخرى. قبل ذلك، سنة 1968، كان الفيلسوف هابرماس قد نشر كتابه الشهير عن “التكنولوجبا والعلم باعتبارهما أيديولوجيا”[2]. وقد ضمّنه نقداً قوياً للبراغماتيّة وللتكنولوجيا أفضى به إلى اعتبارهما يهددان الديمقراطية في المجتمعات الصناعية المتقدمة. وأخيراً أصبح “مجتمع المخاطر” عنوان مؤلفات[3]. من المفروغ منه أن صور الخطر تتضمن الخوف ولكن الهدف كان التوعية بالمخاطر – كما كان يقال – أكثر مما كان تخويفاً منها. منذ الحرب العالمية الثانية كان مفهوم التوعية هو الغالب، بما في ذلك التمييز بين الوعي والوعي الزائف أو بين الوعي التجريبي والوعي الممكن.
لا شك أن العالم دخل القرن الواحد والعشرين خائفاً، أو هكذا هي صورته كما أُريدَ لها أن تنتشر. الانتقال من التوعية بالمخاطر إلى التخويف منها ومما يُخترع من صورها كانت له نصوص مؤسسة أبرزها ما صاغه هنتنغتون في مقاله (1993) ثم في كتابه عن “صدام الحضارات” (1996)[4]. وهما، في الجوهر، نداء إلى الحرب ضد عدوٍّ مخيفٍ، “رهيب”. ثقافة الخوف فيهما تعني ثقافة العداوة. المقولة الأساسية هي أن السياسة (وهي، أولاً، أمريكية) تقتضي معرفة العدو، أي معرفة من يجب أن نخاف منه. البقية معروفة: العدو هو الإسلام “ذو الحدود الدموية” (ومعه الصين). وبما أن هذا العدو “حضاري”، وبالتالي غامض وشاسع، فإن الخوف منه لا يمكن إلا أن يكون خوفاً بلا حدود!
ظهرت ردود فعل كثيرة على مقولات هنتنغتون، منها الاستنكارية العربية ومنها التحليلية[5]، ولكنّ ثقافة الخوف من العدو – وامتداداً، الخوف من كل شيء، تقريباً، – بدأت تستوقف بعض الباحثين في العلوم الاجتماعية. بعد “مجتمع المخاطر” بدأ الحديث عن “مجتمع الخوف”[6]. هذا إضافة إلى لقاءات علمية بدأت تتكاثر، في أوروبا وأمريكا، عن جوانب مختلفة من ظاهرة الخوف الجديد: تحليلية نفسية، سيميولوجية، سياسية، الخ… تقليدياً، كانت العلوم الاجتماعية تتناول خوف السلط منها، باعتبارها مقاربات تعرّي الواقع، وهي الآن تستوعب الخوفَ موضوعاً، وقد تستبطنه.
ثقافة الخوف مرتبطة بالتخويف. إنها محصلةُ عمليةِ التخويف الذي تعتمده السلطة (وهي سلط متنوعة) في تعميم المخاوف الحقيقية أو الوهمية بين الناس وفي تضخيمها إلى الحد الذي لا يرون معه من يحميهم منها غيرَ السلطةِ ذاتها. هذه الثقافة لها محطاتها القديمة والحديثة: الأنظمة والسلط التي زرعت الرعب وتلك التي لا تزال تزرعه في فضاء سلطتها كثيرةٌ ولها أوصاف مصنّفة: استبدادية أو تسلطيّة، شمولية أو دكتاتورية، الخ… وهي كلها أوصاف تعني القدرةَ على توزيع الخوف والكفاءةَ في توزيع العقاب.
2- ما الجديد إذاً؟ تنوعت، عبر التاريخ، مصادر الخوف حسب المجتمعات والثقافات، ومن الممكن، نظرياً، تحديد أنماط الخوف المرتبطة بالمراحل التاريخية الاجتماعية، سواء كان ذلك على صعيد التطور العام للتاريخ أو على صعيد تطور المجتمعات. نمط المرحلة الراهنة من ثقافة الخوف هو نمط جديد لتلازم أربع خصائص تلازماً غيرَ مسبوق:
الخاصية الأولى تحويلُ الخوف من السلطة الحاكمة إلى مخاطر خارجية أو خارجة عنها، بحيث يصبح التخويف من واجبات الدولة، حمايةً لمواطنيها. إنها تريد أن تخيف بدون أن تكون مصدر خوف. وهي لذلك تعتبر نفسها، في نهاية الأمر، في خندق واحد مع المواطنين في مواجهة خطر قريب أو بعيد، حقيقي أو متخيّل.
الخاصية الثانية أنّ تبادل التخويف أو “توازن الرعب” لم يعد، في المقام الأول، بين الدول وإنما بينها، منفردة أو مجتمعة، وبين حركات غير حكوميّة متنوعة بعضها يُعتبر “إرهابياً”. وهكذا فإن الدول التي قد تختلف أو تتعارض سياساتها ومصالحها تتّجه – طوعاً أو كرهاً – إلى الاشتراك في خوفٍ واحد وإلى تقاسم العمل في مواجهته.
