بقلم الدكتور محمد الحدّاد *
ثمّة سيناريو رهيب يخيّم على العالم القديم الناشئ منذ أكثر من خمسة آلاف سنة حول البحر الأبيض المتوسط.
هذا العالم تصارع عليه على مدى قرون قادة الإمبراطوريات الكبرى، الإسكندر المقدوني ويوليوس قيصر، هارون الرشيد وشارلمان، سليمان القانوني وشاركان، نابليون ودوق ويلينغتون، ستالين وروزفلت. هذا العالم شهد انطلاق الحضارة البشرية مع الثورة النيوليتية ثم ميلاد الحداثة مع الثورة العلمية والتكنولوجية. هذا العالم الذي نشأت فيه الأديان والحضارات، أصبح اليوم مسرحاً لصراع غير متوقّع، قد ينتهي به إلى الانقسام إلى قسمين، شمال تتحكّم فيه التيارات اليمينية المتطرفة وجنوب تتحكم فيه التيارات الدينية المتطرفة. من كان يصدّق أن تصبح هذه وتلك محور السياسة؟ لكنّ الحقيقة أن السيناريو الذي وصفنا لم يعد من أضغاث الأحلام وكوابيس التخيل.
أصبح تقدّم أقصى اليمين واقعة أكيدة في الضفة الشمالية الديموقراطية والليبرالية. لقد تأكّد بعد النتائج الأخيرة في ولاية إنديانا أنّ دونالد ترامب ليس مجرد مهرّج في الانتخابات الأميركية، كما كان يحصل عادة في هذه الانتخابات التي كثيراً ما يدخلها الأثرياء طلباً للشهرة، ومن دون حظوظ حقيقية في التأثير. لكن ترامب لم يثبت أنه مرشح جدّي فحسب، بل إنه يقترب من الترشّح باسم الحزب الجمهوري، حزب أبراهام لينكولن وتيودور روزفلت ودوايت إيزنهاور، وربما من الدخول إلى البيت الأبيض. لم يعد الأمر من قبيل المستحيل. لنتصوّر حينئذ مصير العالم القديم وقضاياه، من العراق وسورية وفلسطين، إلى الهجرة والإرهاب، بين يدي القوة الأميركية العملاقة وهي موضوعة في يد السيد ترامب.
فـــي فرنســا، بلـــد الثــــورة التي أرست تقسيم الأحزاب إلى يمين ويسار، وفق طريقة تنظيم الهيئة التأسيسية التي أعلنها الثوّار، تأكد أنّ هذه الثنائية في صدد التداعي، لفائدة طرف ثالث جديد هو أقصى اليمين، وقد حصل على المرتبة الأولى في الانتخابات الأوروبية لسنة 2014، وحصد أكثر من ربع أصوات الناخبين في الانتخابات الإقليمية سنة 2015، وهو يستعدّ لخوض الانتخابات الرئاسية السنة المقبلة (2017)، مع التذكير بأنه كان قد أسقط، سنة 2002، المرشح الاشتراكي وبلغ الدور الأخير للرئاسيات، فاضطرّ الاشتراكيون واليمينيون للتحالف للمرة الأولى لمنع وصول رئيسه يومذاك جان ماري لوبن إلى الرئاسة، وهذا ما لا يمكن تصوّر وقوعه مجدّداً في الانتخابات المقبلة التي سيواجه فيها اليمين واليسار مارين لوبن، ابنة الزعيم التاريخي.
في النمسا، البلد ذي الماضي النازي، حصل المحظور وانتصر اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية بزعامة نوربرت هوفر، وحصل على أفضل نتيجة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على خلفية أزمة المهاجرين التي لم تتحمّل فيها النمسا إلاّ قدراً ضئيلاً من عبء المقيمين على أراضيها (80 ألف شخص)، في انتظار الانتخابات البرلمانية بعد سنتين.
على الضفة الجنوبية، صارت الإمارات الداعشية واقعاً وحجمها الجغرافي مجتمعة يتجاوز حجم العديد من بلدان المنطقة. يصعب فهم كيف أن أكبر الجيوش في العالم عاجزة عن التصدّي لبضعة آلاف من المتعصبين، وأن أكثر الأسلحة تطوّراً غير قادرة على مواجهة القنابل اليدوية و «الكلاشنيكوف». لكن المحصّلة ما نرى: انتشار «داعش» بنجاح على أكثر من جبهة وفرض نفسها، مع أخواتها من محترفي الرعب، اللاعب الرئيسي في المنطقة، سواء مباشرة كما في سورية والعراق وليبيا، أو بصفة غير مباشرة عبر التهديد الذي تمثله للجيران ولأمنهم واقتصادهم.
كلّ القضايا الكبرى، من حقوق وتنمية وبيئة وتعليم وتنوير واكتساب العلوم والتكنولوجيا والوحدة وفلسطين… غابت من الخطاب العربي الذي لم يعد مهووساً إلاّ بقضية واحدة هي الإرهاب، والأدهى أنه يدور في فراغ ولا يجد سبيلاً لمواجهتها، بل يغرق في وحلها يوماً بعد يوم. ثم إنّ هوس الإرهاب يضيّق الأفق الذهني للمواطن العربي، فلا الإرهاب فلسفة تناقش، ولا دين يجدّد، ولا معرفة تُراجَع. وقد أصبح خبراء الإرهاب أنتلجنسيا المجتمع حالياً. ولمّا كان الإرهاب بطبعه نشاطاً سرياً وغير قابل للعقلنة، فإنّ كلام هؤلاء كلام فارغ ومكرّر، لا نفع له ولا تأثير في الأحداث.
إذا كان العنف ملازماً للحضارة ولا بدّ، فيا ليتنا على الأقلّ نعيش عنف الكبار، لا العنف التافه الذي يكتسح العالم اليوم، ونتقزّز من مجرّد نقل أخباره أو تحليل خلفياته، فضلاً على أن نراه فاتحة لأي شيء نافع وجدير بأن يضيف شيئاً إلى خمسة آلاف سنة من الحضارة.
كأن الإنسانية قرّرت أن تدفع بنفسها طوعاً إلى الهاوية، كما كتب سيغموند فرويد ذات يوم، مستشعراً كارثة الحرب الشاملة وهو يرى تصاعد النازية والفاشية من حوله.
………………………..
*محمد الحداد ، أستاذ الديانات المقارنة بالجامعة التونسية.
*نشر المقال في جريدة الحياة -لندن-8 ماي 2016
شارك رأيك