يكتبها فرحات عثمان
نستقبل الليلة أفضل شهر رمضان، ألا وهي ليلة القدر (على أرجح الأقوال) وهي التي تنزّل فيها القرآن، فإذا هو في القلوب ويظل فيها ما بَلّ بحرٌ صوفة.
إلا أن المسلمين، عوض أن يجعلوا من تعاليم دينهم هذه الأشجار الباسقة التي تغذيهم قطوفها الدانية وتظلّهم أفنانها، تفننوا في التجارة فيها، لا فقط بثمارها، بل أيضا بقطعها واستغلال الأرض لإقامة عمارات إسمنت الدمغجة؛ مما عجّل بجهلنا لديننا جاعلا منه جاهلية جديدة.
في هذا، يقول سيد قطب في مقدّمة كتابه «في ظلال القرآن» الذي أثّر شديد التأثير على جحافل من المتزمتين ممن صدّقوا كلمة الحق تلك جاعلين منها باطلا: « في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه… وعشت – في ظلال القرآن – أنظر من عُلو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة… أنظر إلى تعاجب أهل الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال… كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هذا الناس؟! مابالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل، النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟»
يختم قطب المقدمة بما يلي : « هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن، لعل الله ينفع بها ويهدي. وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.» ويقول محمد قطب، شقيق الشهيد، مقدّما النسخة الجديدة من الكتاب المنشورة بدار الشروق المصرية، مندّدا باستغلال الناس الفاحش لكتب شقيقه ولفكره: « ولو أن هذا البعض كان يبغي نشر الدعوة وحده فما كان الأمر ليسوءنا، علم الله. أما وهم يتّجرون بها، ويجعلونها مجالا للمضاربات والمنافسات، فقد كان الأمر في حاجة إلى مراجعة تردّ الأمور إلى نصابها، وتحفظ للكتب مكانتها وللمؤلفين حقوقهم.»
في ظلال القرآن الوارفة
إننا، تماما كسيد قطب، نتحدّث طوال هذا الشهر الكريم عن ديننا ونحن نحرص على أن نتفيّأ بظلال القرآن الوارفة، لا كما يفعل البعض من استغلالٍ وتجارةٍ. لم يكن ديدننا إلا النهل من منبع عذب سلسبيل، هو هذا الدين الذي فيه، لأجل كونيته وعلميته، من الزاد العلمي ما لا يفنى، ومن الغذاء الفكري ما لا حد له لأصحاب النهى الذين حسنت نيتهم.
ولا شك أن النية الحسنة اليوم هي في محبة الآخر، كل آخر، على هناته ما دام يطلب العلم والمعرفة، وهما ليس بما يُمتلك، بل هذه السبيل التي ندرج عليها بحثا عن حقيقة ليست إلا الأفق الذي يمتد أمامنا فنمشي نحوه دون الوصول إليه أبدا. ولا شك أن العلم اليوم أوسع مما كان لنزعته الحسية، فهو فن أيضا؛ لذلك دعونا لإثراء علوم الدين بفنونه.
حتّى نحافظ على أنوار الإسلام ساطعة، لا بد أن نسهر في التعامل مع تراثنا على توخّي أفضل الطرق في الأخذ بهذه الثروة التليدة وأثمن الوسائل، فلا نخلط مكنوزاتها بما كوّمه عليها الزمن من تراكمات طارئة تشينها ولا تزينها. من ذلك، في الأخذ بما جاء به القرآن، الإلتزام بحرف النص وروحه؛ فإن تطابق النص وروحه، كان النص بحرفه المرجع الأوحد، وإن اختلف النص مع روحه، غلبت الروح لعلوّ شأنها في ديننا، ولأنها من كلام الله تماما كالحرف واللفظ، إلا أنها أرفع مقاما. وطبعا، في الأخذ بروح النص، يأتي دور التأويل، ولا يكون إلا بالعودة أولا وقبل كل شيء إلى السنة الشريفة الثابتة، ثم إلى مقاصد الشريعة.
إن العديد ممن يجهلون دينهم أو يحتكرون الكلام فيه باسم مرجعية كنسية أو كهنوتية ليست لا فيه ولا منه ليتكلّم في الدين كلام العارف العالم، بينما لا أعلم ولا أعرف من الله؛ فهو لا يعرف الدين إلا لماما أو ما بقي من اجتهاد السلف الذي بار بمرور الزمن وتغيّر الأحوال. ذلك لأن الدين ليس نصا جامدا، بل هو الحياة؛ لهذا كان الإسلام الدين والدنيا؛ فإذا النص العَقَدي، أي ما يخص أركان الدين، لا اجتهاد فيه، ليس الأمر كذلك بخصوص مجال المعاملات، أي الجانب المدني في الإسلام الذي يقتضي الاجتهاد المستدام.
ليس المهم اليوم ما حفظه الفقهاء عن ظهر قلب يجترّونه على رؤوس الملأ، بل ما نجده عند الناشئة من تطلعات للأفضل، وهي مستقبل الإسلام؛ فواجبنا السهر على تعليمها الدين بصفة علمية لا بالدمغجة الفاحشة التي تميّزنا لأخذها بمناهج بالية تطمس سماحة الدين وإناسته. كم من التونسيين، وليس فقط الصغار، بإمكانه تعداد الأشهر القمرية والسنوات الهجرية بدون تردد أو غلط؛ وكم منهم يعلم أن عدد أيام الشهر القمري 29 يوما ولا 30 إلا استثنائيا؛ وكم منهم يعرف الأبجد العربي معرفته للأبجد اللاتيني ؟
نعم، لقد صعّبت العربية الأمور لما فيها من اتساع؛ فللكلمات أضداد والأبجد أبجدان مثلا؛ لكن، أليس التعدد من مظاهر الزمن الراهن وميزاته ؟ أليس الخلاف والاختلاف ثراءً رغم أن العرب والمسلمين عدّوه في زمن انحطاطهم محنة ! فقد مكّن لحضارة الإسلام أن تكون حداثة قبل أوانها؛ تلك الحداثة التراجعية التي أتكلم عنها ! لذا قلت وأقول أنه لا يمكن للإسلام اليوم، إذا أردنا بناء حضارة جديدة، إلا أن يكون إسلام ما بعد الحداثة، بما أنه كان حداثيا قبل الأوان.
إننا اليوم في جاهلية جديدة، والخروج منها ليس ماقام ويقوم به من يدّعي الانتماء لفكر سيد قطب، إذ ذلك مما يزيد الطين بلة، وهو المتسبب بعد في الدعدشة الحالية للإسلام. إن الخلاص هو فعلا بالعودة إلى ظلال القرآن الذي يبقى نبراسا للعالمين وبرجسا لكل الروحانيين؛ لكن لا يكون ذلك باللغط فيه واللخبطة القيمية التي شاعت جاعلة من الدين ما ليس فيه ولا منه. فإذا نحن، مثلا، نمنع المساواة في الإرث بين الجنسين بتعلة نص قطعي؛ فهل نقطع غدا يد السارق والنص في ذلك بنفس القطعية ؟
كما قالته الصوفية منذ زمان، لا خلاص من جاهليتنا الجديدة إلا بالتزام الفرقان، بما أنه فصل الصحة من الغلط وبيّن حكمة الله خير بيان؛ به نتوصّل إلى مكنونه باعتمادنا على مقاصد الشريعة كما بينتها السنة الصحيحة حسب ما رواه البخاري ومسلم، لا غير. بهذا نعود إلى الصحيح من الدين وننبذ ما مسخه من شوائب.
