بقلم أحمد الرحموني * رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
أعتقد ان فئة قليلة فقط من التونسيين قد سمعت بتلك الوقائع المرعبة التي مثلت في بداية الاستقلال مأساة شخصية لأحد الكفاءات التونسية الكبرى الذي لم يقترف ذنبا غير ولادته اسود البشرة.
وبالتاكيد لا يمكن ان تتوقف تلك المأساة عند المعاناة الشخصية لسليم موسى مرزوق المدعو “الجنرال سليم” خصوصا اذا علمنا ان تلك المأساة قد وجدت اسبابها في وضعية التونسيين من ذوي البشرة السوداء -التي تميزت بالتهميش والحيف والعنصرية- اضافة الى ممارسات النظام الاستبدادي التي عمقت ذلك الواقع الكريه حتى بعد الاستقلال السياسي للبلاد.
لكن هل توجد في هذا السياق مناسبة للحديث عن هذا الموضوع او رواية هذه القصة؟
في حقيقة الامر لم اهتد الى بعض تفاصيل قصة “الجنرال سليم” إلا بالصدفة وعن طريق رواية اساسية وردت على لسان الاستاذة مهى عبد الحميد وهي تونسية وباحثة جامعية في الجغرافيا الاجتماعية ومناضلة ضد العنصرية ومظاهر التمييز ومن بين المدافعين على مبدإ المساواة في الحقوق بين كافة المواطنين.
وقد كانت الحملة التي رافقت في المدة الاخيرة تقديم الملفات المتعلقة بانتهاكات حقوق الانسان الى هيئة الحقيقة و الكرامة مناسبة للأستاذة مهى عبد الحميد لكي تلاحظ في شان القصة التي تعنينا انها تعبر عن احترامها “لعائلة سليم مرزوق التي لم تودع ملفا لدى هيئة الحقيقة والكرامة “مبينة ان” سليم قد اعتقل مرارا في السنوات الستين (1960) وحكم عليه بالسجن ثم زج به لمدة تجاوزت اكثر من 38 عاما بمستشفى الرازي للامراض النفسية (منوبة) اين قام بإضرابات متعددة عن الطعام. وقد حمل في جويلية 2001 وهو في حالة احتضار الى منزل عائلته بقابس (نهج تونس) اين توفي في اوت2001″. (الصفحة الخاصة للسيدة مهى عبد الحميد بالفايسبوك – 16جوان 2016).
ويبدو ان الحديث مجددا عن هذه القصة -بعد ان تم الكشف عنها في الاشهر الاولى التي اعقبت الثورة- قد خلف في سياق تنصيب تمثال بورقيبة في غرة جوان الفارط مشاعر متناقضة تراوحت بين التمجيد والاتهام والحديث ولو في دوائر ضيقة عن عنصرية “الزعيم” ورفضه بشراسة اي مطالبة بحقوق السود .
لكن كيف بدأت القصة – المأساة وكيف تواصلت بعد رحيل بورقيبة عن الحكم وعن الدنيا وسط صمت مريب لم تقطعه إلا الاصوات التي كشفت عن الوقائع بعد الثورة؟
يظهر ان جميع عناصر القصة لم تكتمل بعد وان الامر كان يقتضي اتباع مسار العدالة الانتقالية تقصيا للحقيقة وعلى الاقل لكي تتحمل الدولة مسؤوليتها لكن المعطيات القليلة المتوفرة تبرز جوهر الحكاية ومغزاها (انظر مقال السيدة مهى عبد الحميد بصفحتها الخاصة بالفيسبوك بتاريخ 16 جوان 2011 تحت عنوان “قصص في الظل سليم مرزوق او الرجل الاسود الذي احتجزه بورقيبة”).