الخاصية الثالثة – وهي نتيجة لما سبق – هي اندراج التخويف في نظام عالمي للخوف. ليكن هذا الأمر واضحاً: لقد طفا مفهوم ثقافة الخوف، بمضمونه الحالي، وطفت المفاهيم والصور المرتبطة به في سياق “مكافحة الإرهاب” التي أرادت الولايات المتحدة أن تكون مكافحتُه عالمية. هذه هي بداية عولمة الخوف. وقد اكتشفت الشعوب معها، فجأةً، أنها خائفة أو أنه يجب أن تخاف. في الوقت نفسه، اكتشفت الأنظمة المخيفة أنه بإمكانها تحويل مصادر خوف الشعوب إلى الخارج أو إلى ما هو خارج عن إرادتها، وبالتالي عن سلطتها. وهكذا لم يعد تسلطها قمعاً وإنما أصبح حماية.
الخاصية الرابعة هي وصول الإرهاب – وله أشكاله التاريخية – إلى مرحلة تهديدِ قوىً كبرى كانت تحتكر التهديد. لم يُسمَّ التهديد إرهاباً، ولم تُعتمد هذه التسمية دولياً، إلاّ عندما وصل إلى هذه المرحلة. “القاعدة” نفسها لم تكن تحمل هذا الاسم في وقت سابق عندما كانت معبّأة ضد الشيوعية. كانت “مجاهدة”. الإرهاب، إذاً، كان “المنشّط” الذي ربط بين مقوّماتِ ثقافةِ الخوف. تبادل الخوف معه هو المعادلة الأكثر استعصاءً في اتجاه تفكيك هذه الثقافة، محلياً وعالمياً.
الحديث عن ثقافة الخوف ليس، إذاً، حديثاً عن خوف في المطلق ولا حديثاً عن أشكال تقليدية لتخويف السلطة الناسَ منها وإنما هو حديث عن نقلةٍ نوعية وعن ظاهرةٍ غير مسبوقة على الصعيد العالمي. وإذا كان من البديهي القول بأن العولمة لها مخاطرها ومخاوفها – وهذا ما يتردد قوله كثيراً – فإن الأهم هو افتراض أن يكون التخويف، أي صناعة الخوف وتعميمه، من آليات العولمة أو من حواملها: إن ما قد يعتبره البعض من مخاطرها تهون استساغته ويهون تبريره في أوضاع الخوف وتحت سلطته.
3- التخويف هو من آليات الصراع، إجمالاً، ومن آليات الصراع على السلطة، بوجه خاص. وهو، بهذه الصفة، ذو طابع استراتيجي. استراتيجيةُ التخويفِ السياسي تقوم، أساساً، على تحويل مصادر الخوف، وبالتالي على تحويل العدوانيّة. في ثقافة الخوف، كما بدأت تسود، يتم هذا، بالتوازي، على مستويات مختلفة قد تكفي الإشارة إلى ثلاثة منها:
المستوى الأول هو لتبرئة الدولة من افتعال التخويف، وذلك بإبراز عدو مشترك بينها وبين المواطنين، مع التستر على المخاوف الحقيقية التي هي من صلب مسؤولياتها (كالخوف من البطالة أو من تفشي الأمراض، مثلاً). هذا النوع من التحويل الكلاسيكي هو من الثوابت في تاريخ السلطة، مهما كان نوعها: ضرورة وجود عدو حقيقي أو اختراعه، إن لم يكن موجوداً، بهدف تأمين التماسك أو الشرعية للسلطة. وهو تحويل له مصادره القديمة في الميتولوجيا وفي الأديان: لقد استطاعت تحويل خوف الإنسان من الموت، أي خوفه الأكبر من نهايته، إلى وضعٍ بالإمكان أن يكون مريحاً، مطمِئناً. ذلك أن الموت لم يعد إلاّ معبراً إلى حياة أخرى قد تكون سعيدة. الفرق بين النموذج الكلاسيكي وبين النموذج السائد، اليوم، أنّ تحويل الخوف يتم، الآن، في اتجاه معاكس: كان من المعلوم إلى المجهول أو إلى ما هو من الغيب وأصبح من المجهول (أو مما لا تعلمه إلا السلطة) إلى المعلوم الذي يمكن معاينته، بما في ذلك “مباشرةً”، أي أن يشاهَد “المخيفُ” وأن يُسمع في اللحظة نفسها، وفي جميع أنحاء العالم.
المستوى الثاني لتحويل الخوف هو مستوى الانتقال من الحَيّز الخاص إلى الحيّز العام. للخوف مصادر وأشكال وتعبيرات مختلفة، منها الفردي والجماعي. ثقافة الخوف تعني استبطانَ الفرد للخوف، لا كحالة نفسية فردية، وإنما عبر تَمثُّلٍ جماعي لمصدر مشترك للخوف تسعى السلطة إلى تحديده وإلى تحديد أشكال تجلياته وتسعى كذلك إلى تنميط الموقف منه والتعبير عنه. هذا يعني أن الخوف يتحول إلى “حالة عامة” تجد سنداً لها يبررها في مجال القيم كالمصلحة العليا والوطنية وحب الخير والمنزع الإنساني، الخ… وهي قيم تدّعي، فعلاً، ثقافةُ الخوف أنها تحملها. ولقد استطاعت السياسة الأمريكية أن تبرزها في رؤيةٍ مانويّة للعالم: مصدر الخوف هو “محور الشر” يقابله الخيّرون الحاملون للقيم الإنسانية الكبرى[7].
