بقلم الدكتور محمد عبد العظيم*
قدم الدكتور محمد عبد العظيم ، أستاذ اللغة العربية بالجامعة التونسية هذه الورقة بعيد أحداث 14 جانفي 2011 وشارك بها في فعاليات ” تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية” سنة 2011.
1ـ في حد الثقافة عامة.
لئن اختلفت محاولات تعريف الثقافة مفهوما وصياغة في حالات عدة اعتبارا لسعة المفهوم وتشعبه أولا ولاختلاف زاوية النظر التي ينطلق منها أو الغاية التي التي يهفو إليها من يروم الحد والتعريف ثانيا ، فإن الجامع بين تلك المحاولات عامة هو اعتبار الثقافة كل ما ينتجه مجموع مكونات كتلة بشرية ،يمكن اعتبارها مجتمعا، من إبداعات حضارية وفكرية وفنية…
وكان لابد،بعد تطور المناهج العلمية والنأي بها عن المسار التجميعي العام إلى مسار جديد قوامه التبويب والتصنيف والتجنيس… من أن يخضع المنتوج الثقافي لمقتضيات هذا المسار العلمي فتصنف المنتجات إلى أضرب وأنواع فتتشكل بذلك الفنون بأنواعها ومجالات الإنتاج على اختلافها حتى يكاد كل منها يستقل بذاته ويكاد مفهوم الثقافة الجامع يختفي أو ينحل فيتحلل ويكاد بعض الفنون يستأثر به دون سواه من نظائره .غير أنه يبقى في كل الأحوال الإهاب الجامع والغطاء المانع للثقافة من ضير ما قد لا يكون منها، إن وجد، أو هو يعطي للجهد البشري عامة بعده الكامل ليفصله عن الإني الطبيعي الذي لا دور للعقل البشري في صنعه وإنتاجه.
2ـسياق الإنتاج الثقافي وعوامله الفاعلة
إن كل منتج ثقافي باعتباره حدثا تاليا محكوم ضرورة بجملة من العوامل هي في مجملها شرط تحققه والمحدد الأساسي لطبيعته وللصورة التي يكون عليها. وبعض هذه العوامل وجوده طبيعي لا مجال للقول باختفائه وانعدامه وإنما العبرة فيه بالصورة والصيرورة لا بالوجود والعدم .والبعض الآخر منها مشروط الوجود بعوامل أخرى تتحكم فيه علنا أو خفية ،بل إن بعضها محكوم بعوامل أخرى تكون قرينة له في الوجود والعدم.
أما العامل لازم الوجود ومؤكده فهو العامل الحضاري العام وهو ،عندنا ،كذلك لأن ليس من شعب ـمهما كانت منزلته في سلم التقدم الحضاري إن صح في الحضارة الترتيب ـ دون حضارة . فلكل شعب حضارة وإن اختلفت الحضارات حتما واختلفت بشأنها الرؤى والأحكام .وكل مشهد حضاري هو فاعل بالقوة في الإنتاج الثقافي حتى إن أسقطنا من الاعتبار أنه هو ذاته يمكن أن يعد من وجوه ذلك الإنتاج إذ بين الأمرين لبس لا يخفى في المستوى الفكري الفلسفي حيث تتعقد العلاقة إذ تنعقد بالضرورة.
وأما العوامل مشروطة الوجود بذواتها أو بسواها من العوامل القرينة فهي كثيرة منها درجة التعليم وقيمته وحرية التعبير والدعم المادي للإنتاج والتوزيع وسعر الكلفة والترويج والإعلام والإشهار والمتلقي المؤهل …
فهذه العوامل كما نرى محكومة أساسا بطبيعة السلطة السائدة وخياراتها التعليمية والثقافية /الحضارية عامة ،ثم إن بعضها إذا تخلف أو غاب يؤدى بالضرورة إلى اختفاء أو ضعف واحد أو أكثر من العوامل المذكورة آنفا.
ولا بد ـ في ما نعتقد ـ من أن يكون المنتج الثقافي متأثرا سلبا أو إيجابا بتلك العوامل في جملتها أو ببعضها. وإن غياب أي عامل منها أو اختلاله يؤدي ضرورة إلى خلل في ذلك المنتج، إذ لا ثقافة دون سياق حاضن ملائم كما أثبتنا منذ البداية…
3ـ الملمح الثقافي في تونس قبل 14 جانفي 2011
إن الحكم الذي يروم الموضوعية عند النظر في ذلك المشهد أو الملمح لا بد أن يستند إلى النظر في طبيعة الوجه الحضاري/ السياسي العام الذي كان سائدا آنذاك وأن يسقط منذ البدء القداسة والمصداقية عن الخطاب الإعلامي والسياسي الذي كان عالي الصوت لا يسمع سواه لأنه، كما تقتضي السياسة ودفاع الأنظمة الدكتاتورية عن ذواتها واختياراتها ووجودها، لا يرى من الشيء إلا ما يريد أن يراه ومن الكأس سوى نصفها الملآن.فهو بالأساس خطاب دعائي مسيس وموجه لأغراض معلومة.
