بقلم أحمـد بـن مصطفـى *
يتميّز الاقتصاد التونسي،على غرار الاقتصاديات العربية عموما، بكونه إقتصاد مديونية و كذلك إقتصاد ريعي حيث تعتمد فيه الدولة الى حد كبير على القروض الخارجية و الموارد الطبيعية لتمويل الميزانية.
كما تعتمد الدولة على المستثمرين الاجانب و على التقنيات و أدوات الإنتاج الموردة من الدول الصناعية الكبرى لاستغلال الثروات الوطنيّة مقابل حصولها على نصيب من الأرباح سواء تعلّق الأمر بالثروات النفطيّة أو الثروات الطبيعيّة أو الزراعيّة .وتختلف نسبة الاعتماد على الخارج من قطاع الى آخر حيث أنها قد تصل الى نسبة تقارب %100 في قطاع النفط والغاز و بعض القطاعات الأخرى باعتبار أن التقنيات ووسائل الانتاج المعتمدة في التنقيب والتكرير مستوردة كليا ويكتفي الجانب التونسي بتوفير لأيادي العاملة إذا كانت متوفرة محليا . و ينطبق هذا الأمر على إستغلال الفوسفات و زيت الزيتون و جل المجالات الإنتاجية و الصناعية و الفلاحية و الخدمية.
اسباب فشل النمط الاقتصادي التونسي
هذا الواقع هو نتيجة حتمية لفشل النمط الإقتصادي التونسي بسبب تخلي تونس المبكر عن بناء منظومة صناعية متكاملة تراعي مقتضيات التنمية الحقيقية التي تتطلب إعطاء الأولوية للتصنيع لتحديث القطاعات الاقتصادية الحيوية الفلاحية و الخدمية وتلبية الحاجيات الإستهلاكية الأساسية و تحقيق الأمن الغذائي وصولا الى الإكتفاء الذاتي العلمي و التكنولوجي الضروري لإستغلال و تثمين الثروات الوطنية و إقامة صناعات تصديرية وطنية تنافسية ومندمجة و إكتساب قاعدة إنتاجية وصناعية متطورة جاذبة لاستثمارات ذات قيمة مضافة عالية على غرار البلدان الصاعدة.
و يجدر التذكير بأن تونس تخلت منذ مطلع السبعينات عن اعطاء الاولوية لبناء صناعة وطنية والحال أن هذا الخيار كان من الركائز الأساسية لإنطلاقتها التنموية الموفقة المتزامنة مع الأفاق العشرية للتنمية لمرحلة الستينات التي أسست للدولة التونسية الحديثة، غير أنها سرعان ما تخلت عن بناء نسيج صناعي وطني متكامل بمراهنتها على الصناعات التصديريّة الأجنبيّة بحجة توفير مواطن الشغل للعمالة غير المختصة مقابل السماح للمستثمرين الأجانب بتوريد المصانع ووسائل الانتاج وحتى الموارد الأوّليّة دون قيود ضريبية و كذلك تصدير الارباح والحصول عن الدعم الالي و تصريف نصف المنتجات بالاسواق التونسية. وهذه الاعفاءات تنطبق على جل الأنشطة الانتاجيّة و الصناعية والخدميّة المرتبطة بالخارج و بالأسواق الداخلية سواء كانت مقيمة أو غير مقيمة .
و الغريىب في الأمر ان تونس ما تزال تعتمد على نفس هذا الخيارالذي يعود فعليا الى مطلع السبعينات و ذلك رغم إقرر الخبراء و المختصين بفشله، و مع ذلك فان الحكومة تعمل جاهدة على اصدار مجلة جديدة للاستثمار تضاعف من حجم الحوافز و الاغراءات و الضمانات الممنوحة للمستثمرين الاجانب مع التذكير بان هذه الخطوة، و كذلك القانون المتعلق بالشراكة بين القطاع العام و الخاص، يأتيان كاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي.
ويعزى هذا التوجه الى عدم وجود إرادة سياسية لمراجعة هذه الخيارات الاقتصادية البالية المرتبطة بمصالح أطراف خارجية و محلية تدعي بأن تونس ليس لها بدائل أخرى سوى مواصلة الاعتماد على الاستثمارات و التقنيات الاجنبية لاستغلال قطاعاتها الحيوية و إعادة إحياء اقتصادها رغم ما يترتب عن ذلك من تبعية اقتصادية و خسائر مالية و إهدار لنسبة كبيرة من الثروات الوطنية بسبب التفريط لفائدة للشركاء و الصناعيين الأجانب في اجزاء مهمة و مربحة من الأنشطة الانتاجية ذات الصلة بالقطاعات الإستراتيجية في الاقتصاد الوطني.