اكتساح الخوف للحيّز العام ييسّره تعدد المخاوف وتفرعها بصورة متزايدة. قطعاً، لم يعرف التاريخ هذا التعدد والتفرع، محلياً وعالمياً، مثلما يعرفه اليوم. لقد أصبح الخوف الحقيقي أو المحتمل من كل شيء تقريباً، بما في ذلك من أقرب الأشياء إلى الممارسة اليومية: الكحول والتدخين والسمنة والسرعة والجنس والهاتف المحمول والمزروعات المعدلة جينياً ولحم البقر ثم الدجاج والبيئة، إضافة إلى الكوارث الطبيعية ووصولاً إلى الدمار الشامل. وسائل الاتصال حاملٌ مثالي لذلك: التلفزة والسينما والفيديو والإنترنت كلها مزروعةٌ بهذه المخاوف. متابعة الأخبار فقط، في العالم العربي مثلاً، تكفي لمعرفة نسبة الخوف إلى الاطمئنان في ما يرى ويسمع الناسُ، صباحَ مساء.
المستوى الثالث يتم فيه تحويل الخوف الاجتماعي إلى خوفٍ أمني. ولعل هذا التحويل هو أقوى ما يعبّر عن قدرة الدولة على التلاعب بالخوف وعلى استثماره لصالحها، كسلطة. مقايضة الاجتماعي بالأمني، وخاصة في العالم العربي، كثيرة: المطالب الاجتماعية الكبرى وكذلك الديمقراطية وحقوق الإنسان كلها أصبحت موضوعَ مقايضةٍ بالأمن الأمني. هوبز كان يقول ما معناه أن المجتمع يقلّص العنفَ بخلق عنفٍ أقوى ولكنه شرعي هو عنف نظام الدولة. ينطبق هذا على التخويف، مع إضافة أن اتخاذ المجتمع إجراءاتِ دفاعٍ ضدّ الخوف يزيد من خوفه ويجسّمه ويجعله مباشراً، أي يحول الخوف والخوف من الخوف أو فانتازماته، إلى واقع معيش. هكذا يكتسب الأمن أولوية تبدو مطلقةً في الحياة اليومية للفرد والمجتمع. وبما أن الأمن الذي توفره الدولة هو، أولاً، أمنُها فهو، بالضرورة، يواجه الاحتجاج وما يتصل به من مطالب اجتماعية. وهو، في ذلك، يعوّل على مبدأ أو فرضيّة أن الخائف يؤجل مطالبه!
في كل مكان تقريباً، تراجعت المطالب الاجتماعية، بدءاً بمطلب العدالة وتوزيع الثروة، أمام مطلب الأمن. هذا المطلب يبدو، في الظاهر، “مطلب الجميع” نتيجةَ التنميط والتعميم. أما في الولقع المعيش فهو متنوع، في الطبيعة والدرجة، حسب التراتب الاجتماعي. المخاوف الكبرى ذات المضمون الاجتماعي ليست قابلة للتعميم إلاّ في حالات استثنائية نادرة، ذلك أن الفئات المختلفة مختلفةٌ في خوفها، أيضاً، وقد تكون مصادرَ خوفٍ، بعضها لبعض. في تنميط الخوف وتعميمه على “المجتمع” سعيٌ إلى تغطية التفاوت، مؤقتاً. وهكذا تبدو أوضاع الخوف وكأنها أوضاعُ هدنةٍ اجتماعية تجد بعضُ الفئات، دائماً، فائدة في تمديدها، في حين تسعى فئات أخرى إلى تقصيرها، لكي تعود إلى مطالبها.
4- لم يسبق أن عرف التاريخ نشر مخاوف معولَمة لها اتساع وسرعة اليوم. المبدأ والآليات هي نفسها التي تنتشر بها ظواهر أخرى في سياق العولمة. الاختلاف هو في الدلالة والتوظيف: دلالة اللجوء إلى العامل النفسي وإلى استغلال غريزة البقاء في الإنسان، وتوظيف ذلك في مجتمعات متباعدة ومختلفة، لأهدافٍ مركّبة تتجاوز مواجهةَ المخاوف المعلنة إلى أهدافٍ أبعد، جيوسياسيةٍ في معظمها.
