بقلم : د. فتحي المسكيني*
” لماذا الشعراء.. في الزمن الرديء؟” – هكذا تساءل هلدرلين في مطلع القرن التاسع عشر، ضمن نشيده الكبير خبز وخمر، وفرض على الفلاسفة من بعده ضرورة رسم إجابة ما تكون على قدر هول ما سمعوا من الشاعر الأقصى نفسه، ذاك الذي حوّل الكتابة إلى تمرين حقيقي على جنونه الخاص.
وعبثاً حاول كانط أو هيغل أن يعيدوا الشعر إلى حظيرة الفنون الجميلة، نعني إلى أن يقبل بأن يواصل تقلّد وظيفته منذ الإغريق: تخييل اللاوجود بوسائل بشرية وتحويله إلى حكاية (muthos) ملائمة لطمأنة الأطفال على مصير العالم، لكنّ سؤال هلدرلين ينتمي إلى صنف آخر من الحيرة: ثمة بقعة أخلاقية استثنائية بقدر ما هي فارغة من المعنى اسمها الإنسانية.
كان الشعر منذ أوّل أمره على علاقة طيّبة بالجنون. وقال ديمقريطس سابقاً: «لا يمكن أن نكون شعراء دون قدر ما من الجنون». وطمأننا أفلاطون بأنّه «متى أصابه الحبّ يتحوّل أيٌّ كان إلى شاعر». وكانت العرب تظنّ أنّ وراء كلّ شاعر هناك جنّية ما، تحرس جنونه وتخفيه عن أعين الفضول القبَلي للعقلاء.
كيف يجدر بنا، نحن سكّان آخر الزمان الذين تحدّث عنهم القدماء، أن نفهم هذه القرابة المبكّرة بين الشعر والحب والجنون؟ إنّ ما يجمع بين هذه الأحوال الحدودية الثلاثة مع أنفسنا العميقة هو هذا: أنّها تشهد كلّها بأشكال مختلفة على استحالة الحياة – أيّ حياة – بما هي كذلك، نعني تشهد على هشاشة العالم كما يقترح نفسه على الإنسانية.
أن نكتب الشعر مثل أن نحبّ أو أن تقع عقولنا تحت غيمة جنون ما. كلّها حالات ترفع حدوداً ما كنّا نظنّ أنّها حدود العالم كما عشنا فيه أو كما ألفناه إلى حدّ الآن. والحال أنّ ما يميّز الإنسان المعاصر هو كونه الجيل البشري الوحيد وغير المسبوق الذي رفع كمّاً هائلاً من الحدود، مع ذاته أو مع مجتمعه أو مع عالمه، كان الإنسان التقليدي لا يشرئبّ إليها حتى في الحلم، لكنّ رفع الحدود لا يكفي كي يتحوّل أحدهم إلى شاعر، كما لا يكفي أن تكون لنا مشاعر حتى نحبّ، وكما لا يكفي أن نفقد عقولنا اليومية حتى نجنّ.
لسنا محميّين ضد الشعر
ما هو مؤكّد لدينا اليوم هو أنّ الشعر لم يعد يقع خارج أسئلة الفلاسفة عن الحقيقة أو بعيداً عن تأمّلاتهم القصوى حول شكل الحياة التي لا تزال متاحة في أفق البشر. ومع ذلك فإنّ حدود الشعر صارت أكثر وضوحاً من أيّ وقت مضى. قال زرادشت نيتشه سنة 1884: «والحقّ أنّني أخجل من أنّه لا يزال ينبغي عليّ أن أكون شاعراً». ممّ يخجل الشعراء؟ إذن. وربّما في سياق أكثر نضجاً من حيث رعبه وفظاعته، أتى أدرنو سنة 1949 إلى قول جملته المثيرة: «أن نكتب الشعر بعد أوشفيتس هو عمل بربريّ». ما البربريّة في كتابة الشعر بعد المحرقة؟ ألا تحتاج الإنسانية إلى شعراء يحرسون ذاكرة الموتى خارج أقدارهم؟
طبعاً، لا نيتشه كفّ عن مواصلة التدرّب على ملامح الفيلسوف/ الشاعر الذي ينجح آخر الأمر في خلق ألواح خير وشرّ جديدة للنوع البشري. ولا أدرنو تردّد في رفع اللبس أكثر من مرّة عن قولته المرعبة، موضّحاً بأنّه لا يعني بذلك إلاّ إحياء الاستعارات الميّتة عن أنفسنا، بل وأنّه «ينبغي كتابة الشعر، في المعنى الذي أشار إليه هيغل، في جمالياته، بأنّه طالما يوجد وعيٌ بعذابات البشر، يجب أن يوجد الفن بوصفه الشكل الموضوعي لهذا الوعي».
