بقلم أحمد الرحموني
ربما لم نشهد في علاقات السلطتين التشريعية والقضائية ما نشهده الان من استخفاف بالمبادئ والحدود واختصاص القضاء.
وليس الأمر كما يراد تصويره مظهرا من مظاهر الصدام بين السلطات بل انتهى الحال الى الغاء كامل لمبدأ الفصل بين السلطات، هذا على فرض وجوده اصلا.
وفي حقيقة الأمر لا يبدو أن استقلال القضاء ولا احترام مقوماته قد شغل منذ ارساء البرلمان الحالي موقع الاهتمام سواء في عقول اعضائه او ممارساتهم .
وفي هذا الصدد يمكن التذكير بموقف لجنة التشريع العام من مشروع القانون الاساسي المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء والمجهودات التي بذلها اعضاء الاغلبية لإضعاف موقع السلطة القضائية فضلا عن رفع الحماية التي يمكن أن يوفرها ذلك المجلس للقضاة وسائر المحاكم و المؤسسات القضائية.
ومن الواضح أنّ إصرار الاحزاب المهيمنة (حركة النهضة وحركة نداء تونس ) على إفراغ المجلس الاعلى للقضاء من صلاحياته الاساسية وفصله عن دوره الجوهري في ضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاله (طبقا للدستور) قد أدّى الى عزل القضاء – في التصوّر النهائي للمجلس – عن المساهمة في أي بناء ديمقراطي تضطلع فيه السلطة القضائية بحماية الحقوق و الحريات.
ولعل الجميع يذكر أن ممارسة الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين لرقابتها على مشروع القانون المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء قد اصطدمت بتعنت نواب الاغلبية حتى ان بعضهم قد استهدف في تصريحات مباشرة المساس من مصداقية تلك الهيئة اضافة الى مهاجمة الهياكل القضائية ومن بينها الهيئة الوقتية للقضاء العدلي.
ورغم بروز أقلية (من المعارضة ) في مجلس نواب الشعب عملت في البداية على ممارسة الطعن في مشروع قانون المجلس إلا ان تظافر جهود الحكومة ورئاسة الجمهورية ونواب الاغلبية مع تراجع الاقلية المعارضة بمجلس النواب عن موقفها قد ادى الى المصادقة نهائيا على المشروع المعد من لجنة التشريع العام الذي افلت في ظروف غامضة من الرقابة الدستورية.
وفي ضوء ذلك يمكن أن نلاحظ أنّ مساهمة مجلس نواب الشعب قد تميزت على هذا المستوى بتدخله كمشرع للانتقاص من الضمانات المكفولة للقضاء بمقتضى الدستور وهو ما مهد – في غياب هياكل قوية – الى التدخل المباشر في شؤون القضاء.
وقد برزت في ممارسة المجلس – وخصوصا في المدة الاخيرة – توجهات تجسم ذلك التدخل وتمثل مخالفات خطيرة لمبدأ الفصل بين السلطات وتشير بصورة جلية الى عدم التزام النواب حدود اختصاصهم وميلهم الى الضغط على القضاء والتأثير عليه .
ويتضح ذلك بالخصوص في استغلال البرلمان لوسائل الرقابة السياسية التى يملكها على اعمال السلطة التنفيذية كالأسئلة الكتابية والشفاهية وجلسات الحوار مع الحكومة ولجان التحقيق (راجع في هذا الشأن الاحكام المتعلقة بلجان التحقيق ومراقبة العمل الحكومي بالنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب) بهدف الخوض في القضايا المنشورة امام القضاء أو طلب معلومات بخصوصها او التعرض للأحكام القضائية او تشكيل لجان يكون موضوعها متعلقا بوقائع او مسائل معروضة على القضاء … ومن شأن ذلك فتح الباب للمساس باستقلالية السلطة القضائية والاعتداء على اختصاصات المحاكم و صلاحياتها .
ولعل ابرز ما يمكن ان نورده كأمثلة اخيرة على “وضعية الانفلات “التي اصبحت تميز اعمال البرلمان الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب المنعقدة بتاريخ 21 جوان 2016 والتي خصصت للحوار مع وزير العدل عمر منصور ووزير الداخلية الهادي مجدوب حول ملفي اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وقد تمت الدعوة للجلسة من قبل 78 نائبا أمضوا على العريضة وعلى رأسهم نواب الجبهة الشعبية. وقد كان من المفروض انعقاد تلك الجلسة يوم 16 جوان 2016 إلا أن مكتب المجلس قد ارتأى تأخيرها بطلب من كتلة حركة النهضة.