وقد عملنا طوال هذه اليوميات على تعداد البعض منها؛ ونواصل هذا تبرّكا بالليلة المقدسة اليوم وغدا، مذكّرين بغيضٍ من الفيض الإلاهي الذي لم يعد الإسلام الرسمي يعرفه أو ينتبه إليه؛ فهر تجارة رخضية لا دين المعرفة والإناسة. من ذلك، نذكّر أولي الألباب أن الذنب الأوحد في الإسلام هو الإشراك بالله، وما عداه ىغتفر في دين الرحمة، لأن الله رحمان رحيم؛ وأن الإسلام هو الدين وأيضا الدنيا، يعمل العبد فيهما كأنه يحيا أبدا وكأنه صريع لحظته، فلا رهبنة في ديننا، بل الحياة التي لها أن تكون الحيوان؛ وأن السنة ليست كلها مما يُتّبع، لأن الرسول كسائر العباد في غير مهمته النبوية، من شأنه أن يعبس ويتولّي؛ وأن إجماع الفقهاء لا يمتلك أزلية أحكام الله العقائدية، وإلا أصبح سواء مع كلام الله، بينما هو من اجتهاد البشر الذي خاصيته الأولى النقصان.
نقول بعض الشيء في هذا كما نعود للسبب الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من جاهلية جهلاء، إذ كانت محنة خلق القرآن فغلق باب الاجتهاد ما أذن ببداية انحطاط الإسلام، بعد أن نكون ثنّينا بكلمة في ما يتوجّب من كلمة السواء من طرف الحزب الإسلامي بتونس المتأرجح اليوم بين الصدق والكذب. ولنبدأ بقناع هذه الجاهلية الجديدة، سلفية شوارعنا وما ينميّ الإرهاب الذهني عند البعض من أهل التزمّت رغم ادعاء الوسطية؛ فهي سلفية الأكاذيب التي لا مناص من التخلص منها للتأسيس لإسلام جديد متجدد بهذه البلاد وبالعالم الإسلامي طرا.
السلفيّة قناع الجاهلية الحديثة
إن سلفي اليوم يجمع بين ظلالات ترهاته ومناهج غريبة عن الإسلام ذات أصول يهودية مسيحية؛ ويعظم خطأه بأن يفعل ذلك باسم الإسلام الذي هو منه بريء. نعم، لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها؛ فما الذي أصلح أولها ؟ لم يكن ذلك إلا بالثورة التي أتى بها الإسلام على الجمود وجحود آلاء الله في نعمته على عباده بالعقل لأجل الاستنارة به في شؤون هذه الحياة الدنيا. كان ذلك على هدي روح الدين ومقاصده، لا على التقيّد بنصوص أرادها الله فضلى لكونها تقدّمية على الدوام، متدرّجة في البيان وفي الأخذ بعلوم الآن وفنون الزمان الراهن.
أليس مدلول السلفية كما يقول الشيخ محمد أمان الجامي في الصفات الإلهية «يطلق على طريقة الرعيل الأول ومن يقتدون بهم في تلقّي العلم، وطريقة فهمه وبطبيعة الدعوة إليه. فلم يعد إذن محصورا في دور تاريخي معين، بل يجب أن يُفهم على أنه مدلول مستمر استمرار الحياة وضرورة انحصار الفرقة الناجية في علماء الحديث والسنة، وهم أصحاب هذا المنهج، وهي لا تزال باقية إلى يوم القيامة من قوله صلى الله عليه وسلم: {لاتزال طائفة من أمتى منصورين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم}»؟
هذه الطائفة، بصريح عبارة الرسول، لا يضّرها من خالفها ولا من خذلها، لأنها تصبر على الحق وتداوم العمل على إعلاء كلمته بالتي هي أحسن دون إفساد في الأرض؛ أليس الصبر على المصائب من أوكد وأسمى صفات المسلم الحق، لا مسلم الزجاج، ذلك الذي يفتخر بلمعان البلور ولا يأبه بما يحتويه مما فسد بداخله ولا بهشاشته إذ يتصدع أو ينكسر لأدنى هزة ؟ للأسف، هذا إسلام السلفي رغم أننا اليوم في زمن ما بعد الحداثة، زمن عودة الوعي إلى عظمة خالق هذا الكون، وعصر عودة الروحانيات؛ وديننا من أفضل الممثلين لها.
إن السلفيين أهل الأثر، اتبعوا الكتاب وسنّة الرسول وأقوال الصحابة، وقد اتبعوا تلك الأثار بذكاء وفطنة، لا بجهالة، فلم يقتفوا الآثار كآثار، أي كأصنام وأنصاب لا تُمسّ ولا تُغيّر، بل اتبعوها كتشخيص لفكر وعلو مقاصد؛ فإذا تغيّرت الظروف واقتضت تعديل الأثر للحفاظ على روحه السنية، كان ذلك جائزا وإلا أصبح الأثر صنما لا نورا يهتدى به.
والنور يتنوّع حسب الزمان والمكان، أما الصنم فلا ! لنأخذ على ذلك مثلا في ابتداع السلف تحريم العبودية اليوم ولم ينص عليها الأثر؛ أفكان ذلك من باب البدعة أم التمسك بسنة السلف في روحها ؟ ذلك هو احترام روح الأثر لا الأثر نفسه؛ ذلك هو حقا التمسك بسنة السلف الصالح والتزام طريقهم !
إن الإسلام دين صالح لكل الأزمان؛ وهذا لا يكون إلا بنص جاء في بلاغته ثائرا على وضع شائن، وهو في نفس الوقت متأقلم مع المحيط البشري الذي دعاه للتسليم لله. فهو يبقى أزليا ببقائه متأقلما مع الأوضاع الراهنة للبشرية بالتفعيل الدائم لروح الله التي تتجلى من خلال كلامه. أفيحق لنا، باسم قدسية الوحي، التمسك بنص كلام الله والتنصل من روحه ؟ ألا يعلّمنا الإسلام أن الروح، وهي من أمر الله، أعلى شأنا من كل شيء في مخلوقاته ؟ كيف نتجاهل روح الإسلام بدعوى احترام نصه ؟
إن السلفي الحق اليوم، ذلك الذي يقدّر نضال ابن حنبل في سمو غايته، لهو المسلم الذي يتمسك بروح الإسلام لا بنصه، بظاهر وباطن أهدافه التي تتناغم مع روحه كما تبينها مقاصده، لا بباطل ما ظهر منه فخالف باطنه وأهدر روحه ! على السلفي الحق، حتى يكون سلفي الحقائق لا الأكاذيب، التنصل من المعنى المتعارف عليه للسلفية الذي لا يمت بشيء إلى الصحة، حتى عند من ادّعى ذلك وتبجح بسلفيته، إذ هو كمن أراد الجمع بين الضب والنون، أي يأتي بالمستحيل في الموافقة بين دواب الصحراء ودواب البحر؛ ولا يمكن ذلك.
إن سلفية الأكاذيب، ومنها متزمّتة ما يُدعى كذبا بالإسلام الوسطي، تحاول الجمع بين نار الجحيم المعدّة للمفسدين في الأرض بالإرهاب المادي والذهني وماء الجنة الزلال الذي لا يرتوي منه إلا المسلم المسالم؛ الأمين حقا على دينه، الذي لا إكراه فيه ولا تمييز، إذ الإيمان في الإسلام يأتي عن قناعة وحرية. وهي على ضلال مبين لأن من مباديء ديننا الحنيف نبذ التباغض ورعاية مشاعر المودة والمحبة؛ فكيف نرعى حقوق الله علينا إذا لم نمتحن قدرتنا عليها، فنلتمس مدى فاعلية قيمنا مع أبعد الناس عنا، أو بالأحرى من نخالهم أعداءً لنا وهم أحباب، على الأقل من زاوية النظر الدينية المبدئية ؟
السلفي الصحيح هو المسلم الحق الغيور على دينه، المتمسك بأعز ما في ديننا الحنيف، ألا وهو روحه الثورية على التقاليد البالية ونزعته الإنسانية التي هي أولا وقبل كل شيء علمية وكونية. هذه هي السلفية الحقيقية التي لا تزعزعها البتة تصرفات النوكى المتزمتين ممن يحملون قناع الجاهلية الجهلاء دون دراية. إن السلفي الحق هو ذاك الذي جسّده الإمام ابن حنبل في ورعه وعلمه، وبالأخص نبل أخلاقه وعلمية رسالته ونزاهتها، حيث كان لا يبعد عن الحق، فكان حريصا أن تكون كلمته دوما كلمة السواء التي يراد بها القسطاس، لا كما علّمنا تاريخنا في سرعة الانزلاق إلى متاهات وزيف المظاهر مما يحمل بعض أعداء الدين الإسلامي السمح استعمال كلمة الحق جزافا، فلا يراد بها إلا الباطل !
