يوميات رمضانية
يكتبها فرحات عثمان
أقسم الصحفي الفلسطيني عبد الباري عطوان في تصريح أخير له : « هناك مخطط لتقسيم شمال إفريقيا وتفتيته» إذ أن « الغرب يعمل ليل نهار لإذكاء نار الفتنة تحت مسميات عديدة ». وأضاف أن بعد سوريا يأتي دور الجزائر، وأن المخططين لتفجير ثورة في الجزائر طلبوا خبرته فرفض لأنه « ضد تفتيت أي بلد عربي حتى لو اختلفت معه»؛ وشدد أن « المخططات الآن في ذروتها ».
لا مؤامرة بدون سبب
إن كلام الصحفي المرموق لهو من الحصافة والسذاجة في نفس الوقت. أما الحصافة ففي التنبه لما يجري حقا ولو أن التصريف للأحداث يختلف حسب الآراء والمواقف. هنا تكمن السذاجة، إذ خاصية الحياة السياسية هي المناورات والجري وراء المصالح بكل الوسائل، ومنها مخطط التقسيم لشمال أفريقيا، الذي يندد به عطوان، بعد الشرق وغيره. فمن هو الغرب بالنسبة للعرب حتى لا يسعى لمصالحه؟ أليست مصلحة القوي البقاء قويا وإضعاف خصمه حتى يجعله تابعا له؟ ألا يقول المثل أنك تسد إذا فرّقت؟
وبعد، هل هناك أية مؤامرة بدون سبب؟ وهل تنجح إذا لم يتوفر لها من يؤيدها من الداخل؟ هل غاب هذا عن ذكاء صحافينا؟ طبعا لا! عندها، هلا تكلم في السبب عوض الاكتفاء بالمسبب؟ ألم يكن من الأفضل بيان طبيعة التربة الصالحة لمثل هذه المخططات، والتدقيق في أفضل الأسباب لتصبح غير موافقة للمؤامرات ؟ هلا نصح عطوان من يحذّرهم من مغبة التقسيم بتفاديه بأفضل السلاح، ألا وهو العمل على عدم تواجد التربة الصالحة للمطامع الخارجية؟
أليس أفضل درع لأي مطمع أجنبي في التفاف الشعب حول ساسته؟ فهل هذا متوفر لدينا؟ أليس في الشعب الجزائري المستهدف للتقسيم من يعتبر السلطة القائمة عدوا؟ فلعله لا يرى مانعا في تقسيم البلاد لافتكاك حقوقه التي لا يحصل عليها ممن لا يعتبرهم ساسته بل مجرد سلط متسلطة عليه، ناهبة لحقوقه.
حال الشعب التونسي
إن واقع الشعوب العربية لمرير، إذ هي مقهورة، لا حقوق لها؛ لذا، لا ترى أي حرج، إذا سنحت الفرصة، في تصرفاتٍ من الخارج، غربيةكانت أو شرقية، تستهدف الساسة الذين يقهرونه، ما دام فيها مصلحته بصفة أو بأخرى.
ألم يكن الحال على هذه الشاكلة بتونس عندما سعت الولايات المتحدة للتخلص من النظام القديم وفرض نظام جديد أكثر ملاءمة لمصالحه مع صبغة سياسية أزيد تحررا، ولو أنها لا تفي بما فيه الكفاية بحاجة التحرر للشعب لنزعة النظام الجديد الإسلاموية؟
فعوض أن يأتيه نظام الثورة بالحقوق والحريات التي ثار من أجلها، فرض عليه قيودا أخرى باسم فهم متزمت للدين؛ لذا، لا مناص له اليوم إلا التحيل في تصرّفاته مع الصبر حتى يديل الله الأمور. ومن الوسائل التي يلجأ إليها هذه الملكة التي فيه، وهي حكمة شعبية يُسمّيها تدبير الرأس.
