بقلم : يزيد صايغ*
تُعتبر استعادة ضبط الأمن في الدول العربية ضرورية لإعادة بناء السلم الاجتماعي، واستئناف النمو والتنمية الاقتصادية، وإعادة دمج الأنظمة السياسية شديدة الانقسام ومؤسسات الدولة المفكّكة. كما تؤكّد تجربة الدول العربية أن المقاربات التكنوقراطية في ما يتعلَّق بإصلاح قطاع الأمن عاجزة عن تحقيق الغرض.
أثارت الذكرى الخامسة للانتفاضات التي تحدّت الحكام السلطويين في ست دول عربية في العام 2011 العديد من المراجعات. بعض المعلقين يصرّون على أنه لا يمكن اختزال تحليل العمليات الاجتماعية والسياسية الجارية إلى مجرّد “نجاح أو فشل”، حيث يقلّل هذان المصطلحان من أهمية التحوُّل الذي شهده كل بعد من أبعاد السياسة في المنطقة. وخلص آخرون إلى أنه ينبغي إعادة تسمية الانتفاضات وما أعقبها بـ”الشتاء العربي”، لا بـ”الربيع”.
وبدلاً من تحقيق آمال الإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية، ردّت معظم الحكومات بـ “المزيد من الحروب والعنف وبقمع أشد للذين يتجرأون على رفع أصواتهم من أجل مجتمع أكثر عدلاً وانفتاحاً”، كما لخصت منظمة العفو الدولية الوضع.
هشاشة الدولة القطرية العربية
يتناقض تجدد قمع المعارضة بشكل صارخ مع انفجار الغضب المكبوت في العام 2011؛ وهو القمع الذي ركَّز على استخدام قوات الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي المتعسفة. لكن، في حين يتفق معظم المعلقين الرصينين على أن الحكم السلطوي قوي في جميع الحالات – باستثناء تونس – إلا أنهم يلحظون أيضاً التدهور الشديد في التماسك المؤسّسي والقدرات، مايثير تساؤلات بشأن صمود وبقاء العديد من دول الربيع العربي، وكذلك دول أخرى خضعت إلى أشكال سابقة من العمليات الانتقالية غداة النزاع المسلح والاحتلال.
قد أصبحت الهياكل السياسية الحاكمة أكثر انغلاقاً أمام الحوار، وأجهزتها القمعية أشدّ قسوة من أي وقت مضى. وهي وعرقلت أي إصلاحات ذات مغزى، لكن الدول التي تتولى إدارتها أصبحت أكثر هشاشة أيضاً.
تتجلَّى العلاقة بين تفاقم حدّة الاستبداد، من جهة، وهشاشة الدولة، من جهة أخرى، بوضوح تام في ما نسميه بـ”عمومية عمل الشرطة”: إنفاذ القانون والحفاظ على النظام العام. فقد كان عمل الشرطة، جنباً إلى جنب مع نظام العدالة الجنائية الرسمي المرتبط به، في حالة خلل خطير حتى قبل العام 2011، إلا أنه تدهور أكثر في خضمّ السياسة الانتقالية المضطربة.
كشف الربيع العربي بصورة مثيرة مدى الغضب الشعبي تجاه قوى الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي التي حافظت على الأنظمة الاستبدادية.
مقاربات إصلاحية مخطئة
يتمثّل التحدي الآن في إعادة بناء وإصلاح القطاعات الأمنية (أي الشرطة والأمن والأجهزة شبه العسكرية وسواها كإدارات الجمارك) االتي تراجعت إلى السلبية المتجهمة أو تخندقت في النزعة العدوانية الحادة تجاه المواطنين والناشطين. غير أن الأطر العامة التي تتعامل من خلالها الحكومات الغربية والمنظمات الدولية مع هذه المهمة بصورة تقليدية ليست كافية. إذ تركز هذه الأطراف بصورة كبيرة على تزويد القطاعات الأمنية بالتدريب الفني والمهارات الإدارية وقواعد السلوك والنظم الإجرائية لضمان “حوكمة ديمقراطية ” و”الرقابة المدنية” من خلال الشفافية المالية والمساءلة القانونية والسياسية.
هذه النتائج مرغوبة بلا ريب، لكنها تبقى غامضة جداً على صعيد الممارسة. والواقع أن التركيز المفرط على المقاربات التقنية ينطوي على خطر تحسين قدرة القطاع الأمني على استخدام التكتيكات والمعدات القمعية على نحو أكثر كفاءة، في حين يحدّ أكثر من حوافزه للالتزام بحكم القانون واحترام حقوق الإنسان وحقوق المواطنين.