فكيف يكون سلفيا من لا يحترم أخاه المسلم وقد دعاه إلى ذلك شرعه، آمرا إياه بأن يسلم أخاه من يده ولسانه ؟ نعم، إن السلفي يشكك في إسلامه، بل ويكّفره؛ ولكن ما هذه الجرأة الفظيعة والله رحمان رحيم، عفوّ غفور ؟ ألا يمنع مدّعي السلفية بذلك إلاهه من إكرام عبده، الظالم لنفسه، بالمغفرة؛ فباب المغفرة في إسلامنا دوما على مصراعيه مفتوحا؛ أنسى ذلك أو تناساه ؟
ما هذا الإسلام الدعيّ الذي نراه في ربوع بلادنا الجميلة، أرض التسامح والإخاء، في حياة شعبها اليومية ؟ ما هذه التصرفات التي هي أقرب إلى تلبيس إبليس منها إلى سماحة الدعوة المحمدية، دعوة المحبة والرحمة ؟ منذ متى أمر إسلامنا الاعتداء على من لا يعتدي على المسلم بيده أو بلسانه، وقد حرّض على الخلق الحسن وعلى إيثار غض النظر عن الإساءة، طالما لم تطل منا السلامة ؟
منذ متى أمر الإسلام، دين الحضارة، الإفساد في الأرض وطمس أي معلم ثقافي حتى وإن تجاهر بالمس بالمقدسات، لأن المقدّس الحق في ديننا هو المقدّس بالقلب والنيّة الصادقة، لا بالشكل والمراءاة؛ وهو المقدس بالاحترام والعمل على إعلاء حسنه ونبله وقداسته بالمثل الطيب لا بإضفاء مسحة من الجمود عليه مما تجعله من تلك الأصنام الحديثة التي تكمن قداستها في ظاهرها فيمنع المساس بشكلها وطقوسها، هي من العادات اليهودية لا الإسلامية.
ما هذه الدعوة الجاهلية التي تجعل المقدسات وشخص الرسول الكريم عرضة للتهكم لأجل أبسط البلاهات وتحط من سمو التعاليم الإسلامية فتعرضها لأتفه التصرفات وأخسّها ؟ هل انحطت قيمة الإسلام إلى هذه الدرجة حتى يمكن الاستخفاف به على النحو الذي نراه لأخس الأسباب ؟ هل ديننا إسلام قوارير، أي شيء يهزّ صفاءه ؟ وهل يتحدّد الاحترام الذي يفرضه كل ما علا فسما بتصرفات البلهاء وترهاتهم ؟ متى عارض الإسلام حرّية الفنان وعبقرية الشاعر وقد اعترف لهما بهما ودافع عنهما حتى وإن أدى ذلك بهما إلى الغي والغباوة ؟
لعمري، إن تصرفات المتزمتّين السلفيين ضد قداسة الروح لمن أفضع وأوضع ما يقومون به لتمجيد ديننا ورسوله ! إن الإسلام أعلى من أن يدنّسه أي تصرف أحمق، وإن تعاليمه لمن العلو والسمو ما لا يحط أي شيء من الاحترام الواجب لها، خاصة التظاهر بتطبيقها بحذافيرها مع اغتيال روحها، لأن مثل ذاك التصرف لا يشين إلا صاحبه، لا أثر له على براءة الإسلام منه وحفاظه على هيبته وقدره.
إن الإسلام لأعلى قدرا من أن يُحتقر أو يهان، كما تفعل سلفية الأكاذيب وأهل الإرهاب الذهني، فهو يتعالى عن كل تصرف رذيل. إن كل تصرف مرتذل، في ديننا الحنيف، لا يجب أن يُجابه إلا بالإزدراء والاحتقار، فعين الحكمة في مثل ردة الفعل هذه، والإسلام حكمة الله. أما إذا تصرفنا بحمق، فتحمسّنا باطلا، لقدر الرسول المصون مثلا، أو لمقدسات ديننا المحفوظة من طرف الله، لا نكون إلا أكثر حمقا وأعلى قدرا في النوك ممن ندّعي إساءتهم إلى الإسلام، لأن إساءتنا أعظم، إذ هي إساءة لسماحة الإسلام.
متى كان الإسلام يأبه لإساءات من لا يعلو إلى مقامه ولا يرتفع إلى مستوى رسالته ؟ أليس الاحتقار أكبر وقعا على المحتقر من الوقوع في فخ الإثارة الذي تنصبه كل إهاجة أوتحدٍ من ؟ هل أضر النبي أن قيل له مجنون وشاعر ؟ أيضر السحاب نبح الكلاب ؟ أليس من شأن البصاق الموجه للسماء أن يشوّه وجه من يدّعى إرساله نحوها ؟
نعم، لا شك أن أخلص السلفيين نيّة يحلم بأرض عربية إسلامية لا شر فيها؛ ولكن متى انعدم الشر من الحياة الدنيا ؟ وهل ندعو للخير بزرع الشر وللإصلاح بالإفساد ؟ إن بلادنا لا تخلو من الشر كسائر بلاد العالم؛ بل حتى المدينة في عهد الرسول كان فيها من الشطّار شر ودعارة ! فهلا نكون خير خلق لخير سلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمثل الطيب ومكارم الأخلاق، لا بالإفساد في الأرض ومحاكاة الظالمين غيرهم وأنفسهم، المتجنّين على روح الدين ؟
لقد علّمنا الرسول الأكرم أن الإسلام في مثل هذه الحالات يُقابل الإساءة بالإحتقار على أسوء تقدير، بل ويعمل جاهدا على الإتيان بالحسنى لبيان الخطأ ولفت الإنتباه إلى ما يجدر الركون إليه، وذلك بالمجادلة وتبادل الرأي والصبر على بلاهة البلهاء حتى يرحمهم الله لبلوغ الصواب إن أراد لهم ذلك.
الإسلام لعلو كعبه ونبل رسالته لا يسطّر أي خط أحمر لاحترام الناس له، لأن واجب الإحترام لدين مثله، كوني وعلمي، يفرضه العقل والتصرف الرصين لا أمر الحاكم أو أي سلطة قهرية. فالإسلام يضمن الحرية كاملة، خاصة في ميدان الإبداع الذهني الحر، وهو من الميادين التي ترفع من قدر الإنسان الحامل للأمانة الإلاهية.
ليس كل ما في السنّة والإجماع يُتّبع
إننا في فترة تاريخية هامة بالبلاد التونسية نؤسس فيها لإسلام جديد متجدد ينقذه من جاهلية اليوم الجديدة. من مقتضيات هذا التأسيس التذكير بأن الشرك بالله هو الإثم الأوحد في الإسلام، فكل ما عداه من الذنوب من شأنها التكفير والغفران. ومن هذه المقتضيات إقرار الفصل بين المجالين الخاص والعام لحياة المؤمن، أي مبدأ الدولة المدنية في الإسلام الذي هو أيضا معاملات؛ والدين فيه يخصّ الفرد في حياته الخاصة، لا دخل لأحد فيها؛ أما الدنيا، فلا دخل للدين فيها، لأنها شورى بين كل المواطنين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، ملتزمين بالدين أو متحررّين من أوامره ونواهيه.
