“التربية تبليغ الشئ إلى كماله تدريجيا”.( محمد الطاهر بن عاشور)
بقلم : محمد النفطي
أيام معدودات وتفتتح الألعاب الأولمبية بريو دي جانيرو. واليوم وقد شدت الفرق الرياضية أحزمتها الى العاصمة الرياضية البرازيلية بعدما أكملت كل أشواط التحضيرات والتدريبات يترقب المواطنون في تونس بكل شغف نتائج المنافسات وكلم أمل في أن تفوز بلادنا بميدالية ذهبية ويرفع علمها عاليا تحت أنغام النشيد الوطني.
ولكن هذا الأمل صعب المنال في بلد لا يؤمن بمنافع التربية الرياضية لا على الفرد فحسب بل على المجتمع بأسره. فهل آن الأوان لنفكر في مستقبل الجيل الجديد ونربيه على أسس سليمة؟
في سنة 1870 عندما وضعت الحرب البروسية الفرنسية أوزارها وقبلت فرنسا بالهزيمة اجتمع كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين لمناقشة أسباب الهزيمة التي عجلت بسقوط إمبراطورية نابليون الثالث ولاستشراف الإصلاحات الضرورية للنهوض بالجمهورية الثالثة ومحو آثار الهزيمة وإعادة شموخ فرنسا في القطر الأوروبي وفي العالم. ومن بين الدروس المستخلصة ذكر أحد المسؤولين الكبار أن الجندي الفرنسي الذي تم تجنيده كان ضعيف البنية الجسدية غير قادر على تحمل الأتعاب ولا يتسم بالشجاعة. وهي نقائص لا تنحصر في المجندين فقط بل تطال أغلبية المواطنين المطالبين بالمساهمة في الدفاع عن الوطن سواء بالساعد أو بالفكر على حد السواء. ومن التوصيات التي تقدمت بها لجنة الخبراء تعميم التربية البدنية في المدارس والتشجيع على ممارسة الأنشطة الرياضية في الحياة المهنية والاجتماعية لبناء مجتمع سليم الجسم خالص العقل. وهكذا استطاعت فرنسا أن تبني مجتمعا نشيطا وتمكنت من محو آثار هزيمة خلال الحرب العالمية الأولى بفضل الجيل الأول الذي تسلح بأدوات الشجاعة والعمل الجهيد وبفضل التربية البدنية التي تم تعميمها في البلاد. ولعل العبرة من هذا الخبر التاريخي أنه ينير سبيلا غير عسير لمن أراد أن يصلح ما أصاب البلاد من وهن وما عم فيها من ضعف.
يتفق الخبراء على أن التربية البدنية هي القوام الأساسي لبناء مجتمع الغد ولا يختلفون كثيرا عندما يعتبرون الأنشطة الرياضية بمثابة أكسير العيش الكريم في زمن تتراكم فيه ضغوط الحياة المهنية والاجتماعية ولعلها أيضا أفضل ترياق لتقويم ما تضرر من سلوكيات مجتمع اليوم فهي تساعد على المحافظة على الصحة الجسمية للفرد وعلى حالته النفسية المستقرة كما تنمي قدرته على التركيز والاستيعاب والتحمل أثناء العمل و كلها تساهم في إرساء مجتمع متطور نشيط يسعى إلى الارتقاء نحو الأفضل. ولعل هذا ما تصبو إليه تونس و يحلم شعبها بإنجازه في السنوات المقبلة.
ولا شك أن التفكير في هذا الموضوع بات ضروريا وأكيدا في زمن الإصلاحات الهيكلية التي تنوي الحكومة القيام بها ولم تشرع حتى الآن في تصورها وكان من الأجدى أن تكون من أولوياتها حيث أصبحت حتمية بعد تراكم الفشل في إدارة دواليب الدولة طيلة الفترة التي سبقت الثورة و التي تبعتها. وقد مرت البلاد بثلاثين سنة من الجفاء التربوي والعلمي أدى إلى ركود وجمود خطيرين في كل مجالات الحياة كأنما نشأ في مجتمعنا قصور فكري وشلل عضلي قد يجرنا الى عجز تام وموت سريري إذا لم يتم تدارك الوضع لإعادة حركية الفكر والساعد في القريب العاجل. وحالة تونس الآن شبيهة بحالة ما بعد حرب أتت على الأخضر واليابس وخسرت فيها البلاد الكثير ولم تستخلص الدروس من الهزيمة. فلا نكون العاجز الذي يكتفي بتضميد الجراح والبكاء على الذين قضوا نحبهم وإنما نسلك منهج القدير الذي يستخلص العبرة ويبني لجيل الغد الذي ستؤول إليه دواليب الدولة في المستقبل. والهدف من هذا الإجراء هو تربية نشئ ذي عقل سليم في جسم سليم قادر على تحمل الصعوبات ليدافع على وطنه بشجاعة فائقة وللعمل بكل جهد لبناء الجمهورية الثالثة التي تحتاج لا فقط للسواعد القوية بل للعقول السليمة التي تبتكر وتصنع كل ما يحتاجه الوطن ليرتقي إلى الأفضل.