النتائج الوخيمة لإهمال تونس لقطاع التصنيع و القطاعات الانتاجية
و على سبيل المثال تفيد الاحصائيات الرسميّة بأن صادرات تونس من زيت الزيتون خلال سنة 2015 كانت قياسيّة حيث أنها تجاوزت 260 ألف طن بما قيمته حوالى ملياري دينار مما سينعكس ايجابا على الميزان التجاري الذي يشكو من عجز متفاقم .غير أنه كان بالإمكان ان تكون مردوديّة هذا القطاع من العملة الصعبة أفضل بكثير بنسبة تصل الى 80% لو تم تثمينه وإدماجه من خلال التصنيع الكلي او حتى الجزئي بتونس لمواد التجهيز وأدوات الاستغلال الضروريّة لكافة مراحل الانتاج انطلاقا من عمليات الحصاد مرورا بإنتاج المعاصر ومصانع التعليب والتخزين وغير ذلك من المتطلبات مثل مخابر البحث وتطوير المشاتل وتحصينها من الأمراض .
والجدير بالتذكير أن معدل نسبة صادرات تونس السنويّة من زيت الزيتون المعلب لا تتجاوز 10% على أقصى تقدير حيث ستبلغ هذا العام 12 ألف طن فقط ،وهذا يعني أن القيمة المضافة لهذا المنتوج الحيوي المرتبطة بالأنشطة المذكورة ووسائل إنتاجها تحوّل هدارا الى الخارج وخاصة ايطاليا التي تستحوذ بهذه الطريقة على النسبة الأوفر من الأرباح بالعملة الصعبة باعتبار أنها تعيد تصدير هذه الكميات بعلامات تجاريّة خاصة بها .كما تفقد تونس مواطن شغل عديدة غير مختصة ورفيعة المستوى تندرج في إطار عمليات التصنيع والتعليب وابتكار أدوات الانتاج والتعليب من معاصر وعلب وغير ذلك التي يتم استيرادها بالعملة الصعبة والحال أنه كان بالإمكان إنتاجها بتونس لو تم التخطيط لذلك بعد الاستقلال سعيا للتقليل من هذا النزيف ومن التبعيّة للخارج في استغلال وتسويق ثرواتنا الوطنيّة الطبيعيّة والزراعيّة و الخدمية.
وهكذا يتّضح أن جل القطاعات الانتاجيّة الصناعيّة والزراعيّة والتجاريّة و الخدمية أو الأجزاء و الحلقات الأكثر ربحيّة منها يتمّ إهدارها والتفريط فيها الى الخارج والحال أن تونس في أمس الحاجة للقيام بهذه الأنشطة محليا للرفع من مردوديتها وقيمتها المضافة والحفاظ على مواقع العمل ذات الصلة للحد من البطالة وذلك قي اطار التحول تدريجيا من إقتصاد ريعي الى اقتصاد انتاجي .
أهمية بناء إقتصـاد انتاجي صناعي، و فلاحي، و خدماتي للإستفادة من التبادل الحر
الملاحظ ان هذا النزيف المتواصل منذ عقود طويلة ،رغم الوعود المتكررة للمسؤولين بمعالجتة، يثير استفهامات عديدة لدى المختصين والرأي العام المطّلع ،خاصة وأن نفس هذا الاشكال يشمل العديد من القطاعات الانتاجيّة و الخدميّة الأخرى على غرار السياحة وبعض الثروات الطبيعيّة التي يعهد الى جهات أجنبيّة باستغلالها وتسويقها في شكل صفقات طويلة الأمد تجني من ورائها هذه الأطراف و بعض الوسطاء المحليين ثروات طائلة تحول الى الخارج على حساب الدولة والشعب التونسي .وكثيرا ما يكون القطاع الخاص المتنفذ القريب من دوائر السلطة أثناء فترة حكم النظام السابق وأيضا بعد الثورة هو المستفيد من هذه الصفقات بعد أن تخلّت الدولة لفائدته، بحجة الخوصصة، عن أي دور في المنظومة الانتاجيّة وذلك في إطار تنفيذ الشروط و البرامج المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي .
وعلى سبيل المثال تهيمن وكالات الأسفار الأجنبيّة على قطاع السياحة التونسي على مستوى التسويق ،وبالتالي فإن نسبة هامة أو الأهم من أرباح القطاع تبقى بالخارج مقابل خدمات الإشهار وكافة الأنشطة الأخرى ذات الصلة .كما أن إقامة المشاريع السياحية بتونس يوفر للمصدرين الأجانب سوق قارة لتصدير مواد التجهيز والبناء والعديد من المستلزمات الضرورية في كافة مراحل البناء والصيانة وغير ذلك من الأنشطة .ويكفي أن نتصور حجم الخسائر التي يكلفها هذا القطاع بالعملة الصعبة خاصة بعد انهيار مردوديته بعد الثورة بفعل تضافر عوامل عديدة وعلى رأسها تنامي الارهاب المسلح وانهيار الأوضاع الامنية بليبيا والمنطقة المغاربية عموما.