ما سبقت الإشارة إليه من أبعاد وتجليات الخوف على صعيد المجتمع الواحد يمكن سحبه على الصعيد العالمي. يكون ذلك، طبعاً، مع اعتبار الاختلاف في وحدة التحليل وفي حجم الظواهر وانعكاساتها. ما يضاف هنا هو، فقط، لتوضيح بعض ملامح التخويف الساعية إلى التعولم:
لكلّ مجتمع مخاوفُه التي يفرزها واقعه. وسواء كانت هذه المخاوف نتيجة ميكانيزمات محلية أو خارجية فإن ما يحدد “واقعيتها” أنها مُتمثَّلة، جماعياً، كمخاوف حقيقية تجب مواجهتُها. عولمة ثقافة الخوف تعني نمذجةَ أنماطٍ من المخاوف الحقيقية أو الوهمية التي قد ترتبط بمجتمعٍ أو بحدثٍ فيه، وذلك بهدف التخويف منها في مجتمعات وثقافات مختلفة، منها ما يتمثل مخاطرَها ومنها ما قد لا يرى له علاقةً بها.
إذا استثنينا المخاوف الاجتماعية الكبرى – وهي دائماً حقيقية – وما يتصل بها من مطالب المواجهة التي تحملها الحركات الاجتماعية والسياسية، بدرجات مختلفة حسب اللحظات التاريخية، والتي تبدو الآن مُلجمةً أو مؤجلة، فإن المخاوف التي تتصدّر الخطاب السياسي والإعلامي الراهن في أوروبا هي الخوف الديموغرافي، مع التركيز على الهجرة، والخوف الأمني، مع التركيز على العامل الخارجي، والخوف الاقتصادي، مع التركيز على المصدر “الأصفر”، إضافةً إلى الخوف “الحضاري” من الإسلام السياسي. المجموعة الأوروبية تبدو أقرب إلى التفاوض حول هذه المخاوف مع البلدان “المصدِّرة” لها. أما الولايات المتحدة، باعتبارها القوة الأكثر تحديداً لتوجهات العولمة، بما في ذلك عَسْكرتها، فهي تعتبر “الإرهاب” الإسلامي، تحديداً، المصدر الأول والأكبر للخوف، على صعيد العالم. وقد نجحت في تعميم الخوف منه وفي نشر لغته ومصطلحاته حتى أصبح بإمكان السلط، في كل مكان، أن تصنّف من خرج عنها على أنه “إرهابي”. بعض حركات التحرير والمقاومة لم تَنْجُ من ذلك، حتى في أوطانها.
تنوع المخاوف، وبالتالي تنوع أصناف الخوف، لم يمنع العالم من “توحيد” مخاوفه، أي من توحُّده في الخوف. هذا يعني، أولاً، أن هذه المخاوف قائمة في الواقع أو في المخيال الجماعي. لكن العامل الأكثر حسماً في صنع ثقافة الخوف ونشرها يبقى العامل السياسي، بمستوياته وصيغه وآلياته المختلفة. الدوافع كثيرة، متداخلة، بدءاً بحماية السلطة لذاتها ولمصالحها ولفضاء شرعيتها. وكل هذا لم تعد فيه الحدود بين الداخلي والخارجي حدوداً واضحة إلى حد الفصل بين مخاوف داخلية وأخرى خارجية.
ما يستحق التوقف عنده، بصورة خاصة من هذه الوجهة، هو ظاهرة تراجع الصراعات المسلحة بين الدول كمصدر تقليدي للخوف الجماعي. هذا التراجع في تبادل الخوف بين الدول، كدول، يتناسب، زمنياً وبوضوح، مع توسع ظاهرة “الإرهاب الدولي”، مروراً بمحطته الأساسية: 11 سبتمبر 2001. مواجهة هذا الإرهاب حققت أوسع تعاون عملي معاصر بين دول العالم. لم تتفق على شيء مثلما اتفقت عليه. هذا يبرر ما ذهبنا إليه من أن المرحلة الجديدة لثقافة الخوف القائمة على التخويف تندرج في نظام عالمي للخوف: لقد جعلت الخوف المشترك فوق التصادم التقليدي بين الدول.
لم يحدث صراعٌ مسلّح بين دول العالم خلال سنتي 2004 و2005، إذا تم اعتبار العراق وفلسطين حالة خاصة داخلية/ خارجية، كما قد يرد في بعض التقارير الدولية. طبعاً، هذا لم ينفِ تدخّل قوات نظامية خارجية في ثلاثة صراعات داخليّة: بوروندي لصالح الحكومة الروندية، وتحالف متعدد الجنسيات ضد القاعدة لصالح الحكومة الأمريكية، والقوات الأمريكية ومن معها لصالح الحكومة العراقية المؤقتة. هذا التراجع ملاحَظ منذ مدة أطول: من 1990 إلى 2004 حدث 57 صراعاً مسلحاً لم يكن منها غير أربعة بين دول: إريتريا/ إثيوبيا والهند/ الباكستان والعراق/ الكويت والعراق/ الولايات المتحدة وحلفاؤها. بقية الصراعات – وهي 53 صراعاً – كانت ضمن الدولة الواحدة، إما للسيطرة على الحكم (29 صراعاً) وإما للسيطرة على الأرض (24 صراعاً)[8]. وهكذا بعدما كان تعزيز الأمن في دولة أو في دول هو على حساب دولة أو دول أخرى – مع اعتبار ذلك أمراً ضرورياً وجائزاً – أصبح يُنظر إليه، بصراحةٍ أكبر، من منظور تكامل “الأمن الدولي” وتماسك “الأسرة الدوليّة”.