ولعل ذلك المثال التاريخي يجرنا إلى التفكير مليا لإيلاء مادة التربية البدنية منزلة أساسية في المدرسة والمعهد والجامعة على حد السواء. وبما أنه يتم الآن السعي إلى إصلاح منظومة التربية فإن إدماج مادة التربية البدنية في المدرسة الابتدائية أصبح ضروريا ولا ضير في أن يتم برمجة حصص يومية لكل الأقسام بعد انتهاء الوقت المخصص للتكوين العلمي. علما وأن التدرج في تنفيذ وتطبيق هذه الحصص يسري موازيا للتقدم في الأقسام حيث تكون الحصص متصاعدة في الحجم الزمني وفي القيمة التطبيقية حسب سن التلميذ ومرتبته الدراسية. ومن شأن هذه الحصص المعدة يوميا للتربية البدنية أن تضفي على التلميذ الصغير إحساسا بالراحة بعد الجهد الفكري الذي يبذله أثناء الحصص العلمية فتفيض عليه بالفرحة لأنها بمثابة حصص لعب. كما أن الفرحة واللعب من الوسائل الضرورية في مثل هذا السن الطفولي فهو يحتاج الى مشاركة أقرانه في اللعب والبهجة كما أنها تعفيه من تخمة الدروس الخصوصية التي تفسد العقل وتجهد الجسم. ولا يتطلب الأمر سوى دراسة جدية لمحتوى هذه الحصص اليومية وتأطيرها بذوي الاختصاص من مربي التربية البدنية لكي نحافظ على سلامة التلميذ وعلى نجاعة هذه المادة. ومن المستحسن أن تنحصر مادة التربية البدنية في الابتدائي في حصص ألعاب بدنية ترفيهيه لا تتطلب إلا مجهودا بدنيا خفيفا تجلب البهجة للتلميذ الصغير وتيسر إدماجه في المجتمع وهو ما يحتاج إليه في هذا الشوط من الحياة. والى جانب اللعب المؤطر تبرمج حصص الحركات الجماعية التي يتم التركيز فيها على إتقان الحركات داخل المجموعة . ومنافع الحركات الجماعية جمة حيث أنها تربي الصغير على العمل في المجموعة وعلى الانضباط الفكري وعلى الإحساس بجمال الحركة الفنية والموسيقية. وهكذا نرى أن التربية البدنية في الأقسام الابتدائية هي تربية نشء على الذوق السليم والانضباط حتى أثناء اللعب واللهو. وبهذا نشرع في زرع النشء الصالح.
ومن الطبيعي أن تختلف الحصص التكوينية في المعاهد لترتكز أساسا على تقوية البنية الجسمانية للتلميذ وتعويد جسمه على الجهد والعمل فيتجه التكوين أساسا على الرياضة الفردية وعلى ألعاب القوى بينما تخصص حصة أسبوعية للرياضة الجماعية. ومن الصالح أن يتم برمجة حصص يومية للتربية البدنية حين تنتهي حصص الأقسام على الساعة الثالثة مساء كما هو معمول به في سائر البلدان الانجلوسكسونية. وفائدة الرياضة الفردية هي تعويد الناشئ على التوكل على النفس والإيمان بالجهد الفردي والابتعاد عن التوكل على الجماعة في كل الأوقات. الجهد الفردي أساس نجاح العمل وهذا لا يعني أن العمل الجماعي غير مرغوب فيه وإنما يعني أن التوكل على الآخر لا يفيد وأن عمل الجماعة ينجح عندما يجتهد كل فرد في عمله الخصوصي وبذلك يكتمل العمل الجماعي. والغرض من التركيز على الرياضة الفردية في هذا الشوط من الدراسة ومن العمر هو بالأساس تأثير على سلوك الفرد وتكوين شخصيته. ففي هذا الشوط من حياة الشاب المراهق تبدأ شخصيته في الاكتمال ويتطبع بالمؤثرات الخارجية فجدير بنا أن نشتغل على صقل شخصية الشاب على أسس علمية صحيحة بفضل التربية البدنية.