لكن ماذا عن الخروقات التي ارتبطت بانعقاد الجلسة وماذا عن الاخلالات التي رافقت اشغالها ؟
من الثابت مبدئيا أن نواب الشعب كانوا يعلمون علم اليقين – او كان عليهم أن يعلموا – ان طرح اسئلة على وزير العدل أو وزير الداخلية في قضايا جارية يؤدي بالضرورة الى اقتحام الصلاحيات القضائية وان الخوض في ذلك تحت أي عنوان ينتهي الى التأثير مباشرة على تلك القضايا (وهو ما يرمى الى تحقيقه البعض منهم) ولذلك كان على جميع الاطراف التى تداخلت في عقد تلك الجلسة (النواب الذين دعوا والذين شاركوا – مكتب المجلس – وزيرا العدل و الداخلية – رئيس مجلس النواب) أن يدركوا أنّ الامر لا يعدو أن يكون سوى تدخل في سير القضاء وهو ما يحجره صراحة دستور البلاد (الفصل 109).
1- الوقائع:
ربما يتذكر المتابعون أن جلسة 21 جوان 2016 لم تكن الوحيدة من نوعها وان المجلس نفسه قد سبق له – قبل ذلك بفترة قصيرة – ان دعا وزيري العدل والداخلية للاستماع اليهما في جلسة عامة حول ما يعرف”بكتيبة ابي مريم” الارهابية بتاريخ 10 جوان 2016.وقد بدا طبيعيا يومذاك ان يجيب الوزيران على اسئلة النواب وان ينفرد وزير العدل السيد عمر منصور بتقديم “بعض المعطيات التي تهم ملف قضية عناصر كتيبة أبو مريم مع تأكيد الوزير على وجوب الحفاظ على سرية التحقيق (و لا ادري كيف يمكن تحقيق ذلك؟!). لكن الملفت ان وزير العدل لم ير ضيرا في اعطاء التفاصيل إلا انه توقف ليؤكد على بعض البديهيات وهي انه كوزير للعدل” ليس من حقه التدخل في عمل قاضي التحقيق وأن الجواب على هذه المسألة يتعارض مع ما يضبطه له القانون من أدوار وصلاحيات”.(بلاغ صادر عن وزارة العدل في 10 جوان 2016).
لكن الحال قد اختلف – ولو نسبيا – مع الجلسة المخصصة للحوار حول ملفي قضيتي الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي فرغم ان الوزيرين قد اجابا بكل اسهاب عن اسئلة كثيرة طرحها النواب الا ان الجلسة لم تمر بنفس السهولة كجلسة “ابي مريم” وبدا الجدل بين النواب حتى قبل انعقادها.
لقد كان واضحا ان التجاذب بين الفرقاء سيبلغ اشده وان اصرار نواب الجبهة الشعبية على عقد الجلسة يقابله اصرار بنفس القدر من جهة حركة النهضة على عدم عقدها ومن البديهي ان تصبح المبادئ (وأساسا استقلال القضاء )واجهة المعارك بين السياسيين !!
فرغم ان حركة النهضة قد توصلت الى تأجيل تلك الجلسة استنادا الى ان عقدها في تاريخ 16 جوان 2016 سيؤثر على جلسة المحاكمة في قضية الشهيد شكري بلعيد(التي انعقدت في اليوم الموالي) إلا ان ذلك لم يمنع الجلسة اصلا وجاء الرد بقوة من نواب الجبهة الشعبية الذين اعتبروا – في ندوة صحفية – ان القول بذلك هو “حجة واهية وغير منطقية نظرا الى ان الحوار مع وزير العدل باعتباره رئيس النيابة العمومية بخصوص الخروقات التي حفت بالقضية لا يمس من سير القضية ولا يؤثر باي شكل من الاشكال عليها “(الصباح نيوز – 16 جوان 2016)
وكذلك تواصل الجدل بين الفريقين في الجلسة نفسها – على خلاف سابقاتها – وانبرى نواب حركة النهضة لإثبات “ان هذه الجلسة هي محكمة موازية لقضايا منشورة امام القضاء وضرب لمبدأ سرية الابحاث وانها مخالفة لمقتضيات الدستور وهي مس من استقلالية القضاء وتدخل سافر في شؤونه …الخ “بل ان بعض النواب قد استفز وزير العدل متسائلا عن علاقته بهذه القضية.