5- “ثقافة” الخوف لها، إذاً، أبعاد ومستويات ومجالات تتجاوز ما هو ثقافي، بالمعنى الحصري للوصف. وهو ما يتطلب، نظرياً ومنهجياً، مقارباتٍ مركبة تتحاشى تفسير الثقافي بالثقافي، وتتحاشى بوجه خاص، اختزالَ رهانات الخوف، محلياً وعالمياً، في المستوى الثقافي، مثلما يحدث، غالباً، عند التصدي للمخاطر على الدين والهوية وغيرها من القيم. إن الاختزال العربي الإسلامي للخوف في ما هو ثقافي أو حضاري تضيع معه مصادرُ هذا الخوف وأهدافُه الكبرى من ناحية، ويدفع إلى مواقف وجدانية متشنجة غير متناسبة، بالضرورة، مع طبيعة الخوف الذي تجب مواجهته.
لقد سبق التأكيدُ، بما يكفي، على تعدّد أبعاد ظاهرة الخوف، ولذلك يمكن الآن، في المستوى الثقافي الرمزي، ذكرُ مثالٍ واحد، له دلالة قويّة على لاأخلاقية التخويف السياسي في توظيفه لقيمة إنسانية كبرى هي قيمة الموت الذي يبقى الخوفَ الأكبر في حياة أي إنسان. لا معنى للحياة ولا تعريف لها بدون الموت، ولذلك فالموت مسألة وجودية حملتها الرؤى البشرية وأحدثت لها نواميسَ وطقوساً كثيرة. التفلسف نفسه، عند البعض، هو تدرّب على الموت. وعندما واجه الإنسان خوفَه من الحروب الكبرى، كتلك التي عرفها القرن العشرون، بدا له أن الموت تغيّر معناه.
في مقالاتٍ كتبها بين 1915 و1938، رأى فرويد أن الحرب أزالت وهمَ التعويل على قيم الدول العظمى، إذّاك، في اكتشاف طريق أخرى لتسوية صراعاتها، وهي، في الوقت نفسه، غيّرت رؤية الإنسان للموت وموقفَه منها. وأهم ما في ذلك هو تحويل الموت من العرضي إلى الضروري. لقد سعى الإنسان منذ بدائيته إلى ربط دلالة الموت بالعرضي – كحادثٍ أو مرضٍ أو تقدمٍّ في السن – وذلك هروباً من تصوّر موته كنتيجة نهائية لحياته، خلافاً لـ”مشاهدة” موت الآخرين. الحرب عدّلت من هذا لأن الناس يموتون آلافاً مؤلفة ولم تعد الصدفةُ في هذا الموت الجماعي حاسمةً. هذا قوّى الوعي بأن الموت حقيقة وضرورة. وقد رأى فرويد، في زمن حروبه، أنه من الصعب المحافظة على الموقف القديم من الموت، وإن لم يرَ بأي موقف يعوّضه. وفي رسالة شهيرة إلى اينشتاين سنة 1932، “صعَّد” فرويد خوفَه من الحرب ورأى أنه لا حلَّ، لمواجهتها، غيرُ مواجهة الغريزة التدميرية بغريزة الحب (أو الايروس) التي هي نقيضها. إن تعمّد الرجوع إلى فرويد، تحديداً، هو للقول بأنه إذا كان التحليل النفسي اتسع، في زمن الحرب، إلى تعديل دلالات غريزة الموت فمن الأولى والضرورة أن تتسع له المقاربةُ الاجتماعية.
لثقافة الخوف، بالمعنى الذي حددناه، نصوصُها المؤسسة ولها حَدثُها المؤسس أيضاً. حدث 11 سبتمبر بدا وكأنه استثنائيّ في التاريخ (إلى حد أنه لا يحتاج إلى ذكر سنته) لأنه مسّ سقف العالم في نيويورك. كان حيث لا يُنتظر أن يكون، وكان – وهذا أهم – بأيادٍ خارجية لم يكن من الوارد أن تُرهب الأمريكي في عقر داره. لقد كان المشهد مرعباً، ولا لبس في إدانته بكل المعايير والقيم الإنسانيّة. السؤال ليس هنا وإنما عن مأتى هذه “الاستثنائية” التي بدا معها الموت استثنائياً، هو أيضاً. أليس هناك في بقايا العالم موتٌ يتناسل، بلا انقطاع، فتملأ أحداثُه وأشلاؤه رتابةَ حياتنا اليومية، وتجعل منه، في شاشات الموت، موضوعَ سبقٍ وإخراج؟
ما يهم، هنا، في ردّ الفعل الأمريكي، أمران: الأول أن الخوف من الإرهاب ثم التعبير عنه بلغةٍ حربيّة، إجرائية، مختزلة، كوّنت حقلَ دلالةٍ تَحوّلَ بسرعة كبيرة إلى نواة اصطلاحية عالمية. شومسكي بيّن كيف اعتمدت الدعاية الأمريكية مصطلحات وتعابير مختارة بدقة للاستحواذ على معنى الإرهاب الذي يستثني أمريكا منه ولإيهام العالم كلّه بشرعيةِ حَمْلتها عليه. لقد تطابق هذا المعنى مع “الحقيقة”: لم يعد، إذاً، مجالٌ للنسبية في المقابلة بين الخير والشر، بين الحضارة والبربرية، بين “هم” و”نحن”. الأمر الثاني هو إعطاء ملامح قوية للاّمساواة بين الأموات، كوجه آخر للاّمساواة بين الأحياء. لقد تحرّج الفكر البشري طويلاً في إعلان هذا النوع من اللاّمساواة ولكن الحدث الأمريكي (الذي تعولمت دلالاته) أوجد، نهاية الأمر، من يتقوّى على ذلك، جامعاً فيه بين القساوة والعلنية، في آن واحد: كل أمريكي يموت قتلاً، خارج بلاده، هو، كفرد، ضحيةٌ استثنائية تستوجب الاستنكار الدولي. وهو، ولو كان جندياً غازياً قاتلاً، فالسياسة تخاف عرضَ جثته، تحاشياً لصدمة الرأي العام. كل من مات وراءه محسوبٌ ضمن ضحايا يتم تصنيفها وترتيبها. هذا في حين أن بقايا العالم تموت بالجملة ولا تموت أفراداً، وتُعرض أشلاء مبعثرةً، ثم تُردَم في مقابر جماعية، بلا أعلام ولا صلوات.
