بقلم : د. محمد الحداد
المتابع لما أحاط بالمؤتمر العاشر لحركة النهضة التونسية من تعليقات وتحليلات قد يخيّل له أنّه بعد الإعلان عن الفصل «التنظيمي» بين السياسي والدعوي، ستحلّ كلّ مشكلات تونس، ثم بعدها كلّ مشكلات العرب والمسلمين، وسيجد الشباب فرص العمل، وتتحسّن مستويات عيش الفقراء، وتتراجع نسب المديونية والتضخم، وتتحرّر فلسطين، ويتآخى الشيعة والسنة والمسلمون والنصارى.
هذه المبالغة العالمية تعود إلى سببين رئيسين.
ثمة من جهة الآلاف من الناس الذي خُدّروا لعقود بأسطورة أنّ مشكلات مجتمعاتهم ستحلّ يوم يصل الإسلاميون إلى الحكم، على اعتبار أنّهم من طينة غير ما عرفته هذه المجتمعات سابقاً، فهم فضلاء بينما الآخرون فاسدون، لهم فلسفة لا مثالية ولا مادية، واقتصاد لا رأسمالي ولا اشتراكي، وحلول سحرية لمشكلات البشر.
نرجو لهؤلاء أن لا يُخدّروا مجدداً بالفصل بين السياسي والدعوي، لأنها زوبعة في فنجان، وليست أصل الموضوع.
أصل الموضوع أنّ سؤال السياسة في مجتمعاتنا قد حوّلت وجهته منذ عقود. ففيما يطرح في العالم بصيغة: كيف تدار قضايا المجتمع؟ فإنه يطرح لدينا بصيغة: من هو الأقرب إلى الله ليتولّى الإمارة علينا؟ وقد ساعدت في ذلك الأنظمة الاستبدادية التي جعلت هذا السؤال محرّماً، فكان طبيعياً أن يثار في الأقبية ويسيطر عليه الأكثر قدرة على التقية والعمل السرّي. واستفادت تلك الأنظمة من الإسلام السياسي بأن اختزلت شرعيتها في درء أخطاره. وبين هاجس الخوف الذي غذّاه هؤلاء والأسطورة التي نشرها أولئك باعتبارهم من طينة أخرى، لم يبق مجال لقيام فكر سياسي بديل، يتميز بالواقعية.
لذلك كانت فضيحتنا مدويّة في كل مناسبة نتخلّص فيها من الاستبداد. ففيما تتجه الشعوب عادة إلى استبداله بالحرية، نصبح نحن غنيمة تتنازعها «القاعدة» و «داعش» و «النصرة» و «جيش المهدي» وبدر.
ولم تكن الثورات العربية إلاّ استمراراً لخيبات تاريخية سابقة، منها أفغانستان بعد التخلّص من السوفيات، والعراق بعد التخلص من «البعث». ذلك أنّ البديل المنتشر عندنا للاستبداد أتعس منه، وما يدعى الإسلام السياسي جزء من هذا البديل الخائب (أفضل استعمال عبارة الأصولية الإسلامية، لأن في الإسلام سياسة، لكنها غير ما يقصده هؤلاء).
ونعلم جميعاً أنّ الأساطير تنهار عندما توضع على محكّ التجربة. هكذا سقطت الشيوعية في روسيا والوحدة العربية في المشرق. وترنحت أسطورة الأصولية منذ أفغانستان والسودان والعراق، وانهارت بعد الثورات العربية.
لذلك كنّا ننتظر من المؤتمر العاشر لحركة النهضة أن يحسم الموضوع، في الشكل الذي حسم به حزب الإيطالي غرامشي العلاقة بالشيوعية الستالينية، أو حزب الألماني كونراد أديناور العلاقة بالأصولية المسيحية. كنا ننتظر أن يعلن المؤتمر نهاية الأصولية أو الإسلام السياسي، ويقرّ بالخطأ التاريخي ويفتح صفحة جديدة، لا في تونس فحسب، إنما في كلّ المجتمعات الإسلامية التي راقبت أعمال المؤتمر.