تدبير الرأس، أو الراس، مقولة مشهورة نسمعها يوميا تحكي واقعنا المعيش؛ وهي تمثّل حقيقةً ما يستنبطه التونسي من إبداع يومي في ظروفه الحياتية الصعبة، خاصة بالنظر لحالته المزرية من ناحية الحقوق المنعدمة وحرياته المخصيّة.
من تدبير الرأس التصرف بحنكة، بما فيها المخاتلة، للخلاص من تبعات الطبيعة الفاسدة التي تهيمن على العقول وتداعيات القوانين المخزية التي تنمّي الإرهاب الذهني، سواء عند النخب أو بالإيحاء والتقليد عند عموم الشعب. إن تجليات هذه الحكمة الشعبية لتضاهي العلم الأكاديمي، بل وتزيد عليه قيمة. أليس الشارع خير مدرسة والحياة أفضل معلّم والطبيعة أفضل النطاسي؟
من تدبير الرأس إحكام الفكر وإعمال العقل في كل الأمور؛ فهذه ميزة الإنسان؛ إلا أن تدبير تدبير الراس الشعبي لهو أفضل من تدبير الرأس الجامعي أو السياسي، لأن الأول متجذر في واقعه بينما الثاني هجين أو منبت غالبا. فالثاني، أي النخبوي، دغمائي، يجتر ما تلقاه وحفظه عن ظهر قلب، بينما الأول، أي الشعبي، يخترع ويكتشف ويبتدع فيبدع. وليس هذا عند النخب للأسف لأنها لا تعمل إلا على تفصيل ما هو معروف متعارف عليه، تسهر فقط على فرضه حتى بالقوة.
وما يزيد الطين بلة، أن البعض من هذه النخب يرى منكرا ما يخالف المعروف لبلادة عقل وبلاهة ذهن يمنع من استنباط ما يناسب الحياة اليومية، الشيء الذي يمكّنه الذهن البشري إذا تفتق، بما أن الإنسان ينال ما وراء العرش إذا أراده بعزيمة قوية وصدق سريرة.
تدبير الرأس ضد التوحش
إن تدبير الرأس هذا لا مناص منه من طرف الشعب لمجابهة التوحش القانوني والمادي والديني الذي يقاسي منه. ونحن نعاين خاصة هذا بتونس اليوم التي أضافت للتوحش القانوني الذي عرفته تحت الديكتاتورية وأبقت عليه إلى اليوم توحشا جديدا في شكله الرأسمالي.
هذا المنوال الاقتصادي يميّز النظام الاقتصادي للحزبين الكبيرين الحاكمين، وخاصة الإسلامي منهما الشيء الذي مكّنه من الحصول على دعم زعيم الرأسمالية الأكبر وفرضه على الساحة السياسية التونسية في سياق الانقلاب الشعبي، أو الثورة التونسية، في تجربة سياسية جديدة حتمتها أزمة الليبيرالية العالمية.
فالليبيرالية الجديدة لم يعد لها من مناص إلا مواصلة فتح أسواق جديدة للحفاظ على أرباحها وقد أصبحت صعبة المنال في أسواقها المعهودة نظرا لعقلنة النظام الرأسمالي بها؛ لذلك نراها تسعى حثيثا بتونس لجعل بلدنا سوقا للتجارة بدون قيود. ورغم أنها تؤسس ذلك على منظومة قانونية وضوابط أخلاقية، فهي لا تعتمد في هذا التمشّي إلا القالب الشكلي الذي لا يعدو أن يكون مجرد شعارات جوفاء.
لهذا رأت من المتحتم عليها استعمال الورقة الدينية بتوظيف ما يمتاز به الحزب الإسلامي التونسي من أيديلوجية اقتصادية ليبيرالية لا ضوابط لها؛ وقد علمنا منذ ماكس فيبر العلاقة الحميمة التي تربط بين الرأسمالية والأخلاقية الدينية البروتستانتية. مع العلم أن الإسلام الرسمي الحالي، ومنه خاصة المتزمت طبعا كالوهابية، ليس إسلاما صحيحا إذ كله إسرائيليات، ما يجعله شبيه البروتستانتية.