هناك إصرار على إفراغ موت الآخرين من معناه وعلى تعديل المواقف منه. وهو إصرار على إفراغ القضايا التي يموتون من أجلها من دلالتها. هكذا، مثلاً، أصرَّ النظام الأمريكي – الصهيوني، عبر آلياتٍ مختلفة، على إبراز “عبثية” الموت الفلسطيني. كان يعلم أن الصعوبة الكبرى ليست في ساحة المعارك بقدر ما هي في محاربة الدلالة التي يعطيها الفلسطينيون لموتهم. هذا الموقف التمييزي أمام الموت والذي له، على الأقل، جغرافيا عنصرية يبعث، من دون شك، على التأمل الفلسفي والأخلاقي السياسي، لا لمعرفة دوافعه فحسب، وإنما أيضاً لمعرفة دوافع وأشكال استبطانه، عالمياً. إنه موقف من الموت أصبح للسياسي دورُ تحديده من منظورٍ جيوسياسي لا علاقة له برصيد الفكر الإنساني في تعاريف الموت وبما يلتقي فيها من أبعاد وأحوال.
ليست ثقافة الخوف، كما هي اليوم، معزولةً عن هذا التحول في معنى الموت وفي الموقف منه. لقد نسجتها السّلط بخيوط المراتب والمصالح وبما استغلّت من أرصدة الغرائز والقيم (وهذا لا تختص به المرحلة الحالية) ولكن في سياق جعل من ثقافة الخوف ثقافةَ تخويفٍ من الموت، تحديداً وبالدرجة الأولى. لقد نقلت هذه الثقافة مشهد الموت من موقع الفصل الأخير إلى موقع الفصل الأول: بعد أن كان الموت يُرى من خلال مخاطره أصبحت كلُّ المخاطر تُرى من خلال الموت، كخوف أوّل، منذ صورته يوم 11 سبتمبر وما تراكم بعدها من صوره. لهذا أصبح العالم مهموماً بتصنيف موتاه بعد أن كان مهموماً بتصنيف الأحياء فيه.
6- تقديم ثقافة الخوف في مرحلتها الراهنة، أي مرحلة التخويف على صعيد دولي، على أنها من صنع السّلط التي تنشرها يعكس حقيقةً موضوعية، ولكنها لن تكون كلَّ الحقيقة إذا لم تُدرج ضمن هذه السّلط سلطةُ الحركات التي تواجه السّلط الحاكمةَ أو تواجه واقعاً ما باستعمال العنف الذي يُعتبر إرهاباً. هذه الحركات هي الطرف الثاني في معادلة التخويف، بدونه تتفكك الصيغة الحالية لثقافة الخوف. وهي معادلة لها طابع “جدلي”، باعتبار أن كلَّ طرف هو صنيعةُ الآخر، يستمد قوته التدميرية من الآخر، كما هو الحال في أقصى وأقسى تجلياتها: بن لادن وبوش.
لثقافة الخوف التي تنشرها الحركات الإرهابية لها مفارقاتُها: الأولى أن الإرهاب يزرع خوفاً واسع النطاق، في موطنه، أولاً. قد يكون باسم العقيدة، كما يراها، ولكنه يقتل من أهل عقيدته أكثر مما يقتل ممّن يعتبرهم “كفّاراً” أو “صليبيين”، وقد يكون باسم إخراج العدو ولكنه يقتل من أبرياء الوطن أكثر مما يقتل من محتلّيه. في المقابل، يُصدِّر إرهابُ الدولة خوفَه وتدميرَه: باسم حماية أمريكا خُرّب العراق.