وفي بيئة يكون فيها العقد الاجتماعي والهوية الوطنية والدولة نفسها منكسرة، أو يجري التفاوض بشأن هذه القضايا، غالباً وسط تدخل القوى الإقليمية والدولية، تكون طبيعة عمل وغرض الشرطة، وهو وظيفة مميِّزة للدول الحديثة، موضع شك.
معضلات مُقبلة…هناك ثلاثة أنواع من المعضلات تعترض إصلاح القطاع الأمني.
الأول هو “التسييس المفرط”، حيث يتحوّل كل جانب من جوانب عملية الانتقال إلى منافسة خاسرة بين المعسكرات السياسية المتنافسة، مايؤدّي إلى شلّ الحكم. وبالنسبة إلى قطاعات واسعة من المواطنين، باتت شرعية الحكومة تتحدّد من خلال قدرتها على قمع الأطراف أو الجماعات السياسية أو الاجتماعية التي يُنظر إليها على أنها تُشكِّل تهديداً، لا من خلال تمسكّها (أي الحكومة) بالديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، مايؤدّي إلى بعث الممارسات السلطوية. ونتيجة لذلك، يصبح العنف “العملة المتداولة” التي يتم من خلالها ممارسة الحوكمة والمعارضة على حد سواء.
إصلاح قطاع الأمن – بل وتحوّله التام في الواقع – هو جزء لايتجزأ من عملية الانتقال الديمقراطي
تشكل الأكلاف المالية المرتفعة لتحديث القطاعات الأمنية وإضفاء الطابع الاحترافي عليها المعضلة الثانية: وهي معضلة “الاقتصاد السياسي”. كذلك، تقليص القطاعات الأمنية التي تضخمت بصورة كبيرة يؤثِّر سلباً على معدلات البطالة، الأمر الذي يُفاقم التوترات الاجتماعية. إلا أن وضع حد للضلوع الواسع للقطاعات الأمنية في الفساد والأنشطة الاقتصادية الإجرامية، يشّكل تحدياً أكبر. وقد تطوّرت هذه السلوكيات عبر عقدين أو أكثر من التحرير الاقتصادي الذي يقوم على المحسوبية والخصخصة الجائرة، لكن وطأتها اشتدّت بصورة حادّة حين أدّت التحولات في الدول العربية إلى إضعاف الأطر التنظيمية وآليات الرقابة، ما أدى إلى “دَمَقرَطَة” الفساد،عبر إتاحة الفرصة لشرائح واسعة للانخراط به.
تتمثَّل المعضلة الثالثة في أن التحوّلات العربية كشفت اختلاف وجهات النظر والتوقعات داخل المجتمع في ما يتعلق بالغرض من عمل الشرطة. فنحن نتخيل الشرطة أساساً باعتبار دورها الأساسي هو محاربة الجريمة وتأمين السلامة العامة، إلا أن الأهم من ذلك هو دورها في الحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد والحدّ من المعارضة له. وقد عمَّق انهيار العقود الاجتماعية والتلاعب بالدستور الخلافات داخل المجتمع على القيم وعلى مفهوم الاقتصاد الأخلاقي العادل الذي ينبغي أن تتمسك به الشرطة، كما حفز على تزايد اللجوء إلى مقدمي الخدمات الأمنية المُوازين والقانون العرفي غير الرسمي، بما في ذلك أشكاله الإسلامية والقَبّلِيَة أو العشائرية.
إن استعادة عمل الشرطة بصورة فعَّالة أمر بالغ الأهمية من أجل إعادة بناء السلم الاجتماعي، واستئناف التنمية الاقتصادية والنمو، وإعادة دمج الأنظمة السياسية المنقسمة بشدة ومؤسّسات الدولة المنهارة، وترسيخها ضمن أطر دستورية تتمتع بالصدقية. لكن، وكما تظهر هذه المعضلات، أصبحت الخلافات حول مايشكِّل نظاماً اجتماعيا مقبولاً، واقتصاداً أخلاقياً وهوية وطنية مشتركة، جوهرية. وما لم يتم رأب صدع هذه الخلافات وتمكين عمل الشرطة بعد أن يتم إصلاحها بصورة حقيقية، فإن الدول العربية التي تمر بمرحلة انتقالية محكومة بأن تغرق في أتون صراعات أهلية لا تفتأ تشتدّ باطراد.
*باحث رئيسي مركز كارنيغي للشرق الأوسط
شارك رأيك