أما الحقيقة ـوالحقيقة نسبية دائما كما هو معلوم وإن كان حكمنا مما يمكن إثباته بالأحداث والوقائع في مجال غير الذي نحن فيه ـ فإن المشهد الثقافي السائد كان قوامه التوجيه السياسي ومحاولة توظيف كل نفس إبداعي لخدمة السلطان وسلطته. وأما من تأبى أو رفض فيكون مآله الكبت والإسكات أو على الأقل الطمس والتهميش .وأما الدعم المخول للإنتاج الثقافي من المال العام فمحكوم بالتوجه والتوجيه ذاته .فهو في العام دعم انتقائي يطال نفرا دون نفر وفنا دون فن ، والمرجع في كل الأحوال شراء الذمم ودرجة الولاء وخدمة الغرض السياسي المعلوم. ويضاف إلى ذلك مرحلة من التعليم كانت السيادة فيها للعدد والإحصاء بدل القيمة والمستوى المعرفي، إذ تعامل المؤسسات التعليمية تماما كالمصانع قيمتها في عدد الوحدات المنتجة وأما ضمان الجودة فمن النوافل. ولا يخفى ما وراء ذلك من مقاصد وأهداف. وكان لابد لتعليم على تلك الشاكلة من أن ينتج ذوي فكر محدود الثقافة مسطحها معطل المدارك ومحدود القدرة على التفكير والتحليل والتقويم …وحملته ،منتجو الثقافة ومستهلكوها، ضعاف النفوس مهزوزو الكيان منسلخون عن هويتهم إلى ما يقارب الانبتات الحضاري.
وكان من الطبيعي والحالة كذلك ، فيما نرى، أن يكون المنتج الثقافي محدود مجالات التناول ،إذ ليس له منها إلا ما يسمح له به،فيكون مسطحا ترفيهيا في الجملة عديم الصلة بالواقع أو يكاد أو هو على الأقل ضعيف منبت لا يطرح أسئلة الوعي والهوية والاستعداد للفعل والبناء وهي ،عندنا ، أولى وظائف الثقافة والمثقف.
إنها بصفة إجمالية الصورة التي كنا نرى عليها المشهد الثقافي عندنا قبل الثورة ،ضعف وضحالة وغربة واغتراب.
4ـ الثورة وتجلياتها الأساسية.
إن كل ثورة باعتبارها رغبة في نقض واقع سائد مرفوض وبناء نقيضه المرغوب هي في جوهرها تعبير عن رفض لواقع معيش تكون كامنة فيه رافضة له ومحتجبة تماما أو هي تبعث إشارات أو تلوح بإرهاصات قد لا يدركها إلا الفطن من الناس.فكل واقع مهما بدا سائدا مستقرا مسيطرا لابد أن يكون حاملا لنقيضه المهدد بزواله والحلول محله.ولذا فإن الصورة التي أراد النظام السياسي السابق رسمها والهيئة التي كان يروم صياغة المواطن عليها ، وقد يكون اعتقد أنه بلغها ونجح فيها، أفرزت دون إعلان شخصيات ثقافية مناقضة رافضة للسائد كانت تتحين الفرصة للتعبير عن ذواتها .والغريب فعلا أن تأتي من الجيل الذي كان يعتقد النظام السياسي أنه من صنعه وأنه كله على الهيئة التي أرادها هو له.