ومن أهم المقتضيات أنه ليس كل ما في السنّة والإجماع يُتّبع؛ ولأهمية هذا المبدأ نتوسع فيه قليلا. أليس من الظلم للرسول ولدينه أن نحجّر سنته وفهمنا لأحاديثه ؟ خاصة ونحن نعلم أن الفرق واضح بين السنة والحديث، وأنه كثرت الأحاديث المنحولة على الرسول؛ فلهذا كان علم الحديث، ولذلك وقع اختيار الصحاح التي يختلف عددها؛ إلا أنه لا اختلاف أن أصحها هما ما جمعه البخاري ومسلم، بل ما اتفق عليه الشيخان.
فهلا اكتفينا بهذا الاتفاق وطرحنا جانبا كل ما يجعلنا نخبط خبط عشواء، إذ نحن نعتمد مثلا اليوم أحاديث لظلم الناس باسم الإسلام، كقتل المثليين الأبرياء، بينما لا حديث في المثلية لا في البخاري ولا في مسلم كما سبق أن بيّنا ؟ هلا اكتفينا باتفاق الشيخين وتركنا بقية الصحاح للخروج من اللخبطة القيمية التي تميّز إيماننا اليوم، فنقطع بذلك الوسائل لكل من يسعى لجعل الحق باطلا يصرفه عن منابعه ومقاصد الشريعة المشروعة ؟
هلا أخذنا بالمقاصد في تأويل السنة فأولناها كما يجب أن نفعل مع القرآن، حسب مقاصده، إذ ليست السنة المهيمنة على الفرقان كما فهمه البعض بما أن القرآن هو الأصل والسنة هي الفصل، فلا يغيّر الفصل الأصل، كما هو الحال مثلا في قضية الرجم التي ما أتى بها كلام الله ؟
إن السنة جاءت بفهمٍ لمنطوق القوم حسب زمنٍ ومجتمعٍ معيّن، كان لزاما أن يكون كما كان إذ هو أفضل ما كان، لكن لذلك الزمن. ولا شك أن الرسول، لو عاش في مجتع آخر وزمن آخر، لأتى بأحاديث أخر وسنة غير ما عرفنا؛ فهل يكون تزوّج طفلة لو لم تكن تلك عادة مجتمعه، بل وعادة معظم البشر في كل الحضارات تقريبا، ومنها الرومانية ؟
وهل من المنطق اتباع الرسول في ما كان يفعل، وهو بشر كغيره من البشر، إلا في ما خصه به الله من شرف الرسالة ؟ فمثلا، يروي البخاري أنه حاول مرارا الانتحار برمي نفسه من شاهقٍ حين أبطأ عليه الوحي وانقطع عليه فترة من الزمن، إلا أن جبريل منعه من ذلك؛ هل نتّبعه في محاولة الانتحار عندما تضيق علينا الدنيا تأسّيا به، ولعلنا لا نجد الروح القدس لمنعنا من ذلك ؟
ثم نحن نعلم أن الرسول الكريم كان يلعق صحن طعامه، ثم تصرّف حسب أخلاق العرب في زمنه التي لم تكن بعد تأخذ بما أتى به الدين الجديد من قوانين في حقوق الإنسان، فأمر مثلا بقتل بعض الأعداء صبرا، ومنهم شعراء وأصحاب رأي وقلم، لا أصحاب سيف؛ كما أنه أمر في إحدى المرات بقتل كلاب المدينة؛ هل نعتدّ بكل هذا ؟ أليس ذلك من غير السنة الواجب اتباعها ؟
ألم يبيّن الله في محكم كتابه أن الرسول من شأنه أن يخطأ كبشر فيصحح مساره الله كما فعل في تصرفاته البشرية، بل وحتى عندما غرّر به الشيطان بما سُمّي الآيات الشيطانية التي سرعان ما تنزّل الوحي لإبطالها. فللشيطان التبليس الشنيع؛ وما دام النبي العربي بشرا قبل كل شي، لا ربا كما هو الحال عند النصارى، لا مناص من الغلط والخطأ لأن ابن آدم خُلق عجولا ناقصا. لا شك أن هذه هي محنته في الدار السفلى حتى يتزكّى ويصفّي النفس الأمارة دوما بالسوء من مساوئها، وهو الجهاد الأكبر الذي لا نهاية له؛ فحتى الموت لا ينهيه، إذ لا موت للروح، ولها أيضا واجب التزكية بعد موتها، على الأقل عبر ما تتركه من أثر طيب وعمل صالح.
كذلك الحال بالنسبة للإجماع اليوم؛ فلا يشك أحد من المسلمين أن هذا الركن هام من مصادر التشريع، إلا أنه آخرها، فلا يأتي إلا بعد الكتاب والسنة والقياس؛ وهذا مما أصاب فيه أهل الفقه القدامى. إلا أنهم أخفقوا في تعريفهم له عندما حدّوا أفقه بما اتفق عليه علماء الاجتهاد من أمة محمد فحسب؛ لأن الإسلام كوني علمي وتعاليمه صالحة لكل البشر في كل زمان ومكان. لا يمكن إذن تحديد الاجتهاد في دينٍ كوني هو خاتم الرسالة الإلاهية باجتهاد من أخذ بالإسلام فقط، إذ تتوجب إضافة كل مؤمن بالله، موحدٍ له. أليس الإسلام الحنيفية المؤمنة، فيه الإيمان، أي الجانب الثقافي للدين، أعلى من الإسلام المجرّد أي الجانب الشعائري فيه ؟ وهذا ما يمكن أن تسمح به تنمية فنون الدين في الإسلام، ولا شك.
إن الإجماع اليوم ضرورة هو إجماع الأمم المتحضّرة على ما هو من الأخلاق والقيم الحضارية، لا حضارة إلا بها. وهذا يعني الإسلام أيضا ويخص أمته لأنها كل البشرية، ما دام الدين الحنيف خاتم الأديان وما دامت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس. فالأمر بالمعروف في زمن ما بعد الحداثة هو ما تعرفه الحضارات البشرية، كل الحضارات، والنهي عن المنكر هو ما ينكره البشر المتحضّر. طبعا، هذا يقتضي العودة للدين الإسلامي الأصيل الذي فيه الإيمان يعلو مجرّد الإسلام والشعائر فيه أقل قيمة من صبغة الإسلام الحضارية والثقافية، بما أنه دين ودنيا، أي الدين بالمعنى المعروف عند علماء الإجتماع، وهو الواصلة بين البشر عن طريق الروحانيات.
إن الإسلام روحانيات قبل أن يكون عبادات؛ فالصلاة مثلا ليست فقط في حركات آلية يقوم بها المسلم، بل هي أولا وقبل كل شيء، كما يبينّه الأصل اللغوي للكلمة، هذا الدعاء الذي يرفعه المؤمن إلى ربّه فيتم به التواصل بين الخالق ومخلوقه دون أية وساطة. هذا ما يمتاز به دين الإسلام عن بقية الأديان.
بذلك يمكن القول أن الإجماع اليوم هو أيضا ما تُجمع عليه الأمم المتحضرة بخصوص مباديء حقوق الإنسان في محتواها الكوني؛ وهو أيضا بمثابة الاتفاق صالح على حكم شرعي، إذ الشرع يقر في مقاصده بحقوق الإنسان في صبغتها العالمية هذه. إنه بمثابة ما سمّاه الأصولين الإجماع السكوتي، أي أنه اليوم قبول قول بعض المجتهدين في مثل تلك المسائل بالسكوت، فهو علامة الرضا ولا شك.
