بقلم الطاهر شقروش*
لم تكن النقاشات الدائرة بين المستقلين داخل الجبهة الشعبية مركزة حول مسألة تمثيلهم داخل الهياكل القيادية رغم أهميتها وذلك لاعتقادهم أنها مسألة فرعية مرتبطة بقضية أعم وأشمل ألا وهي المسألة التنظيمية.
وقد وقع تناول هذه هذا القضية لا كقضية إجرائية أو تقنية وإنما كقضية مبدئية باعتبارها تمس طبيعة الجبهة وملامحها ووظائفها بمعنى آخر هويتها.
إن السؤال الجوهري والمصيري والذي دون الإجابة عليه لا يمكن فهم ما يجري داخل الجبهة الشعبية ولا يمكن أن تتقدم الجبهة نحو التحامها مع الطبقات والفئات الاجتماعية التي تطمح إلى تمثيلها والتعبير عن مصالحها هو التالي:
لماذا يتواجد بالجبهة الشعبية أربعة أحزاب عمالية ماركسية لينينية وخمسة أحزاب اشتراكية ديمقراطية وخمسة أحزاب قومية….؟ و لماذا يحافظ كل حزب من هذه الأحزاب على ذاتيته ويتشبث بها ولا يعمل على التوحد مع من يقاسمه نفس التوجهات الإيديولوجية و السياسية..؟ كيف تدعو هذه الأحزاب الشعب إلى الوحدة تحت رايتها…في حين إنها تحافظ هي على تشتتها ولا تعمل على توحدها على قاعدة ما هو مشترك بينها من زاوية التوجه الفكري والسياسي؟
كثيرون في قيادة الجبهة من يرفعون شعار العقلانية أمام القوى الظلامية ولكنهم لا يتصرفون بعقلانية في نشاطهم السياسي أن من بين مقاييس العقلانية الجدوى والفاعلية ولكن هل هناك جدوى في المحافظة على هذه الانقسامات.
لماذا تحولت الجبهة الشعبية إلى عامل تكريس للانقسام وليس إلى عامل توحيد وانصهار.. كما كان المأمول والمنتظر.
وحتى ندلل على ذلك يكفينا التذكير أن هناك من كون حزبا بين ليلة وضحاها بخمسة أو ستة أنفار ومن الغد أصبح عضوا في مجلس الأمناء العامين للجبهة الشعبية وقد مكنه حصوله على مقعد من أنه أصبح يجالس سفراء الدول العظمى ويتحدث في القنوات التلفزيونية الوطنية والعالمية في حين إن هناك العديد من الأحزاب العريقة والتي لها نفس البنية الفكرية والمشروع السياسي التي للأحزاب المتواجدة خارج الجبهة الشعبية إضافة لتاريخ نضالي طويل لا تعمل قيادة الجبهة على استقطابها وضمها إلى الجبهة بل أن البعض من الذي سعى منها إلى الدخول إلى الجبهة وقع صده وسد الباب أمامه…
لقد كان حلمي الشخصي، منذ أن لمست استعداد العديد من الرفاق لبناء الجبهة الشعبية وذلك إثر هزيمة 23 أكتوبر 2011 المدوية إن أحد أهداف حياتي سيتحقق كما تحققت الثورة ولكنها سلبت منا. لقد رفعنا شعار الجبهة مع مطلع السبعينات لما أصبحنا نقر بأن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتعزيز الاستقلال الوطني مهام ثورية إستراتيجية تستوجب تجميع كل القوى الوطنية والديمقراطية في جبهة واحدة. لذلك كنت أرى أن الجبهة ستكون فرصة لجيل كامل من مناضلي اليسار الذين عرفوا الإقصاء والبطالة والتعذيب والسجون لكي يخرجوا من بوتقة الفكر الحلقي ويتحلون إلى قادة للحركات الشعبية ومن ثمة إلى قادة لدولة ديمقراطية اجتماعية مثل ما هو الشأن بالنسبة لمثلنا من مناضلي أمريكا اللاتينية في البرازيل والأرجنتين والشيلي …الخ
لازلت أفسر المسار الانتحاري والانحداري الذي سلكه اليسار الجديد منذ 1967 بنوعية المواجهة التي اعتمدها النظام القائم له. إن أجواء الاستبداد والقمع لا يمكن أن تكون حاضنة لميلادي فكر متفتح. إن الانغلاق على الذات وتكلس الفكر هي شكل من أشكال المحافظة على الذات عندما يكون الرهان الوجود الذاتي للحزب أو للأمة….