“سليم مرزوق (او كما قلنا المشهور باسم الجنرال سليم) هو تونسي اسود من قابس عاد الى تونس في السنوات الستين بعد دراسات جامعية في الطيران بباريس وزيارة اداها الى الولايات المتحدة الامريكية. ولدى عودته الى تونس انتقل لزيارة بورقيبة الذي رفض ان يمنحه منصبا في حكومته بحجة وحيدة تتعلق فقط بلون بشرته.”
وفي هذا الشأن توضح شقيقته “ان بورقيبة قد توجه له بالقول “حسنا لقد اتممت اذا دراساتك الجامعية سأبعث بك سفيرا بإحدى دول افريقيا جنوب الصحراء وبذلك تكون بين اهلك على احسن ما يرام”.
وتشير الوقائع الاخرى الى ان سليم مرزوق “قد خرج من عند الرئيس وهو في حالة غضب شديد ثم عاد الى الجنوب التونسي ليحاول جمع الناس حول قضيته وهي اساسا انشاء حزب سياسي اسود فضلا عن تنظيم الاجتماعات وفتح فروع محلية لهذا الحزب بمدينة قابس والقرى الكائنة حولها اين يتواجد عدد كبير من السود. غير انه ظهر من جانب بورقيبة خوف من ان تتخذ هذه التعبئة السياسية صبغة وطنية وان تجد لها بعدا دوليا كالانتماء لقضية الافارقة الامريكيين. ولكي يتخلص من اي تهديد لم يعمد بورقيبة الى الزج بسليم مرزوق في السجن -حتى لا يتحول الى زعيم او سجين سياسي- بل قام باعتقاله في مستشفى الرازي للامراض النفسية (منوبة) اين قضى -كما اشرنا- اكثر من 38 سنة”.
ويذكر في هذا السياق ان شقيقة سليم مرزوق قد اعدت بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 ملفا بغرض اخراجه من مكان احتجازه بمستشفى الرازي لكنه رفض ذلك قائلا لها “من سيعوض لي 27 عاما قضيتها منفيا في مستشفى للأمراض النفسية ؟ انت وقد بلغت هذه السن المتقدمة هل تستطيعين القيام بشؤوني ؟. اتركيني اكمل حياتي هنا بعد ان تعودت على المكان فلدي صحفي وأدويتي وأصدقائي الاطباء…” وقبل شهر من وفاته حملته ادارة المستشفى الى شقيقته بقابس اين توفي كما اشرنا في اوت 2001″.
ومن المعلوم ان الحبيب بورقيبة نفسه قد توفي قبل ذلك التاريخ في 6 افريل 2000 بعد ازاحته بالقوة عن الحكم وإخضاعه لإقامة جبرية بالمنستير وهو في سن متقدمة معزولا عن العالم الخارجي ومحروما من التنقل.
لكن ماذا بقي من دلالة تلك القصة التي لازالت تحتفظ بها ذاكرة العائلة والمحيط ؟
1. يمكن ان نعتبر محاولات التحرك التي بادر بها ذلك المجهول (الجنرال سليم) اولى الظواهر الاحتجاجية التي تشير الى وجود “ازمة تعامل” مع مواطنينا السود يصفها البعض بالعنصرية والتمييز ويراها مجسمة في مختلف مجالات الحياة سواء في المؤسسة التربوية او سوق الشغل اوالشارع اوفي سائر مؤسسات الدولة (انظر اماني ذويب =هل السود في تونس عبيد؟- موقع نواة -13 جويلية 2013).
2. يشير بعض المدافعين عن قضية السود في تونس الى عدم الاكتراث بما يسمونه “قضية الاقلية السوداء التونسية” وهي اقلية صامتة لم تكن يوما محل نقاش وطني مع ملاحظة ان قضية سليم موسى مرزوق التي ذكرنا تؤكد ان ذلك الملف قد اغلق تاريخيا بإرادة سياسية بداية من العهد البورقيبي (مهى عبد الحميد – من رسالة منشورة بعدد من المواقع تحت عنوان “الاقلية السوداء التونسية” -13 ديسمبر 2011). وفي مقابل ذلك يتمسك البعض الاخر بعدم وجود عبودية عصرية في تونس وباستعداد السلطة لفتح نقاش حول هذا الموضوع حتى تعمل البلدان العربية والإسلامية على اقرار القوانين الضرورية لإلغاء العبودية وتجارة العبيد واعتبارهما من قبيل الجرائم ضد الانسانية (من رد سفير الجمهورية التونسية بباريس على حملة منظمة النصب التذكاري لتجارة الرقيق -14 فيفري 2013).