الواجب اليوم على أهل الإسلام لهو الارتقاء بهذا الاجماع السكوتي الحالي إلى مستوي الإجماع الصريح، أي علينا ألا نفرق، بخصوص المجتهدين في ميدان الأخلاق ومباديء البشرية، بين اجتهاد علماء الأمم المتحضرة وعلماء الإسلام ما دام اجتهادهم يتناغم مع مقاصد شريعتنا في كونيتها وعلميتها. من الأكيد أيضا أن نعود إلى الشروط التي استنبطها المسلمون لقبول الاجتهاد لنحيّنها حتى توافق مقتضيات هذا العصر، عصر ما بعد الحداثة.
لئن تبقى لا محالة ضرورة الاستناد على الكتاب وما صح من السنة، فلا بد من عدم تجاهل روح نص الكتاب ومقولة السنة ومقاصدهما، لا نقف عند الرسم والشكل، بل نذهب إلى الباطن الذي يخفى عادة عند التوقف على الظاهر من الشرع. أما اتفاق أهل الاجتهاد الذي يبقى، فهو في كل ما يخص أمور العقيدة التي لا اجتهاد فيها، وهي أساسا في الإسلام التوحيد. بذلك؛ لا مناص من عدم اعتبار ما اشترطه السلف من ثبوت صفاتٍ للاجتهاد خلقت كنيسة في دين الإسلام، وقطعت العلاقة المباشرة بين الله وعبده؛ فإذا الفقيه في الإسلام عبارة على كاهن يهودي أو حبر مسيحي.
لذا، لا بقاء من تلك الشروط إلا ما يتناسب مع عمومية الإسلام البشرية وعلميته، فلا يُعتد مثلا بما كان من اجتهاد أكل عليه الدهر وشرب من ضرورة مجانبة البدع، لأن التغير سنّة الحياة وأساس من أسس التقدم العلمي. فالعلم يبدأ بدعة؛ وذلك حال الفن لا محالة، وهو العلم وزيادة.
لتضع النهضة الشونيز على الحروف
الشونيز، حسب تعبير الخليفة المأمون، هي هذه النقاط والحركات التي نضعها على الأحرف العربية حتى نتكلم دون تصحيف؛ وكانت عيبا في فترة أوج الحضارة العربية، بينما لا غنى عنها في يومنا هذا. ذلك ما يتوجب فعله من طرف حزب النهضة التي تتلاعب كثيرا في سياسة هي للمخاتلة أقرب من الأخلاق. إلا أنها تقوم بها باسم الدين، فإذا جرمها أفظع من جرم من تعتد بهم في مثل هذا التصرف السياسي الأخرق، وهو بحق إجرامي بخصوص روح الإسلام السمحة المتسامحة.
إن ما قلناه في السلفية ينطبق على الحزب الإسلامي المدّعي الوسطية، الذي سبق لزعيمه أن قال : «ولأن الزمن زمن الديمقراطية، فلا بأس من الأخذ بطلاء منها»؛ فهو بهذا يفعل ما عابه على من حارب طويلا. وقد قال أيضا يفنّد نواياهم الحسنة : «ولو أن الإسلام راج سوقه لما ترددوا في إطلاق بخوره»؛ وها نحن نرى البعض من رجال حزب النهضة، بعد أن وصل إلى الحكم، لا يترددون في إطلاق البخور تقديسا لنظرة معيّنة للعمل السياسي تقصي العديد من مقومات المجتمع التي تعرّض إليها زعيمها واعترف بحقها في الوجود، وبالأخص منها تعدد الرؤى ونبذ التزمت والإقصاء والعزوف عن تهميش الغير والتنكيل بالآخر لا لشيء إلا لأنه مختلف المآرب والهوى.
إن الشيخ الغنوشي يقول في كتابٍ له أن «رأسمال السياسة ليس الشطارة والمناورة، وإنما ميزان القوة»؛ ذلك لعمري عين الحقيقة في دولة ديمقراطية مغرقة في هذا النموذج السياسي الحي في الحكم؛ أما من كان حظه منها الهشاشة مثل ما هو الحال بتونس، فلا يكفي هذا الميزان لوحده، إذ يجب تعديل كفّتية بالعدل ونسبية الرؤى وبالتوافق حتى يكون بحق ذلك الميزان الإسلامي، ألا وهو القسطاس المبني على العدل والإنصاف. من ذلك ضرورة أن يأخذ القوي – بالرغم عن قوته النابعة من مشروعيته الإنتخابية – برأي الضعفاء سياسيا من الأحزاب والحركات المستقلة لما لها من حقٍ في الوجود على الصعيد السياسي لمجرد تواجدها على المستوى الإجتماعي، حتى وإن لم تسعفها الآلة الإنتخابية بالوزن اللازم؛ ونحن نعلم ما في تلك العملية من هنات وقلة نزاهة.
بمثل هذا الشرط يكون مجتمعنا مجتمع تآخٍ وسلمٍ، وتكون أمتنا بحقٍ خير أمة أخرجت للناس، لا لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالمفهوم الديني فحسب، بل أيضا وأساسا بمفهومه السياسي والإجتماعي، بل قل الحضاري. وهو، كما بيّنا أعلاه، الأمر بما هو معروف في أخلاقيات الديمقراطية والنهي عن منكر التزمت في المعتقدات، كل المعتقدات بما فيها الدين، والإجحاف في التصلت على الغير لاختلاف مشاربه وتوجهاته السياسية والمذهبية، وحتى الشخصية.
لا مندوحة لأن يكون حظ المسلم ببلادنا – وقد اعتُرف بحقه في الوجود بمجتمعات أقل حظا في الصلاح من مجتمع يدّعي أنه خير أمة أخرجت للناس – أوفر وأعظم بمجتمعنا نظرا لقيمه العالية ومثاليته الكبرى وخلقه السني حتى لا تكون هذه الخاصيات مجرد شعارات باهتة لا حقيقة لها، كعبادة التزمت للمظهر والشعائرية وجهل باطن الشرع وأدبياته، ومنها حسن المثال واحترام الآخر ونبذ الغلو في كل شيء.
إن أخشى ما يُخشى اليوم أن كل ماسبق من مباديء وما دعا إليه ويدعو راشد الغنوشي من تصرف سياسي متحضر يبقى في بلدنا، وحسب تعبيره، «مجرد أماني وألعاب بهلوانية» عند الساسة الحاكمة المتفرعة عن حزبه. فكل ما يجري اليوم ببلادنا، كما قاله بنفسه في أعدائه السياسيين قبل أن يصبحوا شركاء في الحكم «يكشف عن قدرٍ غير قليل من ضعف الوعي السياسي إلى حد السذاجة وضعف المبدئية الأخلاقية إلى حد الانتهازية بما (يجعل) السياسة تبدو وكأنها مجرد ميدان مناورات وليس مجالا محكوما بقوانين صارمة أهمها قانوم ميزان القوى (وذلك حسب المنطوق الصحيح الذي بيناه أعلاه) أو مباديء العدالة والمصلحة الوطنية العليا».
هذا، وإن يؤكد زعيم النهضة على أن إرادة الشعب لا تُقهر، فالخطأ كل الخطأ اليوم هو في العودة بها، كما يفعل السلفيون وتأثيرهم يبقى من الأهمية بمكان على أتباع النهضة، إلى إرادة الله، لا لشيء إلا لأن ذلك أولا من البديهيات و ثانيا من الحق الذي يراد به الباطل بتكييفه وتوجيهه حسب توجهاته المذهبية.