ما دام البرنامج الاقتصادي للحزب الإسلامي بتونس يعتمد على نظرة شعائرية محافظة وحريات سياسية وحقوق اجتماعية منعدمة، فهو بالنسبة لليبيرالية الجديدة الوسيلة الأفضل لإحكام قبضتها على البلاد، وبالتالي لضمان الربح التجاري الأوفر، ولو كان على حساب الأخلاق والقيم.
طبعا، هذا لا يقلق أهل التزمت الديني ما دامت قراءتهم للإسلام سلفية، لا يعنيهم في الدين إلا الحصول أو الحفاظ على الحكم والعمل باطنيا على أسلمة البلاد حسب تطبيق همجي للدين ينسف صرحه من الأساس بجعله ظلاميا، فاقدا كل ما فيه من تنوير مكّنه من أي يكون الحضارة العالمية التي علمنا.
لكن ذلك يقلق راحة الشعب في طبيعته المسالمة التي تنهم الحياة نهما. لذا، نرى الشعب مضطرا للنهل من حكمته التليدة، هذا الفن الحياتي، للصبر على مصائب الدهر ودواهي الحكم والتفاعل بذكاء مع التوحش الذي ازداد في البلاد. هذا هو الدور الهام الذي يلعبه تدبير الرأس الشعبي في تونس.
المالنخوليا الاجتماعية
لئن تمتع الشعب بهذه الصفة الفنية في الخلق والإبداع في حياته اليومية، فهي من شأنها أيضا، تماما كما نرى ذلك مع الفنان الموهوب، أن تنقلب إلى مالنخوليا فنية اجتماعية. وإنها كذلك عندما تمر من الاحساس الذاتي عند الفرد إلى المجموعة في معاناتها من واقع يومي في قساوة الجلمود؛ فإذا هي تزيد في القطيعة بين العوام ونخبها، بينما لا أمل في تحسين حال العامة في المجتمع إلا بتحسيس الخاصة به لإعطاء المثل لها للمنوال على شاكلته.
إن الشعب اليوم، عكس ما نعرف، يقتدي بحكامه. فهو يحاكي في تصرفاته أولي الأمر من ذوي الجاه والسلطان في تدبير رأسه بالنفاق كما هم ينافقون. هذا الذي يجعل القناعة في أنه لا أمل للإصلاح والتغيير داخل المجتمع إلابالبدء بتغيير ذاتهم من طرف أصحاب الجاه والسلطان حتى يهتدي الغوغاء بهم.
وهذا ما غير فاعلة الطائفة المحظوظة عندنا، لا لشيء إلا لأن ذلك من المستحيل اليوم لما يقتضيه من تغييرات في البلاد لا يقبل بها لا أولو الأمر من ساسة البلاد ولا من وراءهم من أصحاب المصالح بها من رؤوس الأموال العالمية، نظرا لأن عالمنا في تصاغره المتزايد عمارة كوكبية.
مع هذه الأحوال، داخليا وخاجيا، هل من المنطقي أن نريد من الغوغاء عدم السعي، بما لها من وسائل مما يستهجنه الفكر والذوق، في محاكاة أفعال من يُحتذى بهم من زواية نظرها في بلادها وخارجها؟
لنقلها صراحة : ليست شناعة الغوغاء إلا من شناعة الخاصة وخاصة الخاصة. إلا أن الأولى عارية؛ أما الثانية فهي، حسب العبارة المشهورة، الغائط في جورب الحرير. لهذا أرى أن الأحكام المنددة بأخلاق شعوبنا لهي خلب، كالسحب الخادعة، لا تمطر حكمة إنما خداعا يزيد أفق الأفكار المسبقة اكفهرارا بما أنه لا فرق في الطباع البشرية إلا بزخرفها المتأتي من الرفاهة الاقتصادية والحريات السياسية.
