بقلم : عبد الكريم حميدة
أن تمارس الديمقراطية في أحط مستوياتها أفضل من انعدامها بالمرة، هذه الكلمة السحرية التي اندلعت من أجلها ثورات استشهد فيها المئات أو ربما الآلاف أو حتى عشرات الآلاف.
لماذا لا نكون واقعيين ونقبل بالقليل من الديمقراطية؟ فهي، اعني الديمقراطية، لا يمكن الحصول عليها دفعة واحدة، كما أن رجال السياسة والمسؤولين في السلطة بما هم جزء من الشعب قد نشؤوا في بيئة لا يمكنها أن تنتج رجالا ديمقراطيين. فمن غير المعقول ومن العجيب أن نتوقع من الفأرة أن تلد ديناصورا مثلا. اذن، اذا كانت الأمور تساس في بلادنا بالكذب والزور والخداع فهو أمر قد يكون مقبولا نظرا الى التاريخ والظروف والمعطيات. لم لا تسير الأمور على هذا النحو اذن؟ لم هذا السخط والتحامل على رجال السياسة ممن هم في السلطة أو خارجها، ولم يتفنن الناقدون في رميهم بأقذع النعوت وأقبح الأوصاف؟ لماذا ينتظر من هؤلاء أن يكونوا قدوة في القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة في مجتمع تسود فيه منذ عقود أشكال شتى من الكذب والنفاق والرياء والتملق والخداع؟ هم ليسوا أنبياء على كل حال ولن يقبلوا أبدا بأن يكونوا كذلك ويعرفوا المصير نفسه الذي عرفه سابقوهم.
لماذا يقف المرء منا حائرا مستغربا من هذا الكم الهائل من الكذب والغش والخداع الذي يمارسه الحكام والسياسيون لتحقيق أهدافهم؟ ولم هذا الاستغراب؟ أنحن أنظف منهم وأنقى؟ من منا لم يقع ضحية عملية خداع؟ من منا سلم من غش التاجر أو النجار أو الحداد أو البناء أو الخباز أو الجزار أو صاحب مطعم أو صاحب مقهى أو شركة من شركات المقاولات أو الدعاية أو الاتصال؟ كلنا خدعنا ذات مرة ولا نزال نخدع فالغش والخديعة مفصل معقد من مفاصل حياتنا التعيسة.
السياسة في بلادنا، أقولها بكل ألم وتوجع، بدائية رعوانية وأمراضها تعالج بالخيمياء والسحر والرقى. السياسيون من كبار المسؤولين في السلطة يخطئون لكنهم لا يحاسبون، هم لا يعتذرون حتى عن أخطائهم التي يذهب ضحيتها الملايين من الناس أو البلد بأسره. على العكس هم يفلتون من العقاب ويستأنفون أعمالهم المبتورة وكأن شيئا لم يحدث مثلهم مثل كبار اللصوص والمهربين يفلتون من القانون بما لهم من مال ونفوذ وضغط و احتيال فيبدو للمتابع كما لو أن ثمة تحالفا سريا بين هؤلاء وأولئك على حساب العامة من الفئات المتوسطة والضعيفة التي لاحول لها ولا قوة أمام عنجهية وغطرسة هذه المجموعات المتحالفة على النهب والسرقة والفساد والتهرب الجبائي.
لا أقول كلاما استثنائيا أو طريفا اذا قلت ان البلاد استشرى فيها فساد تحصد ثماره بدون شك حثالة من مصاصي الدماء وأشباه العباد تختبئ خلف متاريس الفوضى وجبن السياسة ولامبالاة العامة التي لا تملك حولا ولا قوة أمام هذا السوس الذي نخر جسد الوطن. لم يبق في البلد أسواق لتبيع الحياة لملايين المتساكنين الذين تاهوا في مربكات هذا الزمن الذي تحكمه شراذم من بائعي الذمم وسقط المتاع. لم يبق في البلاد الا سوق الكلام. فيض من الكلمات التي لا تشبع ولا تغني. خبراء وسماسرة ودهاقنة وبائعو هواء يستثمرون جوع العامة الذي بلغ درجات لا ينفع بعدها شيء سوى ضرب الرؤوس على الجدران أو اضرام النار في الأجسام. كلمات وخطابات ولغة تلحس بألسنة من زور ومكر ونفاق أسطح القضايا لتزيد قشرتها سمكا وصلابة، فتبقى جواهر الأمور مطمورة في غياهب المادة.
الفساد، كرة الثلج هذه، تتدحرج وتبدو للغبي الغافل أنها سائرة الى حتفها والجميع في أماكنهم يلغطون، يتابعون المشهد، ينتظرون بسلبية غريبة أن ترتطم هذه الكرة بصخرة صلدة فتهشمها ويتناثر حطامها في الطبيعة كما يحدث في الأفلام. هذه الكرة السوداء ستتضخم وتتضخم ولن يصيبها أي ضرر بل بالعكس ستصبح عملاقة لتشكل خطرا مبينا على البلاد والعباد ما لم يتم التصدي لها بشجاعة ورباطة جأش. قد ننجح وقد لا ننجح. لا التفاؤل ينفع هذه الأيام ولا التشاؤم سيضر بمئات الآلاف من النسمات التي نهشها الفقر والجوع والنسيان. ساد اللامعنى فتاه الجميع في سبل من ضروب شتى من التعاسة والشقاء. حياة بلا معنى شكلتها سنوات من ثقافة نشرت بين الناس جهلا وقيما فاسدة. المعنى صار ضالة في ظل تحالفات الأضداد وتعيينات الأنساب والقبول بشروط الأعداء . بات المعنى ضالة الا أنه لن يفي بالحاجة في ظل انعدام لغة تؤدي المعنى. الكل أو السواد الأعظم من الشعب الكريم يشعر بأنه ألقي في أجمة من غموض وعتمة أما من هم في السلطة فهم يسعون الى اطالة أمد هذا الغموض وهذه العتمة . هم يعتمدون دوما أو في أغلب الأحيان، عند تسييرهم لدواليب الدولة، على استغباء الجماهير وتضليلهم واخفاء الحقائق عنهم.
ليلنا، للأسف، سيطول ولن يسفر، عن قريب، عن صبح وضاء ينير طريقنا لأننا كائنات تحب الظلام، فمن فرط ما عشنا في الظلام ألفناه وصار النور يبهرنا… أن يعيش الانسان فريسة للخوف والجوع والتيه والحقارة والاستبلاه ليس هذا هو المعنى من الحياة. ثمة شيء آخر قد لا يظفر به الانسان وان هو في بحث دائم عنه. المستضعفون من عامة الناس يموتون في اليوم مرات ورغم ذلك فهم متشبثون بالحياة طمعا وأملا في ما تلقيه الصدفة أو الحظ في طريقهم المليء بالحفر والعراقيل. هو سعي حثيث خلف وهم أو سراب. هم يعيشون رغم هذا الكم الهائل من التعاسة و الخصاصة وضنك العيش. لا بديل لهم ولا خيار أمامهم فتكيفوا مع واقع لفظهم وحثالة من المحظوظين الأثرياء تحتقرهم وتتمنى لهم الفناء بعد أن تستولي على أصواتهم ليصفو لها الجو وتتبخر من أمامها تلك الكائنات الطفيلية التي تكدر صفو حياتها وتفسد عليها لحظات من سعادة مشتراة.
……………………………………………………
المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .
شارك رأيك