بقلم فرحات عثمان
لا شك أن قضية استغلال المدارس والمعاهذ صيفا لحفظ القرآن جاءت في وقتها للبرهنة على أن موضوع الهوية لن يقع فضه إلا عندما تحسن النية.
وحسن النية هذا سواء من جانب النخبة ذات المرجعية الإسلامية أو غريمتها ذات المرجعية اللائكية، إذ ليست هذه وتلك إلا سلفية متزمته : الأولى دينية والثانية مدنية.
فمن الخطأ القول بأن قضية الهوية التونسية قد تم الحسم فيها نهائيا بما وقع الاتفاق عليه في الدستور؛ إذ هذا النص المتصدّر نظريا لكل النصوص القانونية بقي حبرا على ورق.
فكل النصوص الشرعية المخالفة للدستور، ومنها البعض بصورة فاضحة، لا زالت تُطبّق في المحاكم رغم أنها تُصدر أحكامها باسم الشعب والعدل. فأي عدل هذا وعدد كبير من الأحكام ببلادنا قائمة على قوانين باطلة، غير دستورية؟
طرافة الهوية التونسية :
ألم يحن الوقت بعد لإطفاء هذه النار التي ستكون تداعياتها حتما التفريط في ما يمّيز البلاد التونسية من طرافة في هويته؟ فهي لا إسلامية متزمتة ولا متنكرة لأصولها؛ ثم هي ليست فقط أمازيغية عربية إسلامية، بل آخذة من كل جنس وثقافة بطرف في تمازج ناجح هو هذه الهوية التونسية التي نتجاهلها في تقليد أعمى سواء لشرق غوى أو لغرب تنكر لذاته.
إن الهوية التونسية، إذا كانت إسلامية، فهي أولا وقبل كل شيء صوفية؛ ونحن نعلم ما يمتاز به التصوّف من روحانية كونية؛ وهو أيضا أهم ما يميّز المعتقد الأمازيغي، إذ أغلب أولياء التصوف بالمغرب من الأمازيغ.
إلا أن الهوية التونسية أيضا متأثرة بمخيال عالمي أتى من كل صقع، بما أن أغلب حكام تونس وساستها كانوا من أصل أجنبي قبل أن تضمحل خاصيتهم الأولى في ذاتية هذه الأرض المعطاء التي قيل فيها أنها تكوّن بحق البلد العالم كما تختزله روح ما بعد الحداثة.
لذا، لا شك أن من يعتقد أو يقول بالإسلامية المحضة للهوية التونسية ليكذب أو يدجل وقاحة، أو هو في أفضل الحالات لا يعرف تاريخ هذا الشعب وجذور هذه البلاد العريقة.
كما لا يعرف شعبه بالمرّة من يدّعى انبتاته عن عاداته وتقاليده ودينه في عضوية حيوية؛ أي أنه غير ديني، بل روحاني، وغير عربي بل مستعرب، متفتح على كل الثقافات. وتلك كانت، ولا شك، سمة العرب الطاغية في أوج حضارة الإسلام لما في لغتهم وروحهم من اتسعاع ونبوغ وتوق للحرية بلا حدود. وبديهي أن هذه هذا هو التجذر الديناميكي التونسي.
فبنت وابن تونس الجميلة، بما فيهما أبسط مواطنيها، لأفهم لحال البلاد ومقتضيات زمنها من نخبها بعد أن حقق الشعب ثورته المابعد حداثية، أي انقلابه الشعبي كما أُسمّيه. فإن كانت الشعوب في العالم العربي في شراك نخبها القليلة الفهم لما يفرضه زمننا الراهن ويحتّمه من إصلاحات جذرية، فالنخب في تونس هي التي في أسر شعب مبدع خلاّق. وليس هذا بالغريب، إذ أننا في زمن الجماهير؛ فجماهيرنا الأنبغ من حكامها تعطي الدليل يوميا!