هذا ما يجعل الشعب بعد الثورة يزهد في العمل ويتنكر لواجباته نظرا للقسوة المفرطة للتوحش الثلاثي المسلط عليه، القانوني والاقتصادي والديني؛ به تفسد حاله يوما بعد يوم وتتدنى إلى الحضيض، خاصة عند الغوغاء. فهل من فائدة في الأحكام المشنعة بذلك؟ أليس الأفضل التنديد بالأسباب، وبالتالي نسف الأحكام المخزية التي تجعل حياة الشعب جحيما والتي يمكن تغييرها بخلاف مظاهر التوحش الأخرى؟
إن تغيير المنظومة القانونية هي الوحيدة الي توفر إمكانية جدية لتغيير الأحوال؛ خاصة منها تلك التي لا تأخذ بالواقع المحسوس وكل ما فيه من ثراء، ليس ضرورة بالظاهر للعيان، فتأتينا حريرية ناعمة ولا نعلم ما بداخلها من براز، لعله يفيد الأرض، لكن لا مصلحة فيه لتنمية الأحاسيس الإنسانية.
لهذا، يجبرنا علم الإجتماع على القول أن الحال الاجتماعية بتونس ستبقى على ما هي من دناءة، لا أمل في تغيير أي شيء فيها طالما لم يقع إبطال القوانين التي تحد من الحريات الشخصية لخلق هبة تهز الأنفس والعقليات. فلا شك أنها تلقى القبول الحسن عند عموم الشعب، شبابه بالخصوص، لأجل ثرائه النفسي من جراء تدبيره المستدام للرأس؛ عدا النزر القليل الدغمائي الذي يشذ عن سيكولوجية الشعب وسوسيولوجيته؛ فهو يُحفظ ولا يقاس عليه.
ثراء المجتمع المركب
يعني تعبير المجتمع المركب أنه متنوع في تعدد اختلافاته، لا من مدينة إلى أخرى فقط، بل وأيضا من حي إلى حي، وحتى من فرد إلى آخر في العائلة نفسها. وهو للسوسيولوجي المغربي بول باسكن الذي وصف به، بصفة ذكية بارعة، الخاصيات النفسية والاجتماعية للمجتمع المغربي. ولا شك أن نفس التوصيف ينطبق على المجتمع التونسي، بل لعل ذلك أشد التصاقا بالواقع التونسي اليوم.
لا شك أن في هذه الخاصية الثراء الكبار على جميع المستويات، بما فيها الأخلاقي، والذي لا نراه لا محالة إذا قسناه بأخلاق مجتمعات غربية ساد النظام فيها اليوم، بينما لم تكن الحال كذلك من قبل، إذ كانت أيضا تتخبط خبط عشواء زمن ظلماتها القروسطية.
ففي القرون الوسطى بأوروبا، كانت الحال ما نراه اليوم ببلداننا العربية الإسلامية بينما لم تعرفها مجتمعات عربية كانت متحضرة آنذاك، كما كان الأمر في الأندلس أو دمشق أو بغداد مثلا، وقد بقيت طويلا حواضر العالم أجمع، مثل باريس ولندن ونيويوك اليوم.
لسائل أن يسأل : لماذا تدهورت أخلاق مجتمعنا منذ الاستقلال، وبعد الثورة خاصة، حتى أصبحت على حالة مزرية رغم الثراء المذكور؟ الجواب هو أن التطور يقتضي النهج على نموذج نوعي لا مجرد شعارات جوفاء.
فمعلوم أن الاستقلال أتى بفك الترابط بين الأنظمة الغربية القديمة التي كانت سائرة نحو التقدم الاقتصادي والقيمي وأنظمة حديثة لم تحافظ فقط على تأخرها الاقتصادي بل زادت تأخرا أخلاقيا لتعدد المتسلطين بها. ذلك لأنه انضاف للمحتل السابق، الذي لم يرفع يده تماما عن البلاد وخيراتها رغم خروجه منها، كل من أتى من أهل البلاد في خدمة مصالحه من الفئة القليلة المحظوظة داخل البلاد. هكذا غدت حال الشعب أتعس مما كانت عليه أخلاقيا بما أنها تدهورت اجتماعيا وإن حصلت سياسيا على تقدم خادع احتكرته الطبقة الحاكمة.