وفي مقابل ذلك عبّر نواب المعارضة عن استغرابهم من “تجريم الجلسة ، وكيف انها لا تمثل أي شكل من أشكال التدخل في القضاء” وبناء على ذلك دعت الجبهة الشعبية نواب حركة النهضة الى “التراجع عن خطاب التشكيك في قانونية الجلسة” (وكالة تونس افريقيا للانباء -21جوان 2016).
وكان واضحا أن التراشق بين الطرفين لم يكن الا انعكاسا للمواقع السياسية وان “استقلال القضاء “- كالمعتاد بين السياسيين – كان بمثابة “قميص عثمان “!!
لكن كيف مرت تلك الجلسة ؟هل اقتنع النواب وهل كشف الوزيران الحقيقة ؟!
من الملاحظ ان عددا من نواب الشعب قد اهدروا وقتا طويلا في الهجوم على القضاء واتهامه بأفعال عديدة ووصفه بنعوت شتى (الفساد – التلاعب – التقصير- طمس الحقيقة – تعطيل الابحاث- التباطؤ …الخ) فضلا عن التجريح في القضاة ( وأساسا قاضي التحقيق المتعهد بملف شكري بلعيد )وكيل الاتهامات المتبادلة بين الفريقين والسؤال عن وقائع وتفاصيل هي من عناصر الملف القضائي لهذا الاغتيال او ذاك .وقد وصل الامر برئيس كتلة حركة النهضة – في مفارقة غريبة – الى دعوة المحكمة “الى تسليط اقصى العقوبات على منفذي عملية الاغتيال ومحاسبة المتهمين”(موقع الشارع المغاربي -21 جوان 2016).
ومن المثير ان نجد وزير العدل وهو يجيب النواب وكأنه يقرأ من ملف القضية من ذلك ما اورده بشان قضية الشهيد محمد البراهمي وقوله “ان الوثيقة المتعلقة بالتنبيه على إمكانية الاعتداء على الشهيد ..والتي قيل إنها ضاعت من الملف، هي في الواقع موجودة ومحجوزة وأن المسؤولين الأمنيين أكدوا أنهم اتخذوا الإجراءات اللازمة، غير أن قاضي التحقيق المتعهد بهذا الملف قرر توجيه التهم لثلاثة أمنيين مسؤولين..
أما الوثيقة الثانية في هذا الملف وهي وثيقة إلكترونية، فقد رأى قاضي التحقيق العودة إلى الطرف الأجنبي المرسل لطلب إيضاحات بخصوصها”(موقع وزارة العدل عن اشغال جلسة الحوار -21 جوان 2016). مع الاشارة الى ان الابحاث لازالت جارية الى الان و ان قاضي التحقيق المتعهد بالملف لم يصدر قراره في ختم تلك الابحاث.
وكذلك نجد وزير العدل وهو يفصل الاسباب الموجبة لاتخاذ بعض القرارات القضائية في ملف الشهيد شكري بلعيد كقوله بشان الافراج عن احد الاشخاص المشتبه في تحريضه على قتل الشهيد شكري بلعيد ان شريط الفيديو المسجل قد “عرض على مخبر لتحليله لتثبت الابحاث ان الصورة غير واضحة ولا يمكن الجزم بانه نفس الشخص الموقوف”وان الصوت الوارد بالتسجيل لا يتطابق مع صوت المظنون فيه ولذلك اطلق سراحه (موقع وزارة العدل).
وإضافة لذلك قدم وزير العدل مختلف التفاصيل المتعلقة بأرقام القضايا المرتبطة بحادثي الاغتيال وتواريخ نشرها وعدد الموقوفين في القضيتين وأوضح في رده أن هناك 16 موقوفا في قضية شكري بلعيد و3 في حالة سراح و8 في حالة فرار فيما تم ايقاف 3 أشخاص في قضية البراهمي (اذاعة جوهرة اف.ام -21 جوان 2016).
وردّا على الاتهامات التي وجهت لقاضي التحقيق المتعهد بقضية شكري بلعيد أكد وزير العدل انه قام بعمله دون تقصير وأنه وعلى عكس ما تم ترويجه فإن تقرير التفقدية بشأنه موجود الا انه دعا جهة لم يسمها إلى الجلوس إلى طاولة الحوار لتحديد المسؤوليات ومواطن الخطأ في عمل القضاة إن وجد(موقع وزارة العدل).