ضرورة القيام بثورة صناعية و فلاحية لانقاذ الاقتصاد التونسي
ومهما يكن من امر فإن تونس مدعوة لبناء استراتيجيتها التنموية الجديدة على احياء خيار التصنيع الوطني القائم على تحديث الفلاحة و تحقيق الامن الغذائي و ايضا الاكتفاء الذاتي التكنولوجي باعتبارها من الركائز الاساسية للسياسات الاقتصادية الناجحة للدول الصاعدة.و في هذا الاطار لا بد من التفكير في ادماج الصناعات الوطنبة من خلال الانخراط في تصنيع المواد والتجهيزات الضرورية لعملية الإنتاج و ذلك لدفع الاقتصاد الانتاجي بتونس والحد من العجز التجاري و من التبعية الاقتصادية و التكنولوجية للخارج .
و الملاحظ ان المراجعة الجذرية للسياسة و الخبارات الاقتصادية التونسية تنسجم مع مقتضيات الدستور و تحديدا بنوده المتعلقة بالحوكمة وحسن التصرف في الثروات الوطنيّة التي يفترض أنها تعد بموجب الدستور من صميم مسؤوليّات الدولة الأساسيّة والحال أن الجميع يعلم عن استفحال الفساد وانتشاره في عديد المجالات و منها الأنشطة المرتبطة بالاستثمارات الخارجية بأطراف اقتصادية دولية، كما توجد شبهات قويّة عن تواطئ أطراف ولوبيات تونسيّة مستفيدة من هذه الظواهر الاجراميّة المضرّة بالاقتصاد وبالمصالح العليا للوطن .
و لا شك ان معالجة هذه المعضلات لن يكون سهلا ، بفعل ارتباطها بادماج تونس في العولمة ألاقتصادية و ما ترتب عن ذلك من انفتاح اقتصادي كلي على الاتحاد الاوروبي و السماح للمستثمرين و الشركاء و المصدرين الاجانب بحرية النفاذ للأسواق التونسية و تحويل الأرباح الى الخارج بينما تكتفي الدولة لتونسية وقطاع الأعمال المحلي بنسبة ضئيلة من النشاط الانتاجي والأرباح مقابل تمكين الجهات الخارجيّة من الانشطة الانتاجيّة الزراعيّة والصناعيّة أو الاستكشافيّة والخدميّة والتجاريّة ذات الربحية العالية و القدرة التشغيلية الهامة ومن ذلك مصانع الاسمنت التي تمت خصخصتها في ظروف مريبة في ظل النظام السابق وكذلك شأن قطاع تكنولوجية الاتصال والتجارة الداخليّة عبرالمساحات التجاريّة الكبرى .
و هذه هي الأسباب التي جعلت تونس عاجزة عن الإقلاع إقتصاديا وصناعيا كما أنها غير قادرة عن الإستفادة من منطقة التبادل الحر للسلع الصناعية مع الإتحاد الأوروبي بحكم فشل برنامج تاهيل نسيجها الصناعي الذي كاد يندثر بفعل هذه المنافسة غير المتكافئة.
ضرورة مراجعة سياسة جلب الاستثمارات الخارجية و اتفاقيات التبادل الحرمع أوروبا
والملاحظ أن النسبة الكبرى من الاستثمارات الخارجيّة و الأوروبية تتجه نحو قطاع استكشاف وإنتاج النفط والطاقة في حين شهدت الاستثمارات غير المقيمة والمصدرة كليا في القطاعات الصناعيّة تراجعا كبيرا تحت تأثير الأزمة الاقتصاديّة العالميّة المستفحلة بأوروبا منذ 2008 .وهذا ما دفع الدولة التونسية لمضاعفة الامتيازات، المبالغ فيها أصلا، لفائدة هذا الصنف من المؤسسات لتحفيزها على الاقبال والبقاء بتونس علما أن هذه الحوافز بلغت حد السماح لها بتسويق %50 من انتاجها بالأسواق التونسيّة والحال أن هذه الشركات تتمتع باعفاءات كليّة من الضرائب وبدعم مالي لأنشطتها لكونها ملتزمة قانونيا بتصدير كامل انتاجها .