المفارقة الثانية أن الإرهاب الذي قد يعلن مناهضته لسلطة حاكمة في العالم العربي والإسلامي لا يضعف من سلطتها، بل يقوّيها في أغلب الحالات. إنه يساند تبريرَ تحوّلها إلى سلطةٍ أمنية، فيبرِّر، بالتالي، تحويلَ وجهتها عن قضايا اجتماعية وسياسية كان مطلوباً منها حلّها. هذا في حين أنّ إرهاب الدولة (القوية، بالضرورة) يستثمر تدميره اقتصادياً وسياسياً، محلياً ودولياً: يكفي النظر في القائمة الطويلة للأعمال الإرهابية التي قامت بها الولايات المتحدة، “الدولة المارقة”، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في مناطق مختلفة من العالم، لتبيُّن مردود هذا الاستثمار الطويل[9].
المفارقة الكبرى – وفيها لغزٌ محيّر – تبقى “شعبية” الإرهاب. كيف أمكن له، رغم فضاعته، أن يجد سنداً عقائدياً أو عاطفياً، على الأقل، لدى شرائح قد تكون واسعة في بعض مواطنه؟ وليس هذا التساؤل من قبيل الحدس أو التخمين: في استطلاع للرأي، خلال سنوات 2002 و2003 “وضع المستجوبون في اندونيسيا والأردن والمغرب وباكستان أسامة بن لادن بين أبرز ثلاث شخصيات يثقون بأنها تفعل الشيء الصحيح في ما يتعلق بالشؤون العالمية[10]. هذه المفارقة قد تفسَّرُ بالتطرّف أو بالتّشفي العقائدي أو باللبس القائم بين الإرهاب والمقاومة في أذهان الناس أو بغير ذلك، ولكنّ ما يهمّ فيها، هنا، هو غرابة أن تكون الفئات المساندة للإرهاب هي ضحيته الأولى، كفئات لا كأفراد. لا يكفي، في هذه الحالة، وصفُ ثقافة الخوف بالتراجيديا إلا إذا كان في التراجيديا معنى العبثيّة…
7- عوداً على بدء: لو لم يَخَف الإنسانُ لانقرض. نعم، ولكن على أن يكون الخوف مناسباً للخطر. إن لم يكن ذلك فهو مرّضيٌّ، بدرجةٍ أو بأخرى. المشكلة، إذاً، ليست في الخوف وإنما في تمثّله. هذا يعني أن المسألة، نهايةَ الأمر، هي في مستوى الوعي: إنها في وعي الخوف وخوفِ الوعي. مهما كان “الإحساس” بالخوف فإن “موضوعيّة” تمثُّلِه هي في الإدراك الدقيق لطبيعته، مصدراً وأبعاداً، وفي بناء الموقف المناسب منه. هكذا يكون الخوف واعياً لذاته ويكون الوعيُ ذاتُه حاملَ خوفٍ مستجيبٍ، بوضوح، إلى مخاطر محدّدة.
قيل الكثير عن “إبداعيّة” الخوف في الفكر البشري، خصوصاً في الأدب والفنّ وفي الطقوس التي تنشأ عنه. ليس هذا ما يستدعي التوقّفَ عنده وإنما الديناميكية الاجتماعية التي ينتجها الخوف الواعي والوعي الخائف:
سياسياً، معلومٌ أن السلطة أخافت دائماً، إذ لا سلطة بلا تخويفٍ إلا طوباوياً، وأنها، في المقابل، سعت دائماً إلى تجاوز خوفها. في الحالتين، تختلف الآليات حسب النظام السياسي، خصوصاً في مواجهة المطالب وقوى الاحتجاج والمعارضة. في النظام الديمقراطي لا تجازف دولة المؤسسات والقانون باعتماد آلياتٍ لا يقبلها الرأي العام. وإذا كان منها ذلك فهي تعرّض أجهزتَها للمغامرة. في الأنظمة غير الديمقراطية لا يكون تجاوز الخوف السياسي إلاّ بالقمع المادّي. لذلك هناك رعبٌ، له ما يبرّره في التجربة، من أجهزة الدولة الخائفة. وقد ذهب هذا بالحركات والأحزاب، في الكثير من هذه الأنظمة، إلى مهادنتها، بل وإلى طمأنتها، لا اقتناعاً بسياساتها وإنما خوفاً من خوفها.
خارجياً، إذا استثنينا الاشتراك في مواجهة الإرهاب، فإن الأنظمة العربية تبدو، إجمالاً، فاقدةً للوعي بما هو مصدر خوفٍ حقيقي، على المدى البعيد. وهي، في ذلك، أكثر فقداً لخوف الوعي. هذا، على الأقل، مقارنةً بتحذيرات النّخب الفكرية والحسّ الشعبي التي لا تنتهي في العالم العربي. من المخاطر ما أصبح بديهياً ويمسّ الأنظمةَ السياسية نفسها كالتعويل، في استمرار الحكم، على المساندة الخارجية التي تبيّن أنّ آخرَ همِّها أن تستمرّ مع من غيّرت الظروفُ أحوالَ مصلحتها معه. وإذا كان الوعي بهذه المخاطر مفقوداً فلأن الدولة لا ترى حياتها إلاّ من خلال عُمر أجهزتها، ولربما قياساً على عمر رؤسائها. هذا في حين أن الدولة، كدولة، لها قياساتٌ تاريخيّة أخرى.