لقد كان المحرك الأساسي للثورة التونسية والتي تطمح أن تكون عربية عامة وقد تتجاوز،هو جيل من الشباب الذي دخل الحياة في جله زمن النظام السائد آنذاك البائد الآن.إنه جيل انبرى للتعبير عن رفض حاد لما أرادوه له ولما أرادوا أن يكون عليه؛ فظهر حاد الوعي بذاته وبقضاياه الفردية والاجتماعية والقومية والإنسانية شديد الطموح قوي العزيمة لبناء بديل من الذي كان ، مستندا إلى طاقات هائلة فيه .ثم هو يرفض الاستعباد الذي كان والذي قد يأتي ويتأبى عن التوجيه وكل أشكال التوظيف ولا يقبل أي توجيه سياسي تحكمه ثوابت إيديولوجية صارمة لأنه ينطلق من واقع اكتوى بناره وخبره حتى أدرك منافاته لأصوله ورغباته وأحلامه . إنه جيل يريد أن يكون شديد التمسك بهويته الثقافية دون تعال أو إقصاء ولا انغلاق وانكفاء ويعرف أدواءه وسبل علاجها ويدرك حقوقه ومسالك تحققها ،يطالب بحقه في التعبير عن مواقفه وآرائه وأحلامه في ضرب من التفاعل بين مكوناته المختلفة عجيب لا إلغاء فيه ولا إقصاء بل تحاور وتشاور للاتفاق على تحقيق الهدف مادام واحدا.إنه جيل يرى الحرية حقه وسبيله في جميع مناحي الحياة واحترام الآخر سلوكه وبناء الذات هدفه ، يرفض التغريب والتهميش والاستخفاف بمكونات شخصيته ،يرى ذاته إنسانا كامل الحقوق مدركا لكل الواجبات قادرا على الفعل والبناء لاحتلال الموقع الذي يليق به كائنا إنسانا فاعلا يستند إلى تاريخ عريق وقدرة هائلة وثقافة حية حديثة عقلانية لا يقدس غيره ولا يبخسه حقه يريد أن يكون له ندا والاحترام بينهما متبادل .إنه في كلمة إنسان كما الآخر إنسان وبالناس جميعا تكون الحياة وتبنى الحضارة الإنسانية.
تلك هي صورة الثورة الجديدة المستحدثة الآن في بعض أقطار وطننا العربي لا ترضى إلا بحاكم يكون منها وعلى شاكلتها يؤمن بطاقاتها وأهدافها ويسعى إلى تحقيقها وإلا فالشعب دائم التحفز والثورة للتغيير من جديد.
وإن جيلا على هذه الشاكلة لابد أن تكون عوامل الفعل الثقافي عنده غير التي كانت قبل ثورته .وهي تبعا لذلك مؤهلة لصياغة مشهد ثقافي جديد غير الذي كان وإن كان تحققه رهينا بمدى تأصيل القيم الجديدة في واقعها والنزول بها من حالة الحلم الثوري إلى مجال الواقع الفعلي المنجز.
5ـ المشهد اثقافي المأمول.
لقد وسمنا هذا المشهد الثقافي بالمأمول لسببين،أولهما أن عملنا من قبيل النظر فيما قد يتحقق لا ما هو حقيقة واقعة .ولا يخفى ما في عمل من هذا القبيل من مجازفة .وثانيهما أن الظواهر التي نتخذها سندا لقراءتنا هي ذاتها ما تزال ضربا من الصور النظرية التي تنتظر التحقق .ولا شك في أن المشهد الثقافي القادم مرتبط شديد الارتباط بما قد يتجسد منها فعلا واقعا .وهو ذاته تجسد محكوم بجملة من العوامل ليس واحد منها أقل خطرا وأثرا من سواه في حالتي التحقق والغياب على السواء وإن كان يحكمها جميعا أو يكاد العامل السياسي أي طبيعة النظام الذي سيفرزه الحراك السياسي الدائر الآن على أشده في تونس أرض الثورة ومجالها. إن ذلك يعني أن ما يجري في تونس الآن هو مسار أو سيرورة ثورية قد يكون من المجازفة التكهن بمآله .هو مسار يريد له البعض أن يكتمل فتكون الثورة ويكون الحكم متبنيا فعلا آمال الثورة والجماهير يوظف طاقاتها ليحقق لها و بها أهدافها ، في حين تسعى أطراف أخرى إلى التوقف بالمسار عند هذا الحد أو حتى الانتكاس والرجوع به إلى الخلف في ضرب من الالتفاف والإجهاض يبتر السيرورة ويلغي الأهداف المعلنة ويحبط الآمال ويشل الطاقات والقدرات التي كشفت عنها الثورة في هبتها الأولى ،فيكون الارتداد وتفوز الثورة المضادة.
وإن تحقيق المشهد الثقافي المأمول لمعقود دون شك بنجاح المسار الأول لأن ليس للثاني إلا العودة إلى المشهد السابق ذاته أو لما هو أسوأ منه.
وأما صورة المشهد المأمول فستكون سليلة تلك الأحلام والطموحات والقيم والطاقات التي دفعت الشارع قبيل 14 جانفي فصدع بها شعارات معلنة معبرة محيلة على رغبات في النفوس قد لا تكون بالضرورة واعية.