وكان الأمل يحدوني إن أجواء الحرية التي أصبحنا ننعم بها قد تلعب دور المخلص والمطهر لذواتنا…لذلك كنت أرى أن أننا نعيش فرصة تاريخية لا مثيل لها وقد لا تتكرر كثيرا أهدانا إليها الشعب ولكننا لم نحسن استغلالها وخاب أملي لما رأيت حزبين أساسين داخل الجبهة لم يعملا على توحيد صفوفهما كما أوصى بذلك الرفيق شكري بل الأدهى والأمر أن كل منهما يتقدم بقائمة خاصة في قطاعات نقابية عديدة لتفوز قائمة النهضة كل مرة أو أن هذا الحزب يدافع على أولوية الانتخابات التشريعية وذاك عن الانتخابات الرئاسية وفي النهاية تسوق النهضة أن مقترحها هو الذي كسب…
قد يبدو لأول وهلة أن هذه الخلافات بين هذه الأحزاب العمالية أو القومية تعود إلى تباينات فكرية وسياسية عميقة وهي التي تقف حجر عثرة أمام وحدتهم لكن المتفحص لبرامجهم وسياساتهم لا يكاد يميز بين هذا وذاك إلا بالكاد وفي غلب الأمر فروقات طفيفة ودقيقة لا أثر لها في حياة الأحزاب والناس وأغلبها من مخلفات العهود الغابرة من باقي الجدل الذي دار في العشرينات و الخمسينات و لا يوجد لها أثر يذكر في عالمنا اليوم.
أن ما يجب التأكيد عليه أن هذه الخلافات أصبحت لها وظيفة جديدة حيث أنها صارت تضفي شرعية على بعض الدكاكين السياسية و تسمح لمسيرها بان تكون لهم شهرة (أي قيمة سوقية حسب تعريف القاموس الجامع لكلمة شهرة).
والغريب في الأمر، أن هذه العقلية طوعت بناء الجبهة الشعبية إلى منطقها وحولتها من تنظيم سياسي شعبي كما كان يراد منها إلى ائتلاف بين أحزاب؟
ويترتب على أي من هذين الخيارين جبهة أم إتلاف نتائج سياسية وتنظيمية بالغة الأهمية حيث إن الإتلاف الحزبي هو التقاء ظرفي وتكتيكي بين أحزاب سياسية اكتمل تشكلها وأصبحت ممثلة عضوية للطبقات الاجتماعية التي تتحدث باسمها أما الأحزاب المتواجدة داخل الجبهة فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها مكتملة التشكل ومعبرة بصورة عضوية عن الطبقات التي تتحدث باسمها.
ومن الطبيعي أن تفضل الأحزاب المكتملة تكتيك الإتلاف وتعمل على المحافظة على ذاتها و تسعى عبر جهازها الخاص إلى تطبيق المواقف المتفق حولها مع نظائره من الأحزاب المنضوية داخل الإتلاف لذلك لا تسعى الأحزاب المؤتلفة إلى تكوين و تطوير أجهزة تنظيمية مشتركة قائمة الذات و فاعلة.
إن العنصر المحدد داخل الائتلاف هو قيادات الأحزاب والوفاق بينها هو الأهم لذلك تبقى عملية بناء الجهاز التنظيمي المشترك مسألة غير مطروحة على جدول أعمالها.
وبالنظر للوضعية الهشة والجنينية للأحزاب المكونة من ناحية ولطبيعة المهمات التي طرحتها على نفسها وهي مهمات مرتبطة بمرحلة تاريخية كاملة أي ذات طابع استراتيجي يتطلب انجازها وجود تنظيم سياسي شعبي يجمع كل الذين لهم مصلحة في ذلك دون إقصاء أو تهميش لأي مكون على قاعدة أحكام شخصية وذاتية.
لقد حاولت عديدة الشخصيات وفي مقدمتهم الرفيق الشهيد شكري تكريس هذا المفهوم للجبهة وعمل جهدا على وحدة الأحزاب العمالية وطالب بالتخلي على التركيز على الفروقات والتركيز على ما هو مشترك ولكن يد الغد لم تمهله.
لقد ساد مبدأ المحاصة وتنكر الساهرون على حظوظ الجبهة للمبدأ الذي أقيمت عليه وهو “أن تكون الأحزاب المنخرطة في الجبهة في خدمتها وليس العكس”.
عديد هم قادة الأحزاب المجهرية الذين لا يقدرون على تنظيم اجتماع بعشرة أفراد ولا يحلمون أن تقع دعوتهم لأحد منابر التلفازات ولا أن يجالسوا سفير جزيرة الوقواق، أصبحوا بحكم تواجدهم بمجلس الأمناء العامين للجبهة وجوه عامة و”قادة رأي” ولذلك هم معادين لوضع حد لتشتت الذي يمزق المشهد السياسي…
لها تناول طيف من المستقلين في حواراتهم المسألة التنظيمية كقضية مبدئية وليس تقنية أو إجرائية وفي ظل الاخلالات العميقة التي توقفوا عندها برزت قضية تمثيل المستقلين في قيادة الجبهة مسألة فرعية.
*الطاهر شقروش ، مناضل يساري من قدماء حركة آفاق اليسارية ومن المؤسسين للجبهة الشعبية المستقلين عن الأحزاب
شارك رأيك