أما عندما نتطرق إلى التربية البدنية في الجامعة فإن الأمر يصبح أكثر تخصصا للطالب حيث يطلب منه الانخراط الإجباري لتعاطي الرياضة ويمنح له الاختيار في ممارسة ما يحبذه من نشاط فردي وجماعي. والهدف من هذا الإجراء هو تعويده على مواصلة ممارسة الرياضة الفردية لصقل بنيته الجسمية والفكرية والتركيز بصفة خاصة على المشاركة النشيطة في الرياضات الجماعية لتنمية روح العمل الجماعي وقيمة الدفاع عن المؤسسة التي ينتمي إليها. ومن فوائد إجبارية الرياضة الجماعية في المؤسسات التعليمية العالية هي تنمية روح المواطنة والانتماء وهي قيم المجتمع المتحضر.
هكذا رأينا أن للتكوين البدني بالمؤسسات التعليمية فوائد كثيرة ومن أهمها بناء أساس مجتمع سليم نشيط يتحلى بروح المواطنة وإذا ما توفر ذلك للجيل المتعلم أثناء فترة التكوين الدراسي فإنه من الضروري أن نبسط له الوسائل المادية للمثابرة على الرياضة في فضاءات العمل إذا أمكن و في فضاءات عامة أو خاصة في كل المدن التونسية. وليس من الصعب توقير الحد الأدنى من المسالك الصحية التي لا تتطلب وسائل مادية. بل ما يطلب من البلديات أن تخصص فضاءات طبيعية في كل الأحياء وتؤمنها لاستدراج المواطنين من كل الأصناف لتعاطي الرياضة الطبيعية. ويمكن في بادئ الأمر أن يتم دعوة المواطنين الراغبين في تعاطي الأنشطة بهذه الفضاءات لدفع معلوم رمزي يساعد على تأمين الرياضيين وأمتعتهم على سبيل المثال.
ولكن العمل الأهم هو إنجاز فضاءات خاصة لكل أنواع الرياضات الفردية التي يرغب فيها الجمهور من قاعات تدريب جسماني وأيوروبيك و جمال الأجسام ومن ميادين للتنس وركوب الخيل ورماية وعدو والقائمة تطول. وكل هذه الرياضات وإن كانت في معظمها تتطلب إعتمادات مالية لكنها غير مستحيلة ولا يطلب من الدولة إلا مراقبتها فقط. ومن اليسير أن تشجع الشركات المالية والاقتصادية على بنائها وتوكيل إدارتها فتصبح مكمنا هاما لتشغيل الشباب من الذين يرغبون في إنشاء مشاريع رابحة يشغلون أصنافا عديدة من الشباب العاطل في مجالات التصرف المالي و التدريب البدني والحراسة والنظافة وبصفة غير مباشرة يدعمون الاقتصاد عندما يقتنون التجهيزات المادية التي تتطلبها الفضاءات الرياضية.
وخلاصة القول إن ما يجنيه المجتمع من فوائد جمة في الحياة اليومية للمواطنين تكمن بصفة أولية في التخفيض تدريجيا من حالة العطل الفكري والجسدي للفرد الذي تعبت قوائمه من الجلوس في المقاهي و التقليل من خمول جسمه جراء قلة الحركة والعمل وافتقاد عقله للتفكير والجهد والتعود على الاتكال ورغبة الربح السريع من وراء كل نشاط. وحالة المواطن التونسي أصبحت خطيرة في ظل غياب روح الجهد والعمل ولعل ممارسة الرياضة وتعويد الجسم على الحركة من شأنه أن يبعث حبه للحياة فيشمر عن ساعده ويسعى إلى العمل والبناء وتونس في أمس الحاجة الى هذه القيم. ولعل بهذا العمل نربي مجتمعا نشيطا ونبلغ به تدريجيا الى الكمال.
شارك رأيك