ورغم ما عرضه وزير العدل فقد وجد من النواب من اعتبرردوده حول مستجدات ملف اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي بمثابة الفضيحة، و تثبت عدم وجود إرادة سياسية للحكومة في كشف الحقيقة( تصريح النائب ايمن العلوي عن الجبهة الشعبية – موقع موزاييك اف. ام -21 جوان 2016).
وفي نفس الجلسة رأينا كذلك وزير الداخلية السيد الهادي مجدوب يكشف للنواب معطيات ذات طبيعة قضائية بحكم اشرافه الاداري المباشر على الضابطة العدلية فتحدث حول موضوع الوثيقة الاستخباراتية التي وردت على وزارة الداخلية بخصوص اغتيال الشهيد محمد البراهمي واكد أن تلك الوثيقة مازالت موجودة إلى الان ولم تتلف على عكس ما صرح به البعض.
وإضافة لذلك كشف اسرارا دقيقة تضمنها تقرير الاختبار البالستي في قضية الشهيد شكري بلعيد من ذلك ان السلاح المستعمل في الجريمة آلي أو نصف آلي عيار 9 مم وأن هذا الانموذج لم يتم تداوله من قبل الوحدات الأمنية…الخ(الصباح نيوز -21 جوان 2016)
لكن قد يقال ماذا وراء كل هذه الوقائع اليس من الجائز ان يوجه النائب الى الحكومة اسئلة حول معلومات يجهلها او حقائق لا يعلمها او مخالفات يريد ابرازها ؟
ألا يمكن للنائب او عضو الحكومة ان يتعرض لأعمال السلطة القضائية او للقضايا المنشورة او للأحكام الصادرة عن المحاكم خلال المناقشات التي تجري تحت قبة البرلمان؟
ألا يمكن لنائب الشعب ان يسائل الحكومة –لا ان يسائل القضاء – حول مسائل معروضة على المحاكم؟ الا يكفي لتبرير ذلك على سبيل المثال ان وزير العدل هو رئيس النيابة العمومية فيصح استجوابه في هذا كما يستقيم في غيره من المسائل ؟
2- الموانع:
لا شك أن مجلس نواب الشعب التونسي قد تجاوز– فيما سبق من امثلة او في مناسبات غيرها – الحدود الدستورية التي تحكم علاقات السلطتين التشريعية والقضائية وخرق بذلك – عن وعي او عن غير وعي – الاحكام الجوهرية التي تؤسس للنظام الجمهوري الديمقراطي والذي يقوم اساسا على مبدأ الفصل بين السلطات و التوازن بينها وعلوية القانون واحترام الحريات و حقوق الانسان واستقلالية القضاء (توطئة دستور الجمهورية التونسية).
ولا ندري إن كان اعضاء المجلس وكذلك اعضاء الحكومة على علم بجملة الضوابط التي تمنع بصفة مطلقة التدخل في اعمال السلطة القضائية عن طريق استخدام وسائل الرقابة السياسية من ذلك أساسا :
أ- عدم جواز تعرض الاسئلة البرلمانية لمسائل معروضة على القضاء:
رغم ان الدستور والنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب يجيزان لكل عضو أو اكثر التقدم الى اعضاء من الحكومة بأسئلة كتابية موجزة او بأسئلة شفاهية خلال جلسة عامة (الفصل 96 من الدستور والفصلان 145و 146 من النظام الداخلي) فان ذلك لا يمكن بأي حال في المسائل الخاصة بالأحكام القضائية واجراءات العمل أمام المحاكم.
وكذلك الامر بالنسبة للأسئلة الموجهة من النواب في اطار جلسات الحوار مع الحكومة التي يمكن عقدها حول التوجهات العامة و السياسات القطاعية مرة كل شهر وكلما دعت الحاجة (الفصل 147 من النظام لمجلس نواب الشعب).
ومؤدى ذلك – وهو ما تجاوزه النواب والوزراء في الامثلة التى قدمنا – أنه إذا وجدت بعض الاسئلة من ذلك النوع فإن الامر يستوجب ان ترفض الحكومة (وزير العدل ووزير الداخلية في قضايا الحال) الاجابة عنها بسبب عدم اختصاصها (راجع المؤلف الشامل حول الموضوع – الحدود الدستورية بين السلطتين التشريعية والقضائية – دراسة مقارنة –د.عادل الطبطبائي – مجلس النشر العلمي – جامعة الكويت – سنة 2000 – ص23).