بيد أنّ البهرج الإعلامي الضخم والماكينة الدعائية الدولية لا يحلاّن قضية بهذا العمق. بلغ التفاؤل أقصاه مع استعمال المؤتمر عبارة «الإسلام الديموقراطي»، لكنه تراجع مع موجة التصريحات المتناقضة التي أطلقها القياديون لتفسير مخرجات المؤتمر. وكالعادة، تُرِك مجال التأويل مفتوحاً على السؤال: هل انفصلت «النهضة» عن الإسلام السياسي أم لم تنفصل؟
كلّ محلّل يحدّد الجواب كما يريد، وما تقرأه في الإعلام الغربي غير ما تقرأه في الإعلام الشرقي. أسئلة محيّرة ظلّت عالقة: ما علاقة لجنة المضامين في المؤتمر بالفرع التونسي للتنظيم العالمي المعروف باتحاد علماء المسلمين؟ وما معنى نفي أحد نوّاب الحركة في البرلمان الفصل مع فكر «الإخوان»؟ أوليس هذا الفكر هو الذي أدخل إلى تونس مقولات الحاكمية والجاهلية والعمل السري؟ وكيف يستقيم هذا مع مقولة «الإسلام الديموقراطي»؟ وما معنى أن يتواصل الحديث عن «الدعوة» في بلد كلّ سكانه مسلمون، عدا أقلّ من ألف يهودي؟ أليست الدعوة إحدى مقولات «الإخوان» التي أسقطت على مجتمع ذي تركيبة مختلفة عن المشرق…؟ الخ.
ألتفت الآن إلى الصنف الثاني من المتابعين. أثار انتباهي كيف وقع كثر من المحلّلين خارج تونس في فخّ التفاؤل المفرط. أفهم أن الهوى الإخواني لبعضهم يدفعه إلى تبييض «الإخوان» باستغلال الصورة الإيجابية لـ «النهضة». لكنّ ثمة شيئاً آخر أهم بكثير، هو الانتظار الكبير والصادق والمشروع لحلّ قضية الأصولية من دون عنف، عكس ما حصل في بلدان الثورات الأخرى العربية.
هذا الانتظار يتجاوز تونس، لذلك نفهم الضغط الكبير الذي كان مسلّطاً على «النهضة» والآمال المبالغ فيها التي أحاطت بمؤتمرها العاشر. لكن الحقيقة أنّ الحركة ما زالت ممزقة بين تيارين، ولم تبلغ درجة الحسم، على رغم الخطوة الجديدة التي سجلها التيار الواقعي على حساب التيار الإخواني.
ففي النهاية، كانت نتيجة المؤتمر إعلان أصحابه أنهم حزب سياسي، وهذا ما كانوا «متّهمين» به منذ التأسيس، وقد أقرّوا به اليوم، وهذا جيّد. وسيرون ويرى الآخرون معهم أنّ هذا الإقرار تحصيل حاصل، وأن الذين ساندوهم في السبعينات على أمل تطبيق الشريعة لن تطبق عليهم إلا وصفات صندوق النقد الدولي، وأنّ هذا الإقرار لن يحلّ شيئاً من مشكلات البطالة والفقر والمديونية، وأنّ اقتباس مقولة الاقتصاد الاجتماعي للسوق من الليبرالية الأوروبية المعتدلة، هو من صنف ما كان سائداً من محاولات التوفيق بين الإسلام والاشتراكية في السبعينات.
سؤال السياسة في العصر الحديث هو كيف نحلّ تلك المشكلات وندير شؤون المجتمع، وليس كيفية إدارة العلاقة بين السياسي والدعوي. ولا نملك إلاّ أن نرجو للحركة مزيداً من التطوّر إلى أن تبلغ هذا الأفق الكوني في طرح السؤال، ويتخلّص شقها السياسي من شقها الإخواني بصفة نهائية، فهي بالتأكيد من أكثر حركات الإسلام السياسي المؤهلة للانفصال عنه.
وفي تونس شباب انتفض طلباً للعيش الكريم، وأُشبِع منذ سنوات نقاشاً بلا جدوى في الدين والدعوة والهوية، واستعمل هذا النقاش لمصلحة الحركة والمنتسبين إليها، لكنه لم يفده بشيء يذكر، كما لن يفيده إعلان «الفصل التنظيمي» شيئاً أيضاً.
……………………………………………………..
* د.محمد الحداد: أستاذ الديانات المقارنة بالجامعة التوتسية
نشر المقال في موقع الأوان/عن جريدة الحياة
شارك رأيك