إن التقدم الاقتصادي هو الذي يزرع أولا بذور الرقي الأخلاقي والسمو القيمي؛ وما دام هذا من العسير إيجاده ببلداننا في الوقت الراهن، لا مجال لطلب المستحيل من الشعب، لا لزمانة فيه أو عاهة في طبيعته، إنما لمجريات الأمور ومقتضيات الحياة التي تفرض ذلك؛ فالفقر يؤدي لفعل ما لا تقبل به الأخلاق. وتزيد الأمور تأزما القطيعة بين الشعب ونخبه، حارمة الأول مما من واجب الثانية تقديمه له. ثم تتعقد أكثر باستغلال فاحش من هذه الأخيرة للدين لتقزيم الشعب.
القطيعة بين الشعب والنخب
نحن نعلم قيمة المألوف والمعرف عندنا، وقضية المختلف والمؤتلف والبدعة المنبوذة والتراث التليد المقدس حتى وإن تحنط وفسد. وهذه لقاصمة الظهر لدين كان ثورة عقلية فإذا به ثروة لأهل التزمت وأرباب التجارة الكاسدة أخلاقيا، النافقة في إفساد الدين.
إن العديد من أئمتنا المتزمتين يتمعشون من اجتهاد السلف، لا يأتون بجديد فيه إلا من باب التلفيق المبتذل لما لم يعد صالحا لهذا الزمن عوض الابتكار والابتداع، بل الإبداع كما يفعل الشعب في حياته اليومية. هذا مما يرفع عنه صفة المشيخة التي هي العلم أولا، ثم صفة الدين الذي هو اجتهاد لا ينتهي حتى مع الخطأ، لأن الثواب حاصل ما دامت النية حسنة.
بمثل هذا التقليد الفاحش، أين هذه النخب الدينية من تدبير الرأس الذي تمتاز به العامة؟ هلا أخذت الخاصة المتديّنة بذكاء العامة وسارت على سنتها عوض التثبث بالماضي وتجاهل الحاضر؟ فالرسول الأكرم كان بشرا كسائر البشر، ولم يختلف عن سائر بني بجدته إلا في تحميله الرسالة، أما في سائر معيشته، فقد بقي كغيره، يجتهد ويخطأ، فيعبس ويتولى مثلا، ويصلح نفسه قبل أن يُصلحه ربهّ. كل هذا من تديبر الرأس المفكّر عندما يعمل الذهن ويجتهد الدماغ حتي لا يصدأ كما صدأ عند فقهائنا والساسة الآخذين بحرف الدين متناسين روحه ومقاصده.
هذا هو الفرق بين تدبير الرأس النخبوي الذي يتوجب اليوم ببلدنا، وهي في ثورة ذهنية شعبية عارمة، إعادته إلى المكان الذي يليق به، والذي يليق بكل تقليد أعمى، أي مزبلة التاريخ البشري.
إن الأحكام والقوانين لا بد لها أن تتغير باختلاف الزمان والمكان وتتلون حسب المتخيل واللاوعي؛ فإذا لم يتم ذلك فلحاجة في نفس يعقوب، وهي حاجة أهل الشوكة والسلطان، ماديا كانا أو معنويا، لمصالحهم الشخصية. كما أن الأخلاق ليست ضرورة في منهجيتها وعقلانيتها أو ديكارتيتها؛ ذلك لأن الديكارتية لم تعد اليوم الميزة الفضلى للعقلانية؛ فالعقل نفسه لم يعد بعد ديكارتيا، إذ هو من الحسية بمكان.