الأحرى والأصح اليوم القول أن إرادة الله هي إرادة الشعب لأن الله فوّض لعباده حكم أنفسهم وبيّن لهم كيفية الرشاد في ذلك بالاعتماد على العقل والتزام المصلحة العامة في توجهٍ كله تسامح ومسالمة كونية. فإن أخطأ المجتهد، له مع ذلك الأجر الحاصل لكل اجتهاد صادق لأنه، كما قال ابن حزم (ونذكر هنا قوله بتصرف)، لأفضل للمسلم الحق أن يغلط عن اجتهاد على عدم الغلط عن تقليدٍ لمن سبقه خوف البدعة؛ فما التقدم والتطور سوى نتاج البدع المتتالية. أما إن لم يجتهد وأخطأ فلا كفر يلحقه ما دام يؤمن بضرورة الاستكانة لحكم الله وقبول المحنة المسلّطة عليه من طرف خالقه بصدر رحب لعدم إصابته الحق بإعمال العقل وتحمل كل تبعات ذلك. يكون هذا نظرا لحسن نيّته وحتى يخلص إلى ما هو أفضل منه بالعمل الدؤوب على تخليص نفسه من كل الشوائب، و تحطيم أصنامها. فالشيطان يكمن في كل النفوس البشرية، مؤمنة كانت أم لم تكن؛ وتلك ما يسمّيه علماء الإجتماع المحدثين بحصة الشيطان في كل نفس بشرية (Part du diable).
إن راشد الغنوشي يصرّ على تحوّل حزبه «من المشروع الدعوي المحدود إلى المشروع الحضاري الشامل»، وليس بالإمكان إلا تحية هذا التوجه والتنويه به. لكن إلى أي مدى، يا تُرى، تترامى حدود النهضة الحضارية ؟ حتى نتعرف على ماهية هذا المشروع الحضاري على أرضية الواقع التونسي المعاش ونتعرف على صدق هذا البرنامج الحضاري حقيقة، ننتظر من الحزب الرد على المسائل الإجتماعية التي قد تكون محرجة ولكنها نابعة من صميم الحياة اليومية للتونسي؛ وهي من قبيل ما يُسمّى في علم الإجتماع بالمنهج النوبي Paroxysme حيث يدفع استعمال البرهان إلى ذروة ما به من تدليل، يستحسنون اللجوء إليه لاستكشاف مكنون الواقع والتعبير عنه على حقيقته.
إن المسائل المسكوت عنها من تلك المنتظمة اليوم في مسلك التحضر والتي لا مناص للعبور بها كمحطة من محطات الرقي إلى رتبة أعلى من التقدم وإلى المزيد من الحرية في مجتمع ديمقراطي ديدنه التسامح وتكريم الذات البشرية على ماهيتها واحترام حقوق كل فرد منه كما هو لا كما يقننه حاكموه ويبتغيه منظرو أي مذهب. وهذه المسائل الثلاثة المحورية للتدليل على التوجه الديمقراطي للحزب الإسلامي: إقرار المساواة في الإرث بين الجنسين، حرية العلاقات الجنسية بين البالغين بما فيهم من الجنس الواحد، إبطال تجريم القنب الهندي وتحريم الخمرة.
لقد ذكّر الغنوشي، في كتابٍ له وفي العديد من التصريحات، بشهاداتٍ صادقة على تعقل الإسلاميين التونسيين سابقا حيث رفضوا الرد «على عنت السلطة بمثله». فهل كان هذا التعقل مجرد خاصية للحركة وقتية في زمن المعارضة أم هي من خاصيات نموذجها، تبقى ولا تزول مع وجودها اليوم على سدة الحكم، وتبقى غدا أيضا إن دامت لها أصوات الشعب أو انصرفت عنها ؟
كيف يكون ذلك إذا لم يتجسد في قوانين ؟ لقد بيّن الغنوشي أن الحركة لم تتردد في الاعتراف بأخطاء ارتكبتها، وإقدامها «على تقويم صارم» لتجربتها؛ فهل هذا من قبيل الماضي المندثر أم يبقى إلى اليوم، ونحن نرى من التصرفات والأقوال عند بعض الوجوه في حزبه ما ينذر بخطر الانزلاق بهم من التنديد بإرهاب علماني إلى التنظير لإرهاب أصولي أدهى وأمر، لأنه يستغل الحق في خدمة الباطل بينما لا يعدو الأول أن يكون من باب تصريف حق مشوه في خدمة حق مموه ؟
بالتالي، هل النهضة مستعدة لتفعيل المواضيع المسكوت عنها السابقة الذكر حتي يصح قول زعيمها «بتاريخية الظاهرة الإسلامية وخضوعها شأن كل الظواهر لقانون التطور في علاقة لا تنفصم مع بيئتها بما يفرض تمايزها من موقع إلى آخر» ؟ إذا كان ذلك كذلك، فكيف يتم اليوم هذا التطور إذا واصل الحزب إعتماد نظرة جامدة للموروث الديني وتعامل مع النص القرآني، كل النص، ومع السنة المحمدية، كل السنة، بنفس المنهاج، أي منهاج الأخذ بالحرف بحذافيره، فيكون بذلك التقديس للنص وشكله لا لروحه ومقصده ؟
عندها، يخيب مسعانا في التأسيس لفهم جديد متجدد للإسلام بتونس، إذ نواصل إقامة أصنامنا الجديدة وتماثيلنا لتصورٍ منا للحكمة الإلاهية، مع أن من يتصرّف كذلك يقرّ في نفس الوقت بأن العقل البشري يبقى بداهة قاصرا على الولوج إلى الحكمة الإلهية لضعته مهما علت مكانته، وإن رام ذلك وكاد ينجح في مسعاه.
التأسيس لفهم متجدد للإسلام
إن الخروج من جاهلية اليوم يقتضي إعادة التأسيس لمفهوم الإسلام ببلادنا. فالآن وقد انتفى هاجس الخطر الأصولي عند أهم أصحاب الثقل في تمرير القرار الحاسم على الساحة العالمية وانفتحت ببلدنا تجربة واعدة مع النهضة كأسّ لها – إن صدقت طبعا نيّتها -، علينا الحرص حتى لا تكون سياسة الإسلام السياسي في الجسد التونسي مثيلة لما فعله به النظام السابق.
لا بد من نبذ عادة الدكتاتوية البغيضة في «إعمال المبضع في الجسد» حسب عبارة راشد الغنوشي نفسه، لأن الجسد وإن اختلفت الرؤى يبقى واحدا، فلا هو إسلامي محض ولا هو علماني بحت، بل فيه من كل المكونات التي، وإن لم تكن خالصة الجوهر فهي بالرغم، أو من أجل، ذلك رفيعة المعدن، ما يجعلنا نؤذيه وننتهك حرمته إذا آلمنا جزءا منه أيا كان صغره، حتى وإن كان ذلك بحجة الأغلبية وبمنطق الديمقراطية.
لا أحد من شأنه منازعة القول أن أخلاقيتنا الإسلامية التونسية تعلّمنا أن مجتمعنا يجب أن يكون متلاحما، متآخيا، لأن أي أبسط عضو به تألّم تداعى له كامل الأعضاء بالسهر والرعاية، وأفضل الرعاية ما يفرزه القلب من إحساس وعطف وحب لا نهاية له ! فحتى لا تكون مداواة «الإسلام الجريح» بتونس من باب الطب المعروف بالرعواني، منطلقه التشفي مما تركه ولا شك التطرف العلماني من قروح، لا بد أن تكون عودتنا إلى هويتنا وعودة وعينا بمقومات ذاتيتنا على قاعدة سليمة.
وما من شك أن للنهضة – وعليها أيضا – المساهمة بالقسط الأوفر في بناء صرح الإسلام الجديد بتونس، آخذة بما تختزله العقلية التونسية من تراث تليد ينضاف إلى الإثراء الطارف الإسلامي، مكونا بذلك ثوابت لا محيد من الأخذ بها إذا عزمنا العمل بما يتفق مع أعظم القيم الإسلامية قدرا، إضافة إلى التوحيد، ألا وهما العدل والإنصاف حتى وإن كان ذلك على حساب أركان وعقائد أساسية غيرها.