ومن الملاحظ ان هذا المبدأ – الذي لم يتوصل البرلمان التونسي الى تكريسه – قد مر عليه في النظم السياسية المقارنة ما يقارب قرنا من الزمان من ذلك واقعة تقديم سؤال في مجلس النواب الفرنسي في جلسة 10 جوان 1919 في شان قضية منظورة امام المحاكم. فقد قرر المجلس إقفال باب المناقشة دون الدخول في أصل الموضوع احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات واستنادا الى أن القانون قد كفل للمتقاضين الضمانات التي تحفظ لهم حقوقهم وأوضح الطرق والاساليب التي تحقق لهم ذلك فضلا عن أنه فتح الباب لمخاصمة القضاة وطلب ردهم أو التجريح فيهم ( عادل الطبطبائي – الاسئلة البرلمانية : نشأتها، انواعها، وظائفها – مطبوعات مجلة الحقوق- جامعة الكويت -1987-ص79-80).
ويشار كذلك الى أنّ المبدأ الذي يقتضي استبعاد الاسئلة المتعلقة بأعمال المحاكم مقرر بوضوح امام مجلس اللوردات البريطاني( الحدود الدستورية – المرجع السابق ص25).
ويمكن في هذا الباب أن نشير الى أنّ مجلس النواب اللبناني قد أقر المبادئ نفسها منذ اكثر من 60 سنة من ذلك سؤال وجه الى الحكومة من أحد اعضاء المجلس بتاريخ 29 اكتوبر 1953 يتعلق بعدد من القضايا المعروضة امام القضاء طالبا معرفة نتائج التحقيق فيها والأسباب التي استدعت الاهمال بشأنها . وقد اعترضت الحكومة اللبنانية على هذا السؤال وورد في اجابة وزير العدل اللبناني انه “لابد قبل البحث في اساس الموضوع من لفت النظر الى ان السؤال يتضمن في الحقيقة شكوى على هيئة قضائية والمجلس النيابي لا يمكن ولا يجوز ان يصبح مرجعا للشكوى من القضاء وان يحل محل الهيئات المختصة للنظر في مثل هذه الشكوى .والتقاليد البرلمانية لا تقر بحث مثل هذه الاسئلة في المجلس ..لقد كفل القانون للمتقاضين الضمانات الكافية وعين الطرق الواجب سلوكها للمحافظة على حقوقهم فجعل المحاكمة على درجات وفتح لهم باب الشكوى من الحكام …الخ” (انور الخطيب – الاصول البرلمانية في لبنان وسائر البلاد العربية –دار العلم للملايين -1961-ص 388).
ومن الملاحظ أن بعض أعضاء مجلس النواب التونسي – وإن أثاروا في جلسة الحوار مع الحكومة المخصصة لملفي الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي التحفظات الخاصة بالتدخل في سير القضاء – قد أبدوا مع ذلك ترددا في التمسك بكامل مقتضيات المبدأ المذكور وهو ما اضفى غموضا حول توجهاتهم الحقيقية من ذلك على سبيل المثال ما نسب الى النائب السيد سمير ديلو من حركة النهضة الذي تساءل “إن كان تناول مسألة الاغتيالات خلال هذه الجلسة من باب إنارة الرأي العام وفي إطار رقابة السلطة التشريعية على نظيرتها القضائية؟ (كذا وهو ما يتناقض مع مبدأ الفصل بين السلطات ؟!) أم أنها تتنزل في سياق التدخل في سير القضاء وخرق الدستور والاعتداء على استقلالية القضاء”.
ولعل ما يشير الى الالتباس في تطبيق المبدأ هو قوله – بخصوص تأجيل جلسة 21 جوان 2016 التي كان من المقرر عقدها قبل اسبوع – ” ان التأجيل كان بطلب من النهضة وذلك ليس رفضا لهذه الجلسة، بل توقيا ودفعا لشبهة التأثير في سير القضاء وفي مسار القضية، سيّما وأنّ يوم الجمعة الذي عقب الموعد الأصلي، تزامن مع النظر في ملف اغتيال شكري بلعيد بالمحكمة الإبتدائية بتونس”(وكالة تونس افريقيا للانباء – 21 جوان 2016).
ويجدر التنبيه في هذا السياق ان الاستناد الى مبدأ استقلال السلطة القضائية لاستبعاد الاسئلة المتصلة بالقضايا المعروضة على المحاكم لا يمنع مبدئيا من الخوض في الانشطة العامة للمرفق القضائي وهو ما تقتضيه مناقشة التقرير السنوي المعد من المجلس الاعلى للقضاء في جلسة عامة تعقد بمجلس نواب الشعب (الفصل 114 من الدستور).