إبطال القوانين المخالفة للدستور حالا :
ويبقى السؤال : كيف يمكن للنخب التونسية أن تصبح متناغمة مع شعبها الذكي الذي جعل من بلده تونس الاستثناء ؟ الجواب أن ذلك لا يكون إلا بسياسة أخلاقية لا محيد عنها، أكتبها بالفرنسية Poléthique.
من المتحتم اليوم لتجاوز معضلة الهوية وفهمنا الخاطيء لها من استعمال الوسيلة الوحيدة التي لا مناص منها في بلد يطمح لمرتبة دولة القانون؛ وهي طبعا تحيين التشريع حتى نرفع منه كل القوانين المجحفة التي تخالف، لا الدستور فقط، بل الفهم الصحيح لدين التونسي كما نراه يعيشه في حياته، لا علنا، بل خفية بسبب ظلم تلك القوانين وإجحافها لحقه المشروع في حياة كريمة.
فمن عدم الأخلاق لا محالة التبجح بدولة القانون بينما حكّامها وقضاتها يواصلون العمل بقوانين لاغية، أبطلها الدستور طرا ! ولا شك أن انعدام الأخلاق يصل حدا فاحشا عندما تصبح هذه القوانين اللاغية مطية للشرطة والدرك لقهر الشعب وزيادة التنكيل بشبابه الطامح للحرية والانعتاق من ربقة كل القوانين المخزية، الموروثة عن الاحتلال والعهد البائد، والتي جاءت الثورة لإبطالها، فإذا هي لا تزال قائمة إلي يومنا هذا!
نعم، يقول النظام إن هذا مما يعمل لأجله حثيثا؛ إلا أن ذلك، إن حسنت النية، لا يتم بتاتا بالسرعة الكافية ولا بالطريقة الفضلى، بينما الواجب الأخلاقي يفرض عدم التردّد ولا التأخير في إقام العدل. فالأدهى أن الوسيلة لذلك متوفّرة، وهي لا تقتضي القوانين وما تتطلبه من وقت وتعطيل، إذ بالإمكان تعليق تطيبق كل القوانين المخالفة للدستور بمجرد أمر وزاري أو حتى منشور يأتيه كل مسؤول في حدود مسؤولياته. بل للقضاء الامتناع عن تطبيق قوانين ألغاها الدستور، وإن انعدمت النصوص التطبيقة. فهذا ما تسمح به روح القانون وما تفرضه الأخلاق إذا كنا حقا نسعى لرعايتها !
ثم إنه بإمكان مفتي الجمهورية ، بل من واجبه، أن يقول رأيه في كل تلك القوانين المدّعية جزافا المرجعية الإسلامية لإعطاء الإشارة اللازمة للتخطي إلى ما يلزم من نقلة نوعية في فهم ديننا، خاصة عند البعض ممن يتاجر به لأغراض سياسوية.
هذا، وقد كنت دعوت السيد المفتي إلى هذا الواجب الذي يحتمه اليوم الوضع المتردي لديننا إذا أردنا حفظه من الدعدشة الداهمة.*
كما أنه بإمكان أهل السياسة، إذا استطاعوا هنيهة التوقف عن الكذب والمخاتلة وتعاطي السياسة بطريقة أكل عليها الدهر وشرب، عرض المشاريع التي من شأنها رفع الكوابل في الأذهان المانعة لفهم الهوية التونسية على حقيقتها.
وقد كنت أهبت بالحزب الأكبر عددا بمجلس النواب القيام بذلك وعرضت عليه ما من شأنه دعم مكاسب الشعب واستحقاقاته بإحداث ثورة قانوية وأخلاقية في البلاد بالجرأة على الكلام في السكوت عنه الذي يغذي في الأذهان إرهابا لا يقل خطورة عن الإرهاب المادي.**
بهذا، وبهذا فقط، نحترم الهوية التونسية ونحي في التونسي إستثناءه؛ أما سائر ذلك فمن لغط الكلام ! فهل يشرّف ذلك ساسة البلاد ؟
شارك رأيك