ألم يعاتب الله القدوة العظمى في ديننا، محمدا، عندما وجب ذلك تصرف منه رغم عصمته وسناء خُلُقه ؟ أنكون أفضل من الرسول الأكرم فنعبس ونتولى دون ارتداع إذ جاءنا اليوم الشعب يطالبنا الاغتراف من أحلى وأعذب ينابيع الإسلام الحق، حتى وإن كان على حالة العمى التي أصابته من ويلات النظام البائد فلا يرى بجلاء وصفاء روعة هذه الينابيع ؟ فالبعض يكتفي للارتواء من شدة الضمأ بالعكر من تلك المياه ما من شأنه تعريض حياته لخطر المرض بله الهلاك، فهلا منعناه بأن أفضنا عليه الماء الزلال ؟
إنه من الخطأ الفاحش أن نعتبر مثل هذا التعطش الذي نلمسه في المجتمع التونسي للهوية وللقيم، خاصة على مستوى بعض الشباب، دليلا على أسلمته على منوال واحد ونهج ضيّق تنتفي منه كل تلك الصفات التي لا محيد عنها لأصحاب العقول الواعية المتزنة لأنها أسست للعقلية التونسية. تلك الصفات، إذا نحن اختزلناها بمنظور إسلامي أصولي، تتراءي لنا من قبيل البدع في أفضل الحالات، بل الزندقة وحتى الكفر المحض عند بعض المتزمتين. أما إن أردنا فهمها على حقيقتها، فهي تتلخص في التسمية المعروفة للبربري، ساكن تونس القديم، ألا وهي : الرجل الحر !
إن الأوكد اليوم في هذه الفترة الحساسة، العصيبة في الآن نفسه، ألا نضع مكان الاغتراب لدى الحكم الذي كان ساريا اغترابا لدى الشعب باسم تعريبه وأسلمته، لأن التونسي، وإن كان عربيا مسلما بحق، فهو أيضا في عربيته وإسلاميته من الشذوذ أو الطرافة بمكان حيث تغترف عربيته من ينابيع أعجمية عديدة تغذيها وتزيدها بلاغة ورونق، ويتلون تدينه بما أفرزه العقل الإسلامي من إبداع.
يكفينا أن نرمز إلى ذلك الإبداع بالمكانة التي أحرزها فيه، رغم كل العراقيل والتضحيات، التصوف كما أحرزه في العالم أجمع، جالبا التقدير لمنبعيه الأساسيين، ألا وهما كتاب الله وسنة رسوله، لكن بعيدا كل البعد عن تحجر أهل الرسم من السلفيين. فمن يؤكد، مثل زعيم حزب النهضة، «أن الوسطية والاعتدال هما السمت العام في مجرى التيار الإسلامي وليس التشدد والعنف»، لا يبرهن على ذلك بأفعله وسياسته في البلاد.
كما لا يخفى على أحد، خاصة السياسي المحنك، ليس أقسى من تسلط مظالم ذوي القربى؛ فهلا حرص زعيم الحزب الإسلامي على ضمان حماية البلاد من تعسف ذوي قرباه من أعضاء حزبه التابعين للتيارات السلفية، سواء كأداة أو كضحية لها، والنهضة – وهذا لا يخفى على أحد – بحاجة لأصواتها للحملات الانتخابية المبرمجة ؟
إن كان الجواب بنعم، هلا عمل الغنوشي بما فيه شفاء غليل تطلعات الجانب العلماني من المجتمع حتى لا يقع استدراج البلاد، رغم الشعارات، إلى حمأة الفتنة والتقاتل الداخلي بحجة العودة إلى الإسلام أو تعلة احترام مقدساته، خاصة وأن عدد المصطادين في الماء العكر لا يستهان به ؟
فلا خلاص لتونس إلا بتأسيس إسلام جديد بها. وذلك لايكون إلا بالتدليل على أن الإسلام، إن كان بحق واحدا، فبعلميته وكونيته، وإلا فهو متعدد المشارب، غزير المعاني، متنوع المظاهر، ليس في معتقداته وشعائره غلو أو هيمنة إرهابية. بهذا يكون للنهضة شرف السبق إلى تبيان الرشد من الغي وإفشال مساعي كل من يسيء للإسلام باسم الدفاع عنه؛ وذاك، كما بيّنا، حال كل مسلم سلفي يرفض الغير لمجرد اختلافه دون الوعي بأن واجبه الأول كمسلم حق هو احترام الذات الانسانية بصفة عبوديتها لله ولكون الدين لخالقها وحده لا لعباده المتساويين أجمعين في الاسلام والتسليم له، وإن ميزت بينهم التقوى، وقد سلف أن بيّنا معناها الصحيح في يومية سابقة.
لا شك أن بمثل هذا التوجه والعمل يحقق الساسة بتونس، وخاصة من يدّعي نصرة الإسلام بهذه البلاد، ما هم ينادون به من قبل الصعود إلى سرير الحكم من «توفير مقوّم أساسي من مقوّمات التغيير، ألا وهو ردم الهوة بين جناحي الحركة الوطنية : العلماني والإسلامي… ولا غرو أن البلاد أحوج ما تكون لهذه الخطوة رغم الثمن الباهض الذي يمكن أن يدفعه الطرفان، ولكنها خطوة في اتجاه التاريخ… (بشهادتكم وشهادة غيركم ممن صفت نيته) بما يجعل أي تضحية مجزية المردود…»
بذلك يكون الإسلام التونسي وفيا للثلاثية التي تميزه، التي لخصها ببلاغة ابن عاشر في منظومته المشهورة، وهي المالكية والأشعرية والصوفية؛ ولا شك أن دعم البعد الصوفي بتونس لهو أفضل جُنة لحفظه من الخطر السلفي وثقافته المحببة للتكفير، بينما الرسلام اليوم لهو التفكير لا غير. ولنتذكّر قولة الجنيد السالك أن «التوكّل عمل القلب، والتوحيد قول القلب»، وقول أبي العباس السياري أن «عطاء الله على نوعين : كرامة واستدراج، فما أبقاه عليك فهو كرامة، وما أزاله عنك فهو استدراج؛ فقل : أنا مؤمن، إن شاء الله!»
إن التصوف، علاوة على كونه العنصر الأهم من ثلاثية الذاتية الإسلامية في تونس، بله في سائر بلاد الإسلام، هو اليوم المنظومة الوحيدة التي من شأنها القيام في وجه السلفية لمقارعتها بسلاحها في مبارزة مصيرية لمستقبل الإسلام لما لها من مشروعية مذهبية (ونحيل هنا على القولة المأثوة عن الجنيد : علمنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة)، وتاريخية إسلامية وتجذر في الهوية مع انفتاح على العالم لكونيتها، وعلى الروح العلمية في مفهومها الحالي أو ما بعد الحداثي.
بدايات جاهلية الإسلام
إن أفضل وسيلة للخروج من أي مأزق تكمن في التعرف أولا على أسبابه؛ ولا شك أننا بذكر أسباب جاهلية اليوم نضمن الخروج منها. لنختم إذن هذا الطرح، الذي نتوسع فيه أكثر في يومية تالية نخصصها للخبطة القيمية عند أهل الإسلام، ببيان بدايات جاهليتنا الحالية. من المفيد هنا التفطن إلى المثل اللاتيني الذي معناه أن الوصول لأعلى المراتب هو بداية النهاية : La roche tarpéenne est proche du Capitole، وليس ذلك إلا ما عبّر عنه شاعر الأندلس بصدر هذا البيت : لكل شيء إذا ما تم نقصان.