ب-عدم جواز التعرض لأعمال السلطة القضائية أثناء المناقشات البرلمانية :
وهو ما يعد امتدادا لمبدأ الفصل بين السلطات وتطبيقا لمقتضياته في اطار ما يمكن اثارته في المناقشات العامة للبرلمان او في اجتماعات لجانه القارة او الخاصة .فمن الواجب طبق هذا المبدأ الامتناع عن التعرض لأعمال القضاء اثناء تلك المناقشات.
ويتضمن هذا المنع جملة من الضوابط التي تقتضي اساسا:
- عدم التعرض للقضايا المنظورة امام القضاء اثناء المناقشات: وهو ما يعتبر من القيود المستقرة التي تمنع مناقشة حكم قضائي او محاسبة القضاة من قبل البرلمان على اعتبار ان ذلك يرجع للمجلس الاعلى دون غيره (انظرتطبيقات مبكرة لهذا المبدا في جلسات البرلمان الفرنسي بتاريخ 6 افريل1895 و30 مارس1898 ).
- رفض العرائض والشكايات التي تقدم لمجلس النواب بشان احكام وتصرفات الجهات القضائية : وذلك بالنظر الى ان الدستور قد نص على ان “القاضي مستقل لا سلطان علي لغير القانون”(الفصل 102) وانه “يحجر كل تدخل في سير القضاء”(الفصل 109).ومقتضى ذلك انه لا يجوز للمجلس مناقشة الاحكام القضائية او التعليق عليها بمناسبة تقديم العرائض و الشكاوي من قبل المواطنين او غيرهم.
- عدم التعرض لاعمال النيابة العمومية وقراراتها اثناء المناقشات : وذلك بالنظر الى ان النيابة العمومية – التي هي جزء من القضاء العدلي – تشملها الضمانات المكفولة له بالدستور (الفصل 115 من الدستور) فيكون من الواجب تجنب التعرض لأعمالها وأبحاثها وقراراتها في المناقشات البرلمانية وذلك تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات وضمانات استقلال القضاء. ومن الواضح ان استغلال صفة وزير العدل الحالية كرئيس للنيابة العمومية واعتبار ذلك مدخلا طبيعيا للتعرض لأعمال السلطة القضائية او مناقشتها يتناقض مع المبادئ الاصلية المنطبقة على كافة القضاة (انظر اعلاه تمسك بعض نواب الجبهة الشعبية بصفة الوزير كرئيس للنيابة العمومية !)
- عدم التعرض لمسائل منشورة أمام القضاء عند التعقيب على بيانات الحكومة: ويتضح من هذا المانع ان مبدا الفصل بين السلطات يمثل قاعدة عامة تنسحب كذلك على علاقة السلطتين التشريعية و التنفيذية .ويجد هذا المبدأ تطبيقه في صورة دعوة الحكومة او احد اعضائها الى تقديم بيانات امام مجلس نواب الشعب اما بناء على ما يقتضيه القانون واما بمناسبة رقابة البرلمان على العمل الحكومي .ففي هذا الخصوص تعرض الحكومة على سبيل المثال موجز برنامج عملها على مجلس نواب الشعب لنيل ثقته (الفصل 89 من الدستور)كما تفتتح جلسات الحوار التي تنعقد بين المجلس و الحكومة بعرض يقدمه عضوالحكومة المعني بالحوار (الفصل 147 من النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب ).
ويترتب عن ذلك ان الحكومة او احد اعضائها (كوزير العدل او الداخلية) يبقى ملتزما – عند تقديمه للبيانات – بمبدا الفصل بين السلطات فلا يجوز له التعرض بهذه المناسبة لمسائل معروضة على القضاء مثلما يحجر على اعضاء مجلس النواب عند تعقيبهم على تلك البيانات التعرض لمسائل ترتبط كذلك بعمل القضاء او القرارات الصادرة عنه.
وفي ضوء تلك المبادئ والممارسات التي تناقضها يبدو جليا ان ازمة العلاقات بين السلطتين التشريعية و القضائية تخفي جملة من الاخلالات (ان لم تكن تجاوزات خطيرة)في رسم الحدود بين البرلمان والقضاء والتقيّد بالاختصاصات والتوازن بين السلطات واحترام استقلال القضاء وهي معوقات اساسية في بناء النظام الجمهوري الديمقراطي ودولة القانون.
……………………………………………………………
*رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
شارك رأيك