ولا شك في أن الاستجابة لتلك الطموحات واستغلال تلك الطاقات المحفزة للإبداع الحر من شأنها أن تفرز مشهدا ثقافيا آخر مختلفا تمام الاختلاف عما سبقه أو هو بكلمة نقيضه . إنه مشهد ثقافي أهم سمات منتجه ـ أيا كانت وسيلة التعبير وأيا كان الفن الذي يندرج ضمنه ـ الالتزام من حيث موضوعه بقضايا الانسان ومشاغله في ضرب من الواقعية لا يخفى وهو مستند إلى شخصية معتزة بذاتها مطمئنة إلى حضارتها وتاريخها وهويتها تراها جميعا أرصدة تشد الكيان وتعطيه من الثقة ما يحتاج ليتزود به عند اقتحام مجال الإبداع لرسم ملامح مآل حضاري جديد راق وفاعل مساهم بكل ثقة في الجهد الإبداعي الإنساني العام في جميع المجالات.
إنه سيكون، بعبارة واحدة ، منتجا ثقافيا تونسيا عربيا مسلما طموحا للمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية بكل فاعلية لأن مبدعه ممن يعتز بذاته ويتمسك بحقه في التعبير بحرية دون لجوء للتقية أو المواربة ، يرى كل مواضيع القول مجالا مشاعا له لايقبل أن يعد بعضها من قبيل المحرمات كما سبق أن كان . إنه سيكون إنتاجا سماته في الجملة الواقعية والانتماء الوطني والقومي والحرية ومختلف القيم الإنسانية الجامعة وجهته الجماهير لا يلقى للخاصة مهما كان موقعها بالا ومن أهم خصائصه الموضوعية والانفتاح على الآخر دون إحساس بالنقص أمامه والذوبان فيه.
وهو إن كان كذلك وتوفر له السياق المساعد الذي من مقوماته الحرية والدعم المادي سيكسب قدرة مبدعه على إيلاء القيمة الفنية ما تستحقه من اهتمام فيرقى الأسلوب وتجود العبارة وتنتقى الصورة دون إفراط في التجريد أو التجاء للتقية والتخفي وراء الأقنعة والرموز. وبذلك وحده يلقى القبول الحسن من متقبل واع مثقف يلتقي والمبدع على القيم والمبادئ والأهداف، مثقف ولد من رحم الثورة وصاغه تعليم ثوري جديد .وبذلك يتحقق الانتشار ويتأكد التجاوب فلا يكون المبدع غريبا ولا يبقى المتلقي محروما فيحصل الغنم المعنوي والمادي المرجو من كل جهد ثقافي صادق ملتزم مبدع فعال…
6- احترازات :
لقد أشرنا منذ بداية العنصر السابق إلى أنّ صورة المشهد الثقافي التي نرسمها هي صورة نظرية مأمولة و تحققها رهين بتوفّر جملة من العوامل الفاعلة فيه سلبا و إيجابا و لا يمكن الحكم بشأنه مادام الواقع سيرورة متحرّكة تتنازعها تجاذبات عدّة من القوى تصل العلاقة بينها حدّ التناقض أحيانا. و مع ذلك يمكن القول أنّ بعض ثمار هذا المشهد بدأت تجني في بعض ما نشر من إبداعات في مختلف الفنون بعد 14 جانفي و أدرك المتلقي أنها مختلفة عما كان سائدا قبل هذا التاريخ. بل أنّ بعضها كان جاهزا قبله لكن حكم عليه بالكمون و عدم النشر خوفا من مقص الرقيب و سيف السلطان أو بحكم منهما . غير أنّ ذلك ينبغي ألا يدفع إلى الاطمئنان ما لم يستقر العامل السياسي و تتضخ صورة الحاكم الجديد و يختبر مدى استجابته لطموحات الشعب و حرصه على تحقيق آماله و أهداف الثورة لاّن الأمر في الحقيقة محكوم بفاعلين أساسيين : الشعب برغباته من جهة و الحاكم بأولوياته من الجهة الثانية ، و طبيعة العلاقة بينهما هي التي تضع الثقافة بكل مكوناتها في المنزلة التي يريدها الطرف الغالب و الصورة التي يرتضيها لها .
*محمد عبد العظيم، أستاذ اللغة العربية وحضارتها بالجامعة التونسية، أكاديمي وناشط في مجال حماية اللغة العربية
شارك رأيك