لقد اشتهر المعتزلة بكونهم أصحاب العقل في حضارة الإسلام، فكان فكرهم مستنيرا عقلانيا، إلا أنهم إذا كانوا على مستوى البحث في علّيين ، فقد تصرّفوا في مجتمعهم كما يتصرّف النوكى، مما أدّى إلى هدم كل ما بنوه، جاعلين ما أسدوه من خدمات سنية للفكر الإسلامي في سجّين، فزج ذلك بكل الفكر العقلاني في غياهب الانحطاط؛ فلا فكر حر ُيفرض بالقوة !
لقد أراد المعتزلة فرض رأيهم بشوكة السلطان ، رغم وجاهته وعلو كعبه، فاستغلوا حظوتهم قرب الخليفة المأمون وحملوه على فرض القول بخلق القرآن فرضا. هذا ما أدّى إلى محنة كان الفكر الإسلامي في غنى عنها، إذ لم تكن فحسب محنة الرافضين لفكرة خلق القرآن، بل محنة الفكر الإسلام عامة، مما أدى إلى غلق باب الاجتهاد.
تماما كما أراد المعتزلة فرض رأيهم النير بالقوة، جاء بعدهم أصحاب الفكر الظلامي ففرضوا رأيهم الأخرق بالقوة أيضا؛ وهذا ما نقاسيه إلى اليوم؛ بذلك كانت محنة خلق القرآن بداية انحطاط الإسلام في غياب الفكر الحر. فإنه ليغلط من يعتقد أن تردى حضارة الإسلام إلي أسفل السافلين مرده الاحتلال الخارجي.
نعم، لا شك أن ما حاق ببلاد الإسلام، بداية من الغزو المغولي إلى الحروب الصليبة، أضعفها، مانعا عودة الصحة إلى بدنها المعتل. إلا أن هذه الهجمات الخارجية لم يكن لها أن تفعل فعلها إذا لم يمهّد لها الفكر الإسلامي ذاته الطريق بغلقه باب الاجتهاد؛ فقد حكم على العقول بالتحجر، فغدت غير قادرة على التصدي بنجاعة لأي عدوان.
لقد بدأ الإسلام السلفي منذ انقلاب السلطان على أهل الاعتزال بالتسلط على كل تجليات الفكر العقلاني معتمدا في ذلك على نفس الآلية التي استعملها عقليو الإسلام، ألا وهي شوكة الحاكم. بل إن منظريه طوروها حتى أصبحت سلاحا فتاكا بين أيدي الحكام يخدمون به في نفس الوقت طغيانهم وذلك بطمس كل علامة تحرر في فهم الدين وصرف معانية البليغة رغم أن فكر ما قبل الانحطاط كان حداثيا قبل الأوان.
أين نحن اليوم من هذه الطفرة التي سبقت قيام الدولة العباسة وعصر التدوين، فأعطت للإسلام أفضل ما أمكن للعقل البشري اختراعه من فكري علمي وعالمي تميز بالحرية التامة فالإبداع والعبقرية ؟ لقد اخترع العربي المسلم قواعد لغته وتفنن في فهم القرآن بغريبه ومجازه، فلم يستح من قراءته على أوجه مختلفة، بل ومتناقضة، لأن القرآن ورد على أحرف متعددة وكان متقدما على زمانه.
إن العقل في الإسلام لم يكن ما فهمه المعتزلة وتغلب من بعد على الغرب، أي هذا العقل الجاف الديكارتي، إنما كان عقلا حسيا Raison sensible لا تتنافض فيه الأمور بقدر ما هي تتفاعل وتتكامل؛ وذلك تماما كاللغة العربية بما فيها من ثراء إلى حد أن الكلمة تعني الشيء وضده. ولا شك أن مثل هذا البديع اللغوي الذي منه معجزة القران هو ما يسمى في العلوم الاجتماعية المعاصرة بالفكر المركب Pensée complexe والفكر الأضدادي Pensée contradictorielle. وهو أفضل ما يميز اليوم هذه العلوم.
اليوم، في فترة ما بعد الحداثة التي أظلتنا، مع فتوحات اللاوعي والمتخيّل، لم يعد العقل الفكر العقلاني كما عرفناه زمن الحداثة الغربية، إنما هو فكر ذوقي بالأساس، هذا الفكر الحسي كما تفطن له الغزالي وكما نظر له أخيرا علم الاجتماع الفهيم Sociologie compréhensive. فلكأن التاريخ يعيد نفسه ! إن كل التأخر الذي نحن فيه، هذه الجاهلية الجهلاء، ما كان له أن يكون إذا لم تحكم السلفية الفكرية قبضتها على عقول الناس باسم قضية خلق القرآن، مستعملة نفس الأسلوب الذي اعتمده العقليون وهم يعتقدون خدمة العقل بينما كانوا يهدمون صرحه.
الحال اليوم نفسها عند السلفية الذين ـــ على الأقل عند مخلصي النية فيهم، كما كان حال زعيمهم الإمام ابن حنبل ـــــ يعتقدون خدمة الإسلام وهم لا يعملون إلا على هدم أساسه. فأس الإسلام هو الحرية في فهم أحكامه وتصريفها حسب مقاصده دون التقيد بمقتضيات زمن ولى واجتهاد سبق؛ ذلك لأن قوة دين القيمة في الاجتهاد المستدام. أما السلفية اليوم، وكل متزمت في فهم الإسلام، لا ينافح إلا على نفوذ سياسي وسلطة معنوية يضيفها إلي تسلط مادي لمجرد التحكم في عقول البشر وقد خلقهم الله أحرارا. متى استُعبد الفكر في الإسلام إلا منذ فتح العقليون الباب لذلك باعتمادهم على الحاكم لفرض مقولتهم؛ فإذا بهم يشوهونها ويفتحون السبيل أمام أعداء الفكر الحر؛ فليس للفكر الحر من راعٍ إلا فكر حر مثله !
إن الذي ينقصنا اليوم لهو فكر عقله ذوقي حساس، لا حِجر فيه Tabou ولا تسلط عليائي واستعلائي؛ هذا ما علينا استعادته، إذ هو مما كان لناو في بدايات الإسلام حتى أوج العقلانية في عهد المأمون، أي بداية النهاية، بمثابة اللِبَسَة Habitus. وبما أن التاريخ يعيد نفسه، إذ كل شيء فيه إلى عود على بدء لأن الزمن مابعد الحداثي لولبي Spiralesque، لا بد لنا من العودة إلى حيث وقف بنا الزمن الأول، أي قضية خلق القرآن والخوض فيها مجددا، ولكن على قاعدة جديدة هي الحرية التامة بعقل لم يعد ديكارتيا.
لقد تهافت العقل العلموي المحض وولى زمانه في نطاق ما عهدناه من الوضعية Positivisme التي نضبت منابعها؛ ولنا أن نستلهم إبداعاتنا من الفكر المداعب الحساس Pensée caressante وعلم اجتماع القصف والعربدة Sociologie de l’orgie، وذلك طبعا بالمعنى الاشتقاقي، إذ أصل الكلمة Orgè يعني الاكتناف الانفعالي Ambiance émotionnelle ، وهو أهم ميزة لما بعد الحداثة، كما هو مما يميّز نفسية مجتمعاتنا.
إن المجون من أغزر الفيض، وهو أفضل علامة للتحرر والانعتاق من ربقة كل قيد فكري، خاصة الفكر السلفي المناهض لروح الإسلام التحررية. بذلك نتوصل لأن نجعل من هذا الزمن، الذي سادت الظلمة فيه فكرنا، اللحظة الحاسمة للاستنارة والتنوير، وهي ما يّسمى سوسيولوجيا باللحظة السرمدية Instant éternel. فلا شك أنه يتسنى لنا عندها، في نطاق فكرنا المركب، قلب بيت شاعرنا أبا البقاء الرندي قائلين بحق، مدللين عليه : لكل شيء إذا ما نقص اكتمال !
شارك رأيك