إنّ سرّ الشاعر كما يقول بودلير هو أنّ «الشاعر يدخل، متى أراد، في شخصيّة أيّ كان». لسنا محميين ضدّ الشعر، كما نظنّ عادة. صحيح أنّ «الشعر لا هدف له إلاّ ذاته» كما ينبّهنا بودلير نفسه، لكنّ الشعر ليس مهنة، أو ليس مهنة على حدة. إنّه إمكانيةُ مستحيلٍ نائمة في قدر أيّ واحد منّا، لكنّ بعضنا فقط ينجح في إثارة اهتمامها نحوه، وذلك بقدر ما يعرّض حياته إلى المستحيل، أي إلى رفع حدود العالم مرّة إثر أخرى، ودونما موعد مسبق أو أيّ تبرير أخلاقي جاهز.
مهمّة الشاعر
لا يكتب الشاعر عن هذا الموضوع أو ذاك إلاّ عرضاً. الشعر، مثل الفلسفة، لا موضوع له، بل هو كما قال نوفاليس (1798) ذات مرة، «تربية الأرض» (Bildung der Erde). كلّ شاعر هو حسب نوفاليس مكلّف بمهمّة محدّدة عليه أن يصرف لها كامل وجوده: أن يربّي الأرض، أو أن يشكّل إمكانية الأرض في أفق شعب كبير. وبهذا المعنى هو يسمّيه باسم «الشاعر المتعالي»: الذي يهب شروط إمكان إعادة تربية الأرض، ذاك الذي ينجح في خلق التعالي المطلوب خارج أفق البشر اليوميين من أجل أن يمنحهم ما يبحثون عنه طلية حياتهم: شكل الأرض. ولا يعني شكل الأرض سوى «العالم» نفسه. من دون جموح جسور على إعادة رسم حدود العالم في ثقافة ما لا يظهر الشعراء إلاّ عرضاً.
لكنّ الفلاسفة والشعراء جميعاً هم على وعي منذ قرنين بأنّ الشعر في أفق المعاصرين هو على خلاف الشعر اليوناني أو الروماني أو العربي قد صار، كما قال شليغل، يعمل بلا ميثولوجيا. لم تعد ثمّة «أيام» أسطورية تنقذ الشعر من السرد الحزين لإمكانية الإنسان. من هنا تتأتّى استثنائيّة الشعر في أفق المعاصرين: لقد دخل الشعر في وحدة أخلاقية غير مسبوقة. لم يعد للشعر من موضوع يخصّه إلاّ إمكانية العالم بما هو كذلك. وبهذا المعنى سمّى فكتور هوغو الشاعر بأنّه «عالَمٌ مسجون في شخص إنسان». كلّ قصيدة هي محاولة هروب من سجن ما، نعني من شكل من الحياة اليومية التي لم تعد قابلة للحياة. يدفن الشعراء من إمكانيات الموت بقدر ما يبدعون من خطوط الهروب نحو الإنسانية. وكان أبو فراس قد سرد تفاصيل الشاعر السجين في أفق أنفسنا القديمة. لكنّ ما عاشه في المفرد تحوّل لاحقاً إلى تمرين كوني للنوع البشري.
لا يهرب الشعراء من الواقع بل يبحثون عنه. الشعر، حتى نأخذ من معجم آلان باديو، هو نوع من «البحث عن الواقع المفقود». ولا يعدنا الشعراء بأيّ مستقبل، بل يخترعونه. قال ستوندال: «الجمال وعد بالسعادة»، لكنّ الشعر تمرين فذّ على تأجيل العالم كما هو. وحدهم الشعراء يقفون على حدود أنفسنا العميقة: يستعملون كلّ تلك المساحة من الانفعال التي لا تطؤها أقدام الفضول اليومي: نعني الضجيج المناسب لتأمين اللقاء بين البشر بعد عقد تفاهم حول حدود العالم فيما بينهم. الشعر تأجيل لبق لكلّ أنواع الحوار. لا يتحاور الناس إلاّ بقدر ما يسكتون عن الشعر أو بقدر ما يستغنون عمّا يمكن أن تفعله القصائد، والبعض يخاف الشعر.
الشعر لديه ما يقوله
الشعر مخيف لأنّه لا يقف حيثما ينتهي الحوار اليومي، إذ ثمّة حرّية في قلب كل شاعر لا يستطيع أيّ فضول حديث أن يتحمّلها. تنبني حداثة كلّ معاصر على عقد تفاهم حول حدود ما يمكن وما لا يمكن الخوض فيه، ويشبه أن تكون الحياة الحديثة دائرة من المتكلّمين الذين أنهوا كلّ ما يمكن قوله بمجرّد الحضور، لكنّ الشاعر ليس واحداً منهم. وهذا هو تعريفه الوحيد: أنّه المتكلّم الوحيد الذي لديه شيء جديد يمكن قوله. ويجدر بنا أن نصوغ ذلك في شكل مفارقة: وحده الشعر لا يزال يملك ما لا يقول.