لهذا أكدنا على ضرورة الاهتمام بالقوانين والسعي للتخلص من كل ما بطل منها لأهمية تداعياتها علي الحياة اليومية للشعب وتأسيسها لتسلط الساسة وظلمها للعامة. ولهذا، بالرغم من كل الهنات التي تميز الأخلاقية الشعبية التونسية إذا قسناهم حسب المعايير الغربية الراهنة، نقول أنها تزخر بالقيم التليدة بما لا يُستهان به، ولو أنها من تلك التي لا تراها الأعين المجردة، إذ هي في الإحساس قبل كل شيء.
كل هذا يقتضي من الفرد تجاوز المظاهر الخداعة والظواهر الخاطئة، كل تلك القشور التي يتسربل بها التصرف الشعبي، لا لشيء إلا لأن نسق الحياة يفرضها فرضا بسبب قوانين مجحفة وتسلط ساسة وأرباب مصالح متغطرسين. فلا مجال للحياة إلا بالتخفي؛ بهذا تكون هذه القشور الاجتماعية كما هي عند السمكة تحميها من العدوان؛ فهي الدرع الطبيعي لتونسيي الشارع، خاصة منهم الذين لا حول ولا قوة لهم إلا بمثل تلك التصرفات الرعناء التي من شأنها أن تحميهم، بل وتجعلهم يحاكون أهل السلطان بشوكة مستعارة من البلادة وقلة الذوق والأخلاق.
تقية الشعب القيمية
هكذا نفهم ما تزخر به شوارعنا وتلفظه أخلاقنا؛ كلها تمثيلية من نوع ما برع شكسبير في وصفه بالنسبة لمجمع آخر من هذه المجتمعات المتقدمة اليوم التي تفتخر بأخلاقها وعصريتها. إنها من باب التقية، لا يجب الاعتداد بها ضرورة؛ ونحن نعلم قيمة هذا الثابت الإناسي أو الأنثروبولوجي عندنا.
فلا شك أن كل من يراقب عن كثب حياة الشعب اليومية يلاحظ أن تصرفاته تختلف حسب موقعه، إذ تتغير حاله في العلن وفي السر، بين الأحباب ومع الغرباء. كما هي تتنوع حسب تصرف الآخر، أو بسبب ما نتوقع منه من تصرف؛ فإذا هي على شاكلة مع الغربي وعلى شاكلة أخرى مع ابن البلد الذي استدام الإقامة بتونس إلى حد التطبع بتصرفات أهله. وهي في تمام الاختلاف مع تونسيي المعتاد، أي أهل البلد ما دام تصرف الواحد حاكى الآخر ولم يأخذ بما يتجاوز المظاهر وزخرفها أو حثالتها؛ فهي عادة مستنفرة.
كل هذا يبيّن أن الأخلاق التي تستفزنا بالشارع هي من باب الطبيعة الثانية المركبة تركيبا في التونسي، والمغربي عموما، جراء المنظومة القانونية المفروضة على الشعب بقهرها وظلمها، وتسلط المتسلطين من ذوي الجاه والسلطان.
ليست هي طبيعة بشرية في التونسي ولا هي صفات أزلية، بقدر ما هي من الحيلة التي يقتضيها نمط الحياة المفروض على شعب بائس ما قبل قط بمن تسلط عليه، إنما قبل التعامل مع الظروف المفروضة عليه قهرا بلباقة وفطنة تحفط له حياته وحياة أهله ولو أدت إلى المبالغة والتهور للتأقلم مع المحيط والبقاء حيا.
هنا يكمن دور المثقف الذي من واجبه تفهم حالة شعبه لأجل إنارته، عندما تسمح الظروف بذلك، إلى ما فيه آجلا تفتق ما بقى كامنا فيه من ثراء تحت رماد وأوساخ الدنيا. فهو الذي بإمكانه، على المدى الطويل، تغيير مفاهيمنا للأمور الأخلاقية وغيرها؛ من ذلك فهم ماهية الأخلاق الحميدة أو العار أو الدعارة وصرفها بعيدا عن المفهوم الديني المتزمت.