وهكذا تم الانحراف بهذه المنظومة العاملة منذ مطلع السبعينات في إطار تحفيز الصناعات التصديرية الخارجية، لتتحول الى أداة لضرب المنظومة الانتاجية المحليّة التي تعاني أصلا من الهشاشة ومن المنافسة غير المتكافئة بحكم خضوعها للضرائب ،وهذا فضلا عن معاناتها من اغراق السوق التونسية بالسلع المهربة عبر مسالك الاقتصاد الموازي القائم أيضا على التعامل النقدي بالعملة الصعبة المهربة خارج المسالك البنكية الوطنية علما انه يهيمن على أكثر من نصف الدورة الاقتصادية الوطنية .
وعلى صعيد متصل تحول نظام الصناعات التصديرية الى احدى البوابات التي تستغلها شبكات الجريمة المنظمة في عمليات تهريب وتبييض أمول وضرب الاقتصاد الوطني ومقدرات الدولة التونسية من خلال استغلال الحوافز المتاحة للمستثمرين الأجانب والحال أن بعضهم ليست لهم أنشطة حقيقية في مجالات النشاط والتصدير المصرح بها .
كما ساهمت اتفاقية التبادل الحر للسلع الصناعية مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995 وقبلها البرامج الاصلاحية المبرمة مع الصندوق النقد الدولي عام 1986 في مزيد اضعاف المنظومة الانتاجية الصناعية التونسية وتلاشيها وتحويل تونس الى مجتمع استهلاكي مفتوح أمام المنتجين والمصدرين الأجانب وهو ما يؤكد فشل اندماج الاقتصاد التونسي في العولمة كاقتصاد انتاجي و صناعي على غرار الدول الصناعية الصاعدة .
غير أن السلطات الحاكمة بتونس بعد الثورة لم تستخلص العبر من فشل الخيارات الاقتصادية الانفتاحية للنظام السابق التي أدت الى هذه النتائج الكارثية بل أنها ماضية في مزيد تكريسها من خلال الخضوع مجددا منذ 2013 لما يسمى بالبرامج الاصلاحية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي وكذلك توسيع الشراكة مع الاتحاد الأوروبي من بوابة اتفاقية التبادل الحر الشاملة والمعمقة الجاري التفاوض حولها وهي ستشمل بقية القطاعات الاقتصادية بما في ذلك السلع الزراعية والخدمية و لحال أنها ايضا غير قادرة علي مواجهة المنافسة الأوروبية بحكم التفاوت الكبير في مستويات التنمية .
وفي هذا الإطار جاء مشروع مجلة تشجيع الاستثمار الجديد و قانون الشراكة بين القطاعين العام و الخاص وبقية مشاريع القوانين المثيرة للجدل المقدمة في شكل اصلاحات متفق عليها مع مؤسسات النقد العالمية ،وهي تهدف الى تكريس الانفتاح الكلّي لتونس أمام المستثمرين الأجانب للعمل دون قيود في كافة القطاعات الانتاجية مع السماح لهم بتسويق منتجاتهم محليّا في أفق 2018 وفقا لتصريحات وزير المالية .
ولهذه الاسباب يخشى أن يؤدي هذا الانفتاح المبالغ فيه و غير مدروس العواقب الى خيبات جديدة كما أنه لن يضمن تحقيق الهدف الأساسي المنشود منه وهو استقطاب الاستثمارات ذات القيمة المضافة العالية خاصة وأن الحوافز الجمركية والضريبية لم تعد كافية لتحفيز مثل هذا الصنف من المستثمرين الأجانب الذين يفضلون الاتجاه الى الدول الصناعية الصاعدة لما توفره لهم من اسواق مغرية و منظومات صناعية جاهزة وأيادي عاملة مختصة تمكنهم من تقليص كلفة الانتاج والحفاظ على تنافسيتهم في الأسواق العالميّة علما أن تونس لا تتوفر فيها هذه المواصفات وهو ما يقلص من جاذبيتها كوجهة استثمارية ،وهذا دون إعتبار تدهور مناخ الأعمال و دخول الإقتصاد التونسي مرحلة الركود و الإنكماش وتصاعد التهديدات الأمنيّة التي ساهمت خلال السنوات الأخيرة في تراجع ملموس للاستثمارات الوافدة على تونس وكذلك مغادرة العديد من المستثمرين التونسيين والأجانب الى دول أخرى .
وخلاصة القول أن تونس مدعوة لمراجعة جذرية لسياساتها التنموية و العودة الى التخطيط الإستراتيجي المستوحى من التجارب التنموية الناجحة للدول الصاعدة و بناء إستراتيجيتها الجديدة للتنمية على خيار التصنيع و تجديث الفلاحة باعتبارها من الركائز الأساسية للتنمية الحقيقة ولتحديث المنظومة الانتاجيّة وإدماجها وبناء اقتصاد انتاجي قادر على الاندماج بنجاح في الدورة الاقتصادية العالمية.
- دبلوماسي و سفير سابق
شارك رأيك