قال باشلار: «الشعر هو اللغة الحرّة إزاء ذاتها». إذا كان الشعر مجرّد لغة لا يقابلها موضوع يومي يهمّ فضولنا، فهو اللغة الوحيدة التي لا تزال تحتفظ بحريتها إزاء ذاتها. كلّ ما تقوله الحياة الحديثة لنا هو لغة مرتّبة، مكرّسة، متوقّعة وغير حرة، أو هي لغة تعني بقدر ما تسكت عمّا لا تقوله، لكنّ الشعر يستمدّ أصالته الاستثنائية من كونه يكتب صمتنا بكل حرية، لكنّ الحرية ليست الطوباويّة. ويدعونا إدغار موران إلى التمييز بين الشعر والطوباوية: فما تحتاجه الحياة راهناً ليس الطوباوية- أي الحلم ببلاد اللا-مكان- بل تحتاج الشعر.
الشعر ليس جميلاً
ولكن حذار ممّن يحبس الشعر في جماليته. الشعر ليس جميلاً بالضرورة. الفضول الأدبي وحده يحصر الشعر في فكرة الجمال. يشبه الشعر أن يكون توقيعاً تحت واقعة الحياة، وحسب رينيهشار هو التوقيع الوحيد. ومن يوقّع تحت حياته أو تحت شكل حياته أو تحت إمكانية الأرض الخاصة به أو تحت عالمه هو شاعر. ونعني بذلك أنّه يرتفع إلى ذلك القدر من «اللامعنى» الذي يخيّم على حياة أيّ كان أو على تصوّره لذاته. قال جورج باتاي: «إنّ الشعر الذي لا يرقى إلى لا- معنى الشعر هو ليس سوى فراغ الشعر، ليس سوى شعر جميل».
الشعر المعاصر كفّ عن أن يكون مجرّد وعد بالجمال، لأنّ الإنسانية كفّت عن انتظار أيّ نوع من الخلاص من خارج آلامها. يحتاج الجمال منذ اليونان إلى قدر مناسب من التناسق بين أجزاء وجودنا. والشعر إنّما كان دوماً فنّ تناسق الحواس. وهذا كان تعريفاً كافياً لإمكانية الجمال في أفق البشر القدامى. نحن المعاصرين نعاني ممّا سمّاه أرثر رامبو «تعطيل جميع الحواس». قال: «يتعلق الأمر بالوصول إلى المجهول بواسطة تعطيل جميع الحواس. إنّ الآلام هائلة، لكنّ المرء ينبغي أن يكون قويّاً، أن يكون قد وُلد شاعراً، وأنا عرفت نفسي شاعرًا. وليس هذا خطئي».
الشعر ليس خطأ لأحد، بل هو على العكس من فضول العقلاء تعطيلٌ لائق للحواس التي فقدت قدرتها على الإلمام بالعالم. وحده الشاعر بإمكانه أن يقول لنفسه يوماً ما عبارة رامبو المرعبة: «أنا هو آخر» (Je est un autre). وحده شاعر بإمكانه أن يحتمل غيريّته كإنسان من دون تردّد: أن يشعر بأنّه كلّ الذين لم يكُنْهم يوماً ما، وأنّه يشتاق إليهم، وأن يرغب في أن يقرأ عليهم فلذات حواسّه الأكثر استثنائيّة. وحده الشاعر يشتاق إلى الذين لا يعرفهم، ولا يجد في هكذا شوق أيّ تصادم مع حسّه بالواقع.
توقيع تحت واقعة الحياة
حذار ممّن يحبس الشعر في جماليته. الشعر ليس جميلاً بالضرورة. الفضول الأدبي وحده يحصر الشعر في فكرة الجمال. يشبه الشعر أن يكون توقيعاً تحت واقعة الحياة، وحسب رينيه شار هو التوقيع الوحيد. ومن يوقّع تحت حياته أو تحت شكل حياته أو تحت إمكانية الأرض الخاصة به أو تحت عالمه هو شاعر. ونعني بذلك أنّه يرتفع إلى ذلك القدر من «اللامعنى» الذي يخيّم على حياة أيّ كان أو على تصوّره لذاته.
” أول الشعر”
” أجمل ما تكونُ أن تُخلخلَ المدى
والآخرون – بعضهم يظنّك النّداءَ
بعضهم يظنّك الصّدى.
أجمل ما تكونُ أن تكون حجّةً
للنور والظّلامِ
يكون فيك آخرُ الكلامِ أوّلَ الكلامِ
والآخرون – بعضهم يرى إليك زبدًا
وبعضهم يرى إليك خالقًا.
أجمل ما تكون أن تكون هدفًا –
مفترقًا
للصّمتِ والكلامِ.”
أدونيس
* الدكتور فتحي المسكيني، فيلسوف تونسي وأستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية
- نشر المقال بجريدة “الاتحاد” في 24 مارس 2016
شارك رأيك