هذا لا يمكن القيام به إلا من طرف النخبة النيرة في كل مجتمع إذا لم تفعل مثل المثل الفرنسي القائل بطرح ماء الغسيل مع الرضيع بعد اغتساله؛ وهو في القدرة على رؤية ذلك النور الوضاء بداخل كل أبناء مجتمعه؛ لأنه لا ينعدم في شعوبنا، وإن تعست أحوالها البائنة، جذوة خيّرة رغم صرفها للشر من طرف من لا يرى مناص من ذلك لضمات عيشه.
مع التذكير بما سبق أن قلنا، أي أن الحال التعيسة مفروضة على شعوبنا مثنى وثلاث؛ فهي متسلطة عليها بشوكة الحاكم وقوانينيه الزجرية المجحفة؛ وهي أيضا متسلطة على البلد بالأمر المفروض عليها دوليا جراء نظام عالمي مجحف، علاوة طبعا على ما في تخلفها الاقتصادي من ظلم مستدام.
واجب النخبة اليوم إذن يتمثل في التعرض لمثل هذه الشناعة، لا للتشنيع بها، بل للتقليل منها بالتذكير أولا بحقيقتها، فلا نجعلها حكرا على حثالة المجتمع، إذ هذه الأخيرة ليست إلا الصورة البشعة، دون غطاء ولا زيف، لما في النخب. ذلك لأن الآخر المختلف هو أنا وأنا هو الآخر، خاصة في اختلافه؛ فهو يعكس ما لا نراه فينا، بما أننا لا نتجلى إلا في أعين غيرنا بصفة أو بأخرى، تماما أو في ردهات وبصمات من شخصنا.
ثقافة الإسلام
إن حال الشعب التونسي اليوم ليست دائمة؛ فكما أنه لم يكن كما كان بالأمس، ليس له أن يبقى هكذا سرمديا. إلا أن التغيير أصبح اليوم أصعب منه بالأمس، فيكاد يستحيل في عالم سُدّت منافذه وضُربت على أيدي من يسعى فيه صلاحا؛ إذ حتى الأذهان النيرة فيه عُدت أفرغ من قلب أم موسى لقسوة دغمائية الفكر الحداثي وآلياته العلومية أو الابستمولوجية.
لا شك أن هذا هو العامل الهام الذي يعتمد عليه الغرب اليوم، بعد انطفاء أنواره ورغم شناعة تجليات تقانته اليوم، في العمل المتهافت على المحافظة على تسلطه على العالم بادعاء دوام حداثته، رغم أنها على هيأة مومياء، حتى لا يُضطر لتغيير سياسته ونظامه العالمي. وكيف يغيّر من تصرفاته الهوجاء ما دام له أفضل الدعم ببلاد الجنوب، لا فقط ممن وظفهم لأغراضه من الساسة، بل وأيضا من أرباب الأقلام، وقد احتل فكرهم وذهنهم، فتغنوا بحداثته وتمسكوا بها رغم خسوف نجمها، رافضين كل ما في مجتمعاتهم، حتى ما حسن فيها وكان وضّاء وله أن يعود للإضاءة في عالمنا المظلم الظلوم.
هذا مرتبط بثورة عقلية لا بد أن تتم عند النخب إذ هي بعد بدأت في المخيال الشعبي. إنها تخص الفكر الديني السلفي وتتمثل في رفع كل الكوابل التي تمنع فهم الدين أولا وقبل كل شيء كثقافة لا كشعائر، إذ الإسلام ليس دينا فقط، بل هو دنيا أيضا.
