نشرت جريدة الحياة* الصادرة في لندن اليوم آخر قصائد الشاعر العربي الكبير أدونيس ..وفي ما يلي نص القصيدة .
– 1 –
جاء المدعوّون.
لا أحد يعرف أحداً.
أرقامٌ في دفتر الوقت.
أين المائدةُ، إذاً؟
– 2-
خطأً،
أصابَتْ رصاصةُ قنْصٍ كائناً غريباً
لم يقدِرْ أحدٌ أن يحدِّدَ هويّتَه.
ولم يمُت،
غير أنّه أُصيب بشلَل اليديْن.
نجا غريبٌ آخر كان يرافقه،
والقصيدةُ التي كان يقرؤها، غاضباً،
نجَتْ هي كذلك، لكن بأعجوبة.
-3 –
تجلسُ الحياةُ على كرسيٍّ عتيقٍ
في بيتٍ واسعٍ يحرسه الموت.
يجلس الموتُ على كرسيٍّ حديثٍ
في بيتٍ ضيِّقٍ لا يتّسع
حتّى لخطوةٍ واحدةٍ تخطوها الحياة.
لكن، أين المشكلة؟
– 4 –
العاشقُ الذي ينامُ في سرير جراحهِ،
يقول إنّه لن يستيقظ
إلاّ عشيقاً في سريرٍ آخر.
– 5 –
ليس سهلاً أن يتخطّى الإنسانُ مرحلةَ الطّفولة. يمكن أن يشيخَ
ويظلَّ طفلاً.
إن شئتَ أن تبلغَ مرحلةَ الرّجولة، فعليك أن تعيش وتفكّر وتعمل، مازجاً كلَّ شيء بكلّ شيءٍ ودون تمييز. هكذا مثلاً، يصبح اليمينُ يساراً، والنّورُ ظلمةً، والوراءُ أماماً، أو العكس،
هل تريد حقّاً أن تتخطّى الطّفولةَ؟ أم أنّك تحلمُ أن تكسرَ إبرةَ التّوجُّه في هذه السفينة العائمة على زَبَد الظّنّ، والتي نسمّيها الأرض؟
– 6 –
نعم،
لا أحد يريد الحرّية إلاّ لنفسه،
لا لكي يزدادَ تحرُّراً، بل لكي يزداد قدرةً على الاستعباد.
-7 –
مرحلةٌ جديدةٌ في تعلُّم اللغات.
نتعلّمها الآن، لا لكي نتقدّم في معرفة الكون، والكشف عن أسراره. نتعلّمها لكي نُتقِنَ التحدُّث مع الأشياء غيرِ المرئيّة، ونُحسنَ فهمَ الأصواتِ والكلمات التي تخرج من حناجر الطّيور في العالم الآخر،
وتلك هي شروطٌ أوّليّةٌ لكي نعرفَ كيف نترجمُ أحوالَ السّماء، وكيف نعيشها على الأرض.
– 8 –
تكلّمْ بصوتٍ منخفض.
ـ أكثر ممّا أفعل؟
ـ نعم. وإلاّ اتُّهِمْتَ بأنّكَ تُعاقِبُ الفضاء.
– 9 –
طارتِ الفرَس التي كانت تلعبُ النّرْدَ مع حظِّها في ميدان السِّباق.
حتّى الآن لم تَعُدْ. ولم يدرِ أحدٌ أين طارَت.
– 10 –
سيفٌ
مأخوذٌ بالتّأسيس للعدالة والمساواة خصوصاً بينه وبين صاحب الرّأس الذي يقطعُه، اليوم.
– 11 –
ضوءُ نجمةٍ يتوِّج سُرَّةَ الحقل الذي حُرِث، أمسِ.
طيورٌ تنقرُ ما حولها، خصوصاً، وما فوقها وما تحتها.
أوه! لم يعُد في حقول القرية التي جئتُ منها، غير الأبواب المُغلَقة.
أوزِّع مخيِّلتي على عتباتها، وأتخيّل القمرَ
كيف سيطلع غداً لابساً ثوبه الأسود،
وكيف سيتوسّدُ الحجرَ الذي نحتَه الزّمن في شكلِ
قوْسٍ، وبأيّة لغةٍ سيكتب الرّسالة الأخيرة إلى
صديقته التي ماتت، وكانت رفيقته في الحضانة.
– 12 –
مُناضِلٌ يحبّ الفقراء ويناضِلُ من أجلِهم،
يقتُلُ يمامةً،
ويحوِّل جسمَها إلى وسادةٍ يتَّكِئ عليها.
يتسلَّحُ الحقلُ ضدَّ هذا المناضل الشّابّ،
ببقرةٍ حُبْلى،
ومِحراثٍ شيخ.
– 13 –
يوحِّدُ بين حدِّ سيفه، وحدِّ المعنى،
مؤكِّداً أنّ اللغةَ هي التي أمَرَتْهُ،
وهي التي فرَضَتْ عليه أن يقومَ بهذه المهمّة.
– 14 –
وَفْدٌ من النّسور،
يفاوِضُ الفضاء، للبحث في شأن تحوّله
إلى غابةٍ من الخُوَذِ والخنادق ومختلف الأسلحة الفتّاكة.