داخليّاً، هناك مخاوف سياسيّة تقليديّة ممّا يهدّد السلطة في شرعيتها وهيبتها وفي مصالح المرتبطين بها. الخوف الجديد في العالم العربي هو من المساءلة. وهو خوف يتنوع ويزداد حسب طبيعة الفساد وقنوات تفشّيه. ولقد أصبح الفساد من أهم عراقيل المشروع الديمقراطي في العالم العربي لأن الديمقراطية تستوجب المساءلة، والفساد لا يقبل المساءلة. هذا مبدأ عام.
هذا الخوف من المساءلة خوفٌ مطلوب، بل هو مشروع لثقافةٍ تطمع الفئات العريضة إلى أن تتعمق وأن تنتشر في صلب السلطة السياسيّة، أولاً. ومعلوم أن هذا الخوف لا يولد فيها تلقائياً ولا طوعاً وإنما بروافد ضاغطة من خارجها، في المجتمع المدني.
8- المجتمع المدني الفاعل، حقاً، هو القادر على تفكيك ثقافة الخوف: إنه قادرٌ، في آن واحد، على تفكيك ما يتعولَم منها وما يرتبط به من إرهاب، وعلى تعديل معادلة الخوف بين الحاكم والمحكوم، وعلى ردّ المخاوف إلى مصادرها الاجتماعية الأولى: إن ما يتيحه المجتمع المدني الفاعل من حرية التعبير ومن تنوّعه يُكسب الخوف طابعَ النسبيّة ويحدّ من إطلاقيته كما يُعقلنه ويُعرّي المزعومَ منه. وهو، أيضاً، يخلق فضاءاتٍ تتصدى للإرهاب الفكري والمادي الذي هو نقيضُه. أما أن يحدّ المجتمع المدني من خوف المواطن في علاقته بدولة المؤسسات والقانون فهذا من عناصر تعريفه البديهيّة. وأخيراً، إذا كانت ثقافة الخوف قد استطاعت تحويل الأنظار عن المسألة الاجتماعية فإن فاعلية المجتمع المدني تُعيد الأنظار إليها وتجعل منها مصدراً وحلاً، في آنٍ واحد، للمخاوف الحقيقية الكبرى. إن تفكيك ثقافة الخوف الناتجة عن تنميطه وتعميمه عبر الشعوب والثقافات وعبر فئات المجتمع الواحد، على اختلافها، يجد سنده الأول في التعدّدية، إذْ بها تكتسب المخاوف مضامينها الاجتماعية المتنوّعة وتميل صورها في الخطاب الفكري والسياسي إلى التقابل في اتجاه التكافؤ والتوازن.
المراجع:
[1] Wlrich Beck, La société du risque, trad. Laure Bernardi, Paris, 2001.
[2] Jürgen Habermas, La technique et la science comme idéologie; traduit de l’allemand et préfacé par Jean-René Ladmiral, Paris, Gallimard, 1978.
أنظر أيضاً:
Denis Duclos, La peur et le savoir: la société face à la science, la technique et leurs dangers, Paris, La Découverte, 1989.
[3] منها، مثلاً: David Le Brelon, La sociologie du risque, Paris, PUF, 1995.
[4] Samuel Huntington, The clash of civilizations?, Foreign Affairs, 1993; “Le choc des civilizations?”, Commentaire, n. 66, 1994. The clash of civilizations and the remaking of world order, New York, Simon and Schuster, 1996; le choc des civilizations, Paris, Odile Jacob, 1997.
[5] من ذلك مثلاً: Mare Crépon, l’imposture du choc des civilisations, Paris, éd. Plein-feu, 2002.
[6] كأمثلة عما ظهر بالفرنسية، هناك كتاب قديم، نسبيّاً، يتناول الخوف في الغرب من القرن الرابع عشر إلى القرن الثامن عشر:
Jean Delumeau, La peur en Occident, XIVème – XVIIIème siècles, Paris, Fayard, 1978.
وهناك مؤلفات ظهرت في المرحلة الراهنة من “ثقافة الخوف” منها، مثلاً:
Christophe Lambert, La société de la peur, Paris, Plan, 2005 – Valérie de Courville Nicol, le soupçon gothique : l’infériorisation de la peur en Occident, PU Laval, 2004.
[7] أغلب الظن أن بوش ما كان يفوز، رئيساً، لولا نجاحه في تخويف المنتخبين من خلال هذه الرؤية المانويّة للعالم.
[8] معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي، التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي، الكتاب السنوي 2005، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005، ص 222.
[9] أنظر: وِليم بلوم، الدولة المارقة: دليل إلى القوة العظمى الوحيدة في العالم، ترجمة عصام قلاوون، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 2003.
[10] معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي، التسلّح ونزع السلاح والأمن الدّولي، مرجع سابق، ص 85
- الدكتور الطاهر لبيب ، علم اجتماع وجامعي تونسي
- نشر المقال بموقه “أنتلجنسيا“
شارك رأيك