إن الدين في الإسلام مجاله الحياة الخاصة، لا دخل فيها لأحد، لا للفقيه بالدين ولا لأهل السياسة من خلال القوانين الوضعية؛ ذلك لأن العلاقة مباشرة بين الله وعبده، بخلاف ما عهدناه في اليهودية والمسيحية؛ فلا كهانة ولا كنيسة في الإسلام. ثم إنه دين يسر لا عسر، وهو يحترم الحرية الخصوصية إلى حد قبول العصيان ما دام ذلك يتم في حرمة الحياة الخصوصية وبالتستر؛ فإلى متى نريد الدين عوجا أخذا بالإسرائيليات؟
لا بد إذن من إبطال كل القوانين المخلة بهذا المبدأ الهام في الإسلام وهي تدّعي باطلا المرجعية الإسلامية؛ بذلك نخلق معادلة سوية بين روحانيات إسلامية هي أولا وقبل كل شيء ثقافة إناسية؛ ويكون ذلك ضرورة متناغما مع مادية معقلنة تعيد للإنسان قيمته، فلا تهضم حقه بإسقاطه تحت قيمة البضاعة التجارية ! بهذا نعلي من قيمة الإسلام بأن نعترف بقيمته ثقافة عالمية. وذلك من شأنه أن يمككنا من اكتشاف أنه لائكي قبل اللائكية في فصله الديني عن المدني.
لائكية الإسلام هي بالمعنى الصحيح للكلمة أي ما يخص العموم لا الخاصة. وهو هذا الإسلام الشعبي، الذي أساسه التصوف. ولكن ليست تلك الصوفية التي نراها في شوارعنا، وهي من الشعوذة، بل هي صوفية الحقائق كما اعترف بها منظر السلفية ابن حنبل الذي كان يتتلمذعلى أقطابها، وتلميذه ابن تيمية، صاحب العبارة.
أما الشعوذة التي نراها في شوارعنا، فهي من إفرازت القمع الذي تعرضت له الصوفية من طرف فقهاء الرسم. مع العلم أن الشعوذة لا تخص إسلام الباطن فحسب، إذ هي متواجدة بفحش في الفقه السني أو الشيعي، بله في العلوم وسائر ميادين الحياة البشرية.
لقد أصبح ديننا الرسمي اليوم كله شعوذة ونفاق، لذلك، لا بد من العودة به إلى منبعه الأصلي، أي صفته الأساسية، وهي أنه ثقافة قبل أن يكون شعائر. لذلك يتوجّب الفصل بينهما؛ فالدين الشعائري يخص الحياة الخصوصية، لا دخل لأحد فيه، خاصة الدولة؛ والدين الثقافي، أي أس الدين، هو الذي يخص الميدان العمومي وللدولة دورها فيه.
في هذا الصدد، هلا تجرأت السلط، باسم مبدأ الدولة المدنية، فألغت وزارة الشؤون الدينة وأدمجت مصالحها بوزارة الثقافة لتبيين أن الدين هو ثقافة بالأساس، وهي ثقافة الحقوق والحريات قبل الشعائر؟ هذا من بين التحديات التي يفرضها الواقع المعيش، لأن القطيعة كبيرة بين إسلام الشعب الحر المتحرر من الشعائر والإسلام الرسمي المتزمت في رسوم لم تعد تمثل الدين إلا كما تمثل الحضارة الفروعونية مومياها، أي ثقافة اندثرت ولم يبق لها إلا الأثر بعد العين.
هل نرضى هذا لدين الإسلام الذي بإمكانه، إذا توكل المسلمون على ربهم بحسن نية وصدق عزيمة، فرفعوا ما تراكم على تعاليمه السمحة من إسرائيليات، جعلوا منه دين ما بعد الحداثة، لما فيه من روحانيات وإناسة؛ أليس الإسلام خاتم الرسالة الإلاهية؟
ختاما، لنقل أن قناعتنا باقية في أن عصر الجماهير الذي أظلنا سيزيد في القطيعة بين النخب والشعب؛ إلا أن لهذا الأخير من الزاد والثراء ما يجعله يستغنى عمن يدّعي حكمه؛ لذا على هذا الأخير التأقلم مع ضرورة العصر الجديد، وذلك بالحرص على فهم معاناة الشعب وتثمين حكمته الشعبية. فإما يكون ذلك أو يثور حتما الشعب على من يدّعي حكمه وليس هو في حكمته، أي لا يفهمها؛ وللصبر حدود.
شارك رأيك