– 15 –
إنْ كنتَ تقصدُ أن تقنعَني بما تقوله الرّيح
فاكْتُبْ براهينَك على الماء.
– 16 –
قالت الطّيورُ لحناجرها:
لا تُعانِدي.
قرَّرْنا أن نتوقّف عن الغناء.
– 17 –
المسرحيّةُ الطّويلة التي تُمَثَّلُ اليوم
على الأرض العربيّة، ليسَت:
كيف نبتكِرُ ضوءاً جديداً؟
إنّها، على العكس:
كيف نُطفِئ جميعَ الأضواء.
– 18 –
لا تكتُبْ عن الشّمس:
أُضيفَت إلى لائحة الممنوعات.
– 19 –
ماذا؟ كأنّ في هذه الرّيح التي تهبُّ فجأةً، رقصاً يجيء
من جهة جسدها الذي عاشره طويلاً، والذي يكادُ أن يُفلِتَ من ذاكرته.
– 20 –
أخيراً،
عثرَ على اسمِ ذلك الثّور الجميل الذي أخذ اسمَه برجٌ جميلٌ
من أبراج الفلَك.
– 21 –
لم يحلمْ مرّةً، أن يكون الحلمُ عودةً.
حلُمَ ويحلم دائماً أن يكون سفراً.
– 22 –
هل أصبح تطوُّر الأحداث كافياً للقول، بفضل «الرّبيع العربيّ»، خصوصاً:
يبدو كأنّ الإنسان في هذه المنطقة العربيّة
طريقٌ إلى أمَلٍ لا طريقَ له؟
-23 –
تقول إنّ هذه الحرب ليست حربك.
لماذا تشتعلُ، إذاً، أمامَ البيت الذي وُلِدتَ فيه، وفي ساحة المدينة التي تقول إنّها مدينتك؟
– 24 –
النّجومُ، تلك التي كانت تلوِّح لنا في الصّحراء،
لكي نلتقي ونتسامَر،
تحجّبَتْ، وصبغَتْ حواجبَها وأظافرَ أيديها وأقدامها،
بحنّاء التّوبة.
– 25 –
قال غاضِباً باكياً:
لماذا لا نعرف أن نبتكرَ غيرَ الخرابِ،
وغيرَ الكلام الذي يتأوّه ويبكي؟
– 26 –
أرّخوا لأعناقِهم، وهي تُقطَعُ واحداً واحداً.
مجّدوا السّيوفَ التي قطَعَت والأيديَ التي
ضربَتْ،
وقالوا عن صليلها، حركةً وسكوناً:
ما أجملَ هذه الموسيقى
ما أعذبَ هذا الغناء.
– 27 –
قال التّاريخُ ، بصوتٍ شبهِ عربيّ:
متّ، اليوم، وغداً أُبعَث في جسمٍ آخرَ شبه عربيّ، يتمزّق عشائرَ وطوائف وقبائلَ، آكِلاً بعضه بعضاً.
لم أتعلّم إلاّ إتقانَ القتلِ وفنونه.
وعلى الرّغم من الماء الذي يبلِّل أوراقي، فإنّني أرى إليها، في هذه اللحظة، تحترق واحدةً واحدة.
الماءُ نفسُه يتحوّل في أباريقي إلى نار.
يصبّون على وجهي زيتاً بلون الدّم، ثمّ يسألونني
أن أطلب العفوَ من الحبر والقلم والكتابة.
هل أطلب العفو، ولماذا؟ أتساءل في ذات نفسي.
وسرعان ما أسمع وشوَشَةً:
خذِ الإسمنتَ متراساً، واكتب رسالتك الأخيرة إلى أصدقائك
وأوليائك.
لا صديقَ لي. وأوليائي جميعاً صاروا أعدائي.
وضعوني على منصّةٍ من الدّم. تركوني أتموّج في أنحائها وغابوا.
كنت أعرف بعضهم من اليد. وبعضَهم من اللسان. وبعضهم من الاسم. لكن يبدو كأنّني لم أعرف أحداً من الوجه.
يُقالُ التّاريخ هو أيضاً يموت. هل سأموت، حقّاً؟ إن صحّ ذلك فسوف أوصي بأن أُتركَ وحدي على سرير الموت، أصغي إلى الموسيقى التي عزَفَتْها رئاتُ البشر، وأنفاسُهم، وقلوبُهم.
ـ أيُّها التاريخ، هل يقدر أحدٌ مثلي أن يطلب إليك شيئاً واحداً فيما تصغي إلى هذه الموسيقى؟
إذاً، أرجوك أن تدخل إلى بيت الحزن وأن تسأل عنّي.
أمسِ خرجتُ منه، وخُيِّلَ إليّ أنّني كنت على الطّريق، أرقص رقصة الوداع.
وكان صديقٌ رَجانيَ أن أربّي الأمل، واستجبتُ له، اعتزازاً
بصداقته.
قدّمتُ للأمل كلَّ شيء.
كبر، اتّسع، هيمَن.
فجأةً، أخذ ينتفخ. ينتفخ ويترهّل ويزداد تضخُّماً. صار عبئاً بلا حدود.
أرجوك أن تسأل هذا الصّديق:
ماذا أفعلُ به الآن ؟
__________
* أدونيس جريدة الحياة
التاريخ : 2016/04/28
شارك رأيك