3. تبرز قصة “الجنرال سليم” اشكالية التمييز العرقي في ظل الفترة البورقيبية وبروز ما اطلق عليه “احادية اللون” في الدولة الحديثة. فرغم أن نسبة السكان ذوي البشرة السوداء هي في حدود العشرة بالمائة، فقد بقي السود مغيبين عن المناصب العليا في الدولة، حيث لم يسبق أن تقلد أي أسود منصبا وزاريا، كما لم يدخل تحت قبة البرلمان أي نائب أسود كما لم يسجل العنصر الأسود في قائمة السفراء إلا في مناسبتين اثنتين على مدى خمسين سنة. (محمد سفينة – السود في تونس = الارث الثقيل وسلطة اللون الواحد – مجلة الاوان الالكترونية – 15 فبفري 2009).
4. تكشف القصة وجها مخفيا -بما فيه من بشاعة- لأبرز الزعماء الحداثيين الذي اطلق عليه لقب “باني تونس الحديثة” وهو ما يفسر بعض الممارسات العنصرية التي تروى عن فترة حكمه. ففي أوائل ثمانينات القرن الماضي تم تعيين معتمد من ذوي البشرة السوداء في إحدى مدن الجنوب، لكن انتهى الامر الى طرده قبل أن يباشر مهامه وذلك على يدي احدى الشخصيات النافذة من أصدقاء الحبيب بورقيبة، بسبب لونه، واعتقادا منه انه من غير المنطقي ومن غير المعقول -حسب السائد اجتماعيا- أن يتم تعيين مسؤول ذي بشرة سوداء في منطقة تابعة لنفوذه (محمد سفينة – المرجع السابق).
5. تؤكد التصرفات الشديدة وغير الانسانية التي تعامل بها الحبيب بورقيبة مع المطالب المشروعة لبعض مواطنيه وخصوصا في حالة سليم مرزوق احدى الخصائص الدفينة لشخصيته، فرغم ان بورقيبة قد سعى إلى إخفاء عنصريته تجاه السود (من ذلك تعيينه للطيب السحباني في منصب سياسي) إلا ان البعض لا زال يعتقد ان بورقيبة “قد يكون متأثراً بابن خلدون الذي رسم صورة تحقيرية جداً عن اصحاب البشرة السوداء، مشابهة للصورة التي ترسمها الأنثروبولوجيا الاستعمارية عنهم، على اعتبار أن الأفارقة السود بمثابة «وحوش» لا يتمتعون بالذكاء البشري” (مهى عبد الحميد – ذوو البشرة السوداء في تونس.. مواطنون من الدرجة الثانية؟ – موقع السفير العربي – 19 جوان 2013).
واضافة لذلك فمن المؤسف ان نكتشف ان بورقيبة لم يستوعب -رغم ثقافته- أن رجلا أسود البشرة يمكن أن يمتلك ذكاء في مستوى مواهب الرئيس السنغالي الأسبق سنغور، وأن يكون نيرا مثله، وأن يحقق أداء سياسيا وديبلوماسيا وأدبياً مثله. كان بورقيبة يعتبر ان سنغور هو “رجل أبيض ببشرة سوداء” ( مهى عبد الحميد – المرجع السابق).
لكن في الاخير هل يمكن ان نرى في بورقيبة -بعد كل ذلك- “الا حداثيا مزيفا بفكر عنصري”؟
شارك رأيك