بقلم احمد الرحموني*
رغم أن الدستور – المصادق عليه منذ 27 جانفي 2014 – قد بقي في جوهره خارج مجال التطبيق باستثناء ما يتعلق ببعض الاليات الضرورية لممارسة السلطة كالأحكام الخاصة برئيس الجمهورية أو بالحكومة أو بمجلس نواب الشعب فضلا عن إبقاء أغلبية الحقوق والحريات الواردة بالباب الثاني على مستوى الاعلان المبدئي والتأخير غير المبرر في ارساء مقومات السلطة القضائية والهيئات الدستورية المستقلة.
وبقطع النظر عن أسباب هذا التعطيل فمن الثابت ان مرحلة الافتخار سواء بالثورة أو بالدستور قد تم تجاوزها وأضحت الاهداف المرتبطة بأحدهما أو بالآخر من قبيل الاطلاقات المنزوعة المعاني !
ويمكن ان نعتبر – تجسيما لهذا الواقع – ان ما ورد بتوطئة الدستور من اعتزاز بنضال الشعب التونسي والعمل على تحقيق اهداف ثورة الحرية والكرامة والوفاء لدماء الشهداء الأبرار والقطع مع الحيف والظلم و الفساد قد بدَأَ – بصفة متسارعة – يتدحرج نحو القاع ويفقد حتى حضوره الرمزي في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية!
ولكي لا نبتعد كثيرا عن الموضوع يمكن أن نجد امثلة على ذلك في عدد من المفارقات: من ذلك
- اعادة المنظومة القديمة للحكم وترقية وجوهها ورموزها قبل الشروع بصفة فعلية في محاسبتهم!
- طرح مشروع /فضيحة للمصالحة مع الفاسدين في سياق التوجهات المعلنة لمقاومة الفساد!
- اعلان حالة الطوارئ والتمديد فيها والتضييق على الحريات الفردية في مواجهة التأكيد على حرية التعبير كإحدى مكتسبات الثورة!
- استعادة تماثيل بورقيبة وتنصيبها من جديد دون اي اكتراث بتخليد ثورة الحرية والكرامة ولو بتمثال يتم تمويله بتبرعات الناس!…الخ
وفي خضم احتفالنا هذا العام بذكرى 9 افريل 1938 – التي اعتبرت منذ الاستقلال عيدا وطنيا للشهداء – انتبهت بالصدفة الى موضوع اثاره بعض المدونين بالصحافة الاجتماعية (فايسبوك) يتعلق بشعار الجمهورية التونسية (أو ما يطلق عليه طغراء الجمهورية التونسية ) وقد أشار إلى ذلك بقوله “مضت سنتان ونيف على التغيير الرسمي لشعار الجمهورية التونسية والسلطة لم تنشر بعدُ حتى طلب عروض لتغيير رسمه. هاته السلطة العائدة من رحم ما قبل ديسمبر 2010 لا تهمها الكرامة! ” (Iheb Ghariani )
وفي الحقيقة كان ذلك منطلقا للبحث في مسألة لم تشغلنا كثيرا (رغم انها تتعلق بالرموز الوطنية وحتى “الثورية”): هل فعلا لم ينتبه احد الى ضرورة تجسيم الشعار “الثوري” الجديد بالسرعة التي تقتضيها المرحلة التي تطمح الى تحقيق اهداف ثورة الحرية والكرامة ؟
لكن قبل ان نجيب عن ذلك قد يكون من المناسب أن نعود – ولو بصورة خاطفة – الى التاريخ القريب للشعار الوطني لكي نكتشف أن هذا الشعار قد حافظ بداية من سنة 1956 الى غاية سنة 2014 على ثلاث كلمات رئيسية هي: حرية – نظام – عدالة وان اعلان النظام الجمهوري لم يؤد الى تغيير ذلك بل ان دستور 1 جوان 1959 قد أقر نفس الشعار والكلمات.
وإضافة لذلك يشار الى أن قوانين ثلاثة قد صدرت في 13 سبتمبر 1956 وفي 30 ماي 1963 و2 سبتمبر 1989 بقصد اقرار عناصر ذلك الشعار غير انها اقتصرت على تغيير بسيط في ترتيب الكلمات المكونة للشعار مع اقرار الرسوم المجسمة له.
وفي ضوء ذلك يتضح ان اضافة جوهرية قد حصلت في متن الشعار الجمهوري الذي اضحى يعد اربع كلمات رئيسية هي: حرية- كرامة – عدالة – نظام وذلك بمقتضى الفصل الرابع من الدستور الجديد. لكن هل وجدت تلك الاضافة – التي اعقبت ثورة الحرية والكرامة وترافقت مع الدستور الجديد – من “يتلقفها” بكامل الادراك لرمزية الكرامة والوفاء لدماء الشهداء ام بقيت كزائدة لا قيمة لها او كصدفة فارغة. ؟!
لم يؤد البحث في ذلك الى العثور على أي مظهر من مظاهر الوعي برمزية الشعار الجديد الذي لا يكلف تجسيمه عناء استثنائيا أو مالا وفيرا :
أولا – أحيل الامر المتعلق بإجراء المناظرة الوطنية على الشعار واختيار افضل عمل فني يجسم “الطغراء ” الجديد الى وزارة مختصة هي وزارة الثقافة (و المحافظة على التراث) و هو ما يعكس رؤية ضيقة تميل الى اختصار شعار الجمهورية في “عمل فني” في حين ان المسألة تكتسي بعدا وطنيا ودلالة سياسية تمثل امتدادا للمرحلة التأسيسية وتجسيما لمعنى الحرية والكرامة في مسار الثورة التونسية.
ويبدو من المناسب ان يتولى الاشراف على تنفيذ جميع الاعمال المتصلة بشعار الجمهورية – بما هو تجسيم في بعض عناصره لمعاني الثورة – رئيس الجمهورية الذي يشير له الدستور بأنه ” رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور” (الفصل 72). وفي هذا المجال لرئيس الجمهورية ان يقترح مشروع قانون جديد – وهو ما يتوافق مع المرحلة الجديدة – يتعلق بالشعار – في تسميته وأوصافه الفنية – او تنقيح القانون الحالي الصادر في تنظيم ذلك بتاريخ 30 ماي 1963 وذلك بالنظر الى ان المبادرة التشريعية يمكن ان تمارس بمشاريع قوانين مقدمة من رئيس الجمهورية (الفصل 62 من الدستور)
ثانيا – من الثابت ان تطبيق ما تقضيه احكام الدستور الجديد – بعد اكثر من عامين على صدوره – لم يتجاوز في هذا الشأن مرحلة اعلان المناظرة الوطنية – بسعي من وزارة الثقافة والمحافظة على التراث – التي اصدرت في 26 فيفري الفارط دعوة عامة لتلك المناظرة و اقرت يوم 12 افريل 2016 كآخر أجل لقبول ملفات الترشح. ويذكر في هذا السياق ان نفس الوزارة قد سبق لها – على عهد الوزير السيد مراد الصقلي – ان بادرت في جوان 2014 بإعلان مناظرة وطنية لنفس الغرض وحددت لها اجلا لم يتجاوز -حسب نص الاعلان – يوم 10 سبتمبر 2014. ويبدو ان هذا الاعلان لم ينته الى اختيار أي من الاعمال الفنية المقترحة – على فرض وجودها – او التقدم بأي وجه في اعتماد الشعار الجديد للجمهورية.
ثالثا – يشار الى ان وقتا طويلا قد أهدر في الحكومتين الاخيرتين (برئاسة السيدين المهدي جمعة والحبيب الصيد) دون انجاز الشعار وانفاذه ويظهر ان المشروع قد تم تجميده على عهد الوزيرين السيد مراد الصقلي (29 جانفي 2014- 6 فيفري 2015) والسيدة لطيفة لخضر(6 فيفري 2015- 6 جانفي 2016).
رابعا – يلاحظ ان الاعلان الاخير الصادر عن وزارة الثقافة والمحافظة على التراث قد تضمن دعوة عامة موجهة لمختلف الفنانين التشكيليين والمؤسسات الجامعية العمومية والخاصة المعنية وكذلك للطلبة من ذوي الاختصاص بغرض تقديم ملفات ترشحهم لاختيار أفضل عمل فني يجسم الطغراء الجديد للجمهورية التونسية مقابل جائزة مالية للعمل الفائر قدرها 15.000 د. ويقتضي ذلك – بعد انتهاء الاجل المتعلق بتقديم الترشحات – تكوين اللجنة التي ستتولى فرز الملفات واختيار الشعار الافضل من بين الاعمال المقدمة ثم اعداد مشروع القانون المتعلق باعتماد الشعار وهو في العادة لا يطرح اشكالا كبيرا ثم المصادقة عليه بمجلس الوزراء ثم دراسته بمجلس نواب الشعب طبق الاجراءات التي تقتضيها القوانين العادية.
ومهما كانت الاعذار فان موقفا من هذا القبيل تجاه احد الرموز الاساسية للسيادة الوطنية (العلم –العملة الخ…) يثير بالتأكيد تساؤلات اكثر عمقا حول موقف السياسيين من القضايا الكبرى المرتبطة بمصير البلاد